عني الكاتب الكبير الراحل »نعمان عاشور« بإبراز تحولات الواقع المصري وانعكاساتها علي تطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. كما رصد صعود الطبقة الوسطي وهبوطها. ولانجد في مسرحه فعلا دراميا له بداية ووسط ونهاية، بل نري مناخا عاما يقدم لنا اللوحة السياسية والاجتماعية بكل تعقيداتها وتنوعاتها وانحيازاتها الطبقية، حتي أصبح رائدا لفن الكوميديا الاجتماعية النقدية. بيد أن الرجل ألفي مصر أخري في عقد السبعينيات وما تلاه من عقود، غير تلك التي اغتبط بها وبشر في مسرحيته »الناس اللي تحت«، عبر عنها صراحة في مسرحيتيه »برج المدابغ« »6791« و»إثر حادث أليم« »5891«، وكتابه »المسرح والسياسة« عام 6891 بقوله: »ويأخذ رشاد رشدي وتلاميذه بزمام الأمور للحلول محل مسرح الستينيات في قطاعه العام، بمسرحيات تكتب للمناسبات السياسية الساداتية كالدعوة إلي السلام، ومقاومة الاتجاهات التقدمية، والترويج للانفتاح.. إلي آخر السياسات الرسمية التي لايمكن أن تنهض في ظلها أي حركة مسرحية ذات قيم وقوام...« فانطوي علي نفسه وجراحه، لكنه لم يفقد أمله في مصر حرة ديمقراطية وقد اخترت الحوار مع الكاتب الصحفي الكبير والناقد اللامع »لويس جريس«، نظرا إلي اهتماماته الأدبية والفنية اللافتة، فكتب مجموعتين قصصيتين: حب ومال.. وهذا يحدث الناس.. وترجم مسرحية »الثمن« لآرثر ميللر.. بالإضافة إلي أنه كان عضوا بلجنة القراءة بالمسرح 0891 - 5891.. وعضوا بلجنة الرقابة العليا علي المصنفات الفنية.. فضلا عن علاقاته الواسعة برواد الأدب والصحافة والفن وزواجه من الفنانة الكبيرة »سناء جميل«، مما أتاح له أن يعرف كثيرا، ويدرك تعقيدات الحياة الفكرية والفنية والسياسية المصرية، من هنا، جاءت فكرة هذا الحوار معه. كيف تعرفت إليه؟ ما الظروف والملابسات التي أتاحت هذا اللقاء وهيأته؟ سمعت عن »نعمان« قبل أن أتعرف إليه، وألتقي به. وكان يعمل في جريدة الجمهورية، ويكتب كثيرا. وقد سمعت عنه في عام 6591، عندما قدم له »المسرح الحر« مسرحيته الشهيرة »الناس اللي تحت«، ونجحت نجاحا منقطع النظير. غير أنني لم أستطع مشاهدتها برغم ما كتب عنها في الصحف، وتحمس النقاد لها، باعتبارها شهادة علي ميلاد كاتب مسرحي كبير. كنا نعرف المسرح قبل ذلك من خلال »علي أحمد باكثير« و»نجيب الريحاني« و»علي الكسار« ويوسف بيه وهبي« و»زكي طليمات«.. وكذلك من خلال الشعراء أمثال »خليل مطران« الذي ترجم »ليدي ماكبث« لشكسبير، وأمير الشعراء »أحمد شوقي« ومسرحيته »كليوباترا« وما بها من شعر جميل، و»عزيز باشا أباظة« ومسرحيته »العباسة« التي عرضت علي المسرح القومي وقام ببطولتها »أحمد علام وفردوس حسن«. وكنا حريصين علي متابعة مسرحيات »يوسف بيه وهبي« وما تقدمه الفرقة المصرية. وفجأة ظهر علي السطح في منتصف الخمسينيات »نعمان عاشور« الذي كتب مسرحية »الناس اللي تحت« فلفتت الأنظار، وسعد بها النقاد الذين تنبأوا له بمستقبل كبير في عالم المسرح الجديد. وقد كان »نعمان عاشور« في تلك الأيام قريبا من الفنانين الذين تخرجوا في المعهد العالي للفنون المسرحية، وكان »زكي طليمات« قد كوّن فرقة باسم »المسرح الحديث« من طلبة المعهد وطالباته في ذلك الوقت، وكان من أهم أعضائها »صلاح سرحان« وعدد كبير من الفتيات اللائي لمعن فيما بعد وفي مقدمتهن: »زهرة العلا« و»نعيمة وصفي« و»سناء جميل« و»سميحة أيوب« و»ملك الجمل« و»عايدة عبدالعزيز«.. ومن الرجال المعروفين علي الساحة الفنية: »حمدي غيث« و»نبيل الألفي« و»محمود عزمي« و»سعيد أبوبكر«.. وكان معهم لأول مرة فنان تشكيلي من كلية الفنون الجميلة هو »صلاح عبدالكريم« الذي كان يقوم بتصميم الديكور للمسرحيات التي يخرجها »نبيل الألفي« وأذكر أن الفنان الكبير سعيد أبوبكر« وكان يجلس إلي جواري ونحن نشاهد مسرحية »دون جوان« التي صمم لها الديكور »صلاح عبدالكريم«، قد قال لي: »شوف يالويس، أنا مخرج مسرحي وكوميديان، ولكن »نبيل الألفي« و»حمدي غيث« عادا بأفكار جديدة غيرنا احنا اللي كنا بنخرج بالأسلوب القديم«. وهو ما يذكرني حقيقة بما كان يدور في المسرح التقليدي الذي صنعه كل من »يوسف بيه وهبي« بشعبيته وجماهيريته وفرقته المسرحية »رمسيس« في بداية العشرينيات، وقبل ذلك فرقة »جورج أبيض« التي قدمت عددا كبيرا من المسرحيات القديمة من طراز »الملك لير« و»هنري الثامن« وسواهما من هنا، أستطيع أن أقول باطمئنان إن ظهور »نعمان عاشور« كان حدثا مسرحيا مهما عام 6591، وجاءت مسرحيته »الناس اللي تحت« لتنبيء بميلاد كاتب مسرحي حديث، وبجيل مسرحي جديد أيضا. فقد كان »المسرح الحر« يضم علي ما أذكر. »صلاح منصور« و»سعد أردش« و»عبدالحفيظ التطاوي« و»توفيق الدقن« و»إبراهيم سكر« وآخرين، وكلهم من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية. وكانت ثورة يوليو 2591 قد قامت، ولم يكن هناك اهتمام من جانبها بالمسرح. ومن ثم، كان المسرح الموجود أمامنا هو ما تقدمه الفرقة المصرية علي مسرح الأزبكية، ودار الأوبرا التي احترقت، وكانت لها مواسم في الشتاء والصيف والربيع، وهناك أوبرات تأتي من الخارج، كما كانت تقدم بعض المسرحيات المصرية. ولاننسي أن »جورج أبيض« قدم عليها أيضا بعض المسرحيات، وكذلك »جمعية أنصار التمثيل والسينما« التي رأسها »سليمان نجيب«. وقد لايعرف كثيرون من أبناء الأجيال التي ظهرت في الخمسينيات وما تلاها من عقود، أن »جمعية أنصار التمثيل والسينما« كانت تضم عددا كبيرا من الفنانين الذين قدموا للمسرح وللسينما أعمالا مهمة جدا، ففي عام 5191 مثلا قدمت مسرحية بعنوان »عزة بنت السلطان« قام ببطولتها شاب مسرحي يافع كان في الثانية والعشرين من عمره، ينتمي إلي عائلة كريمة تدعي »عائلة تيمور«، وقد قام والده »أحمد باشا تيمور« بدعوة السلطان »حسين كامل« لمشاهدة هذه المسرحية التي ما إن انتهت، حتي التفت إليه - أي إلي أحمد باشا تيمور - وقال له: ياباشا من امتي أبناء العائلات يشتغلوا أراجوزات. إذا ما كنتش تقدر تربيه، ابعتهولي بكره. وبالفعل، أرسله أبوه إلي السلطان »حسين كامل« الذي أصدر فرمانا بتعيينه في بلاطه. ومنذ ذلك التاريخ، وهناك من عائلة »تيمور« من يعمل في تشريفات القصر الملكي التي أصبحت بعد الثورة مراسم أو ياورانا في القصر الجمهوري. غير أن »محمد تيمور« لم يكن سعيدا بهذه الوظيفة، فانتابته الأمراض التي تمكنت منه لاسيما في السنوات الثلاث الأخيرة من عمره، فمات. لذلك أعد الشاب »محمد تيمور« أول شهيد للمسرح في مصر. فقد كان يحب المسرح ويعشقه، وعندما طرد منه، وأبعد عنه، أصابته الأمراض فمات. وهنا أود أن أقول: إن ما لايعلمه هذا الجيل أن »محمد تيمور« هو المؤلف الذي قدم مسرحية »العشرة الطيبة« التي وضع ألحانها »سيد درويش«، ومازلنا نسعد بتقديمها علي خشبة المسرح حتي اليوم. ذكرت لك كل هذا التاريخ، لأنني أردت أن تكون هناك فرشة مسرحية للزمن المسرحي الذي تم بناؤه في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. وهنا لابد من التوقف أمام اسمين تركا بصماتهما البارزة علي المسرح المصري: »يوسف وهبي« الذي صنع شعبية المسرح، و»زكي طليمات« الذي قدم المسرح المدرسي، وأسس المعهد العالي للفنون المسرحية، وخاض المعارك منذ عام 0391 دفاعا عنه، فلأول مرة، تقوم المظاهرات الاحتجاجية ضد هذا الفن، إثر افتتاح المعهد فأغلق حتي أعيد افتتاحه عام 6491 بمساعدة »د. محمد صلاح الدين« وزير خارجية الوفد. كما يدين المسرح بالفضل لاثنين من كبار الفنانين هما: »علي الكسار« بربري مصر الوحيد، و»نجيب الريحاني« الفيلسوف وأول ممثل كوميدي يجيد الكوميديا والتراجيديا في آن واحد، فقد كان المسرح المصري يعيش علي الفن الأوربي، حيث كان »بديع خيري« و»نجيب الريحاني« يقتبسان من مسرح »موليير« والمسرح الفرنسي، و»جورج أبيض« يقدم مسرحيات »شكسبير« بعد ترجمتها إلي العربية. وكان هناك مؤلفون يقدمون مسرحيات، ولكن لم تكن لها الشعبية التي تجعل مؤلفيها نجوما، وفي مقدمتهم »توفيق الحكيم«، لذلك أطلق علي مسرحه اسم »المسرح الذهني«. لكن »توفيق الحكيم« يعد أبا المسرح الحديث. هذا صحيح.. وقد قدم عديدا من المسرحيات التي جسدت علي المسرح القومي مثل أهل الكهف وشهر زاد وياطالع الشجرة، ونشر عددا من المسرحيات ذات الفصل الواحد كل أسبوع في جريدة »أخبار اليوم«، أطلق عليها اسم »مسرح المجتمع«، طبعت بعد ذلك في مجلد واحد.. لكن مسرحيات »توفيق الحكيم« لم تنجح شعبيا. عودة إلي »نعمان عاشور« ومسرحه.