مديرية العمل بأسوان تنظم ورشة حول حقوق العمال وواجباتهم وفقًا للقانون    ضوابط دخول امتحانات نهاية العام بجامعة الأزهر 2024 (قصة الشبشب)    وكيل الرياضة بالدقهلية تعقد اجتماعا موسعا مع مديري الإدارات الداخلية والفرعية    «المركزي»: البنوك إجازة يومي الأحد والاثنين بمناسبة عيد العمال وشم النسيم    كيف تحصل على دعم صندوق رعاية المبتكرين والنوابغ؟    رئيس الوزراء يستقبل نظيره البيلاروسي في مطار القاهرة    محلل سياسي: نتنياهو لا يذهب إلى عملية سلام بل يريد إبقاء السيطرة على غزة    الأمم المتحدة: تطهير غزة من الذخائر غير المنفجرة قد يستغرق 14 عامًا    السفارة الروسية: الدبابات الأمريكية والغربية تتحول «كومة خردة» على أيدي مقاتلينا    جلسة تحفيزية للاعبي الإسماعيلي قبل انطلاق المران استعدادا لمواجهة الأهلي    أنشيلوتي: ماضينا أمام البايرن جيد وقيمة ريال مدريد معروفة لدى الجميع    موعد مباراة الهلال والاتحاد والقنوات الناقلة لمباراة نهائي كأس الملك السعودي 2024    بسبب أولمبياد باريس.. مصر تشارك بمنتخب الناشئين في بطولة إفريقيا للسباحة للكبار    هل ستتأثر القاهرة بمنخفض السودان الموسمي؟.. يسبب أمطارا وعواصف ترابية    موعد تشغيل قطارات مطروح 2024.. تعرف على جدول التشغيل    وزيرة الثقافة: اختيار مصر ضيف شرف معرض أبو ظبي للكتاب يؤكد عمق الروابط بين البلدين    عبقرية شعب.. لماذا أصبح شم النسيم اليوم التالى لعيد القيامة؟    المحرصاوي يوجه الشكر لمؤسسة أبو العينين الخيرية لرعايتها مسابقة القرآن الكريم    تعرف على أفضل الأدعية والأعمال المستحبة خلال شهر شوال    جامعة قناة السويس تُطلق قافلة طبية لحي الجناين بمحافظة السويس    أحلى فطائر تقدميها لأطفالك.. البريوش الطري محشي بالشكولاتة    الهند.. مخاوف من انهيار جليدي جراء هطول أمطار غزيرة    العرض العالمي الأول ل فيلم 1420 في مسابقة مهرجان أفلام السعودية    إيرادات الأحد.. فيلم شقو يتصدر شباك التذاكر ب807 آلاف جنيه.. وفاصل من اللحظات اللذيذة ثانيا    مظاهرة لطلبة موريتانيا رفضا للعدوان الإسرائيلي على غزة    وكيل تعليم بني سويف يناقش الاستعداد لعقد امتحانات النقل والشهادة الإعدادية    الشيخ خالد الجندي: هذه أكبر نعمة يقابلها العبد من رحمة الله    خالد الجندى: "اللى بيصلى ويقرأ قرآن بيبان فى وجهه" (فيديو)    مصري بالكويت يعيد حقيبة بها مليون ونصف جنيه لصاحبها: «أمانة في رقبتي»    بشرى سارة ل الهلال قبل مواجهة الاتحاد في كأس خادم الحرمين الشريفين    رئيس «هيئة ضمان جودة التعليم»: ثقافة الجودة ليست موجودة ونحتاج آلية لتحديث المناهج    الاقتصاد العالمى.. و«شيخوخة» ألمانيا واليابان    بالتعاون مع المدارس.. ملتقى لتوظيف الخريجين ب تربية بنها في القليوبية (صور)    وزير الشباب يبحث مع سفير إسبانيا سُبل إنهاء إجراءات سفر لاعبي المشروعات القومية    انطلاق القافلة «السَّابعة» لبيت الزكاة والصدقات لإغاثة غزة تحت رعاية شيخ الأزهر    ردود أفعال واسعة بعد فوزه بالبوكر العربية.. باسم خندقجي: حين تكسر الكتابة قيود الأسر    فرقة ثقافة المحمودية تقدم عرض بنت القمر بمسرح النادي الاجتماعي    الإصابة قد تظهر بعد سنوات.. طبيب يكشف علاقة كورونا بالقاتل الثاني على مستوى العالم (فيديو)    لتطوير المترو.. «الوزير» يبحث إنشاء مصنعين في برج العرب    تأجيل محاكمة مضيفة طيران تونسية قتلت ابنتها بالتجمع    وزيرة الصحة يبحث مع نظيرته القطرية الجهود المشتركة لدعم الأشقاء الفلسطنيين    صحتك تهمنا .. حملة توعية ب جامعة عين شمس    وزير المالية: نتطلع لقيام بنك ستاندرد تشارترد بجذب المزيد من الاستثمارات إلى مصر    وزير التجارة : خطة لزيادة صادرات قطاع الرخام والجرانيت إلى مليار دولار سنوياً    بعد أنباء عن ارتباطها ومصطفى شعبان.. ما لا تعرفه عن هدى الناظر    رئيس جامعة أسيوط يعقد اجتماعا لمتابعة الخطة الإستراتيجية للجامعة 20242029    رئيس الوزراء الإسباني يعلن الاستمرار في منصبه    أمير الكويت يزور مصر غدًا.. والغانم: العلاقات بين البلدين نموذج يحتذي به    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    فانتازي يلا كورة.. دي بروين على رأس 5 لاعبين ارتفعت أسعارهم    رئيس جهاز حدائق العاصمة يتفقد وحدات "سكن لكل المصريين" ومشروعات المرافق    إصابة 3 أطفال في حادث انقلاب تروسيكل بأسيوط    مصطفى مدبولي: مصر قدمت أكثر من 85% من المساعدات لقطاع غزة    تراجع أسعار الذهب عالميا وسط تبدد أمال خفض الفائدة    حالة وفاة و16 مصاباً. أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين بصحراوي المنيا    شبانة: لهذه الأسباب.. الزمالك يحتاج للتتويج بالكونفدرالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قذائف موجهة إلي روح المقاومة
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 04 - 2011

ميناء بور سعيد فى الاربعينيات تحظي مدن القناة بمكانة خاصة في تاريخ مصر المعاصر، منذ أهلتها مواقعها لتجمعات سكانية علي خط القناة.
أن يكون خط الدفاع في كل الحروب التي خاضتها مصر، كما كانت المنطقة قديما بما فيها دمياط، خط المواجهة وحروب التحرر ضد الغزاة في التاريخ القديم والوسيط، وأصبحت أدبيات المقاومة جزءا أصيلا من تراث المنطقة وملمحا هاما من ملامح شخصيتها.
وأري أنه ربما لم تتعرض مدينة لأعداء الداخل بجانب أعداء الخارج مثل بورسعيد خلال السنوات الماضية منذ تحويلها إلي مدينة حرة في 76، باستهداف المدينة وكسر روح المقاومة فقد عمد إلي ذلك الرئيس المخلوع، ومن قبله المؤمن.
فعندما يصبح الأعداء هم الأصدقاء الحلفاء، تصير روح المقاومة أمرا مقلقا وبغيضا.
فبورسعيد التي كانت محط أنظار العالم في 56، ونقطة تحول في نضالات العالم الثالث؛ باتت مثارا للسخرية، ووصلت قمتها في ذلك الفيلم القبيح والسفيه عن شخصية أبي العربي رمزا للشخصية البورسعيدية، والسخرية من أبيه الشهيد، وذلك بعد محاولة الاغتيال المزعومة للرئيس المخلوع في بورسعيد.
وكما تلقت بورسعيد قذائف الاحتلال في 56 وفي 67 وفي 73، فقد استهدفتها منذ فترة الانفتاح قذائف التدمير ضد روح المقاومة وقذائف التطبيع، فليس مصادفة أن تكون بورسعيد مستهدفة بالتطبيع، حيث تم إنشاء مصانع ملابس للتصدير بالاشتراك مع إسرائيل وفقا لاتفاقية "الكويز".
وليست مصادفة أيضا تلك المحاولات التي تجري لإرجاع تمثال "دي لسبس" إلي مدخل القناة في نفس المكان الذي كان يحتله قبل أن يحطمه أبناء المدينة أثناء العدوان الثلاثي، لأنه كان يمثل رمزا من رموز الاحتلال، ونتيجة للدور الذي لعبته شركة قناة السويس تحت رئاسته في تجريف مصر والتمهيد لفترة الاحتلال، وكانت فرنسا وقتئذ إحدي دول العدوان.
وتأسست جمعية مشبوهة اسمها جمعية "أصدقاء دي لسبس" وطالبت بعودة التمثال، ومن المعروف أن "دي لسبس" قد توفي في السجن بعد حكم صدر ضده بالحبس مدة عشر سنوات نتيجة لما اقترفه من مخالفات جسيمة ارتكبها عندما حاول أن يكرر نفس تجربة قناة السويس عند حفر قناة بنما.
عدت إلي أستاذنا الراحل كامل زهيري لأسأله عن جمعية "أصدقاء دي لسبس" فأكد لي أن الفرنسيين المحترمين يعتبرونه نصابا دوليا، ثم قال لي: هل تتصورين- مثلا- أن يكون المصريون جمعية باسم نصاب؟!.
ففي الوقت الذي تجري فيه مثل هذه الجمعية المشبوهة نشاطا داخل مصر، استضافت مكتبة الإسكندرية ندوة لهم، في ذكري مرور قرن ونصف القرن علي حفر القناة وقد مرت دون أية إشادة أو اعتبار من أجهزة الإعلام الرسمي، رغم أهمية هذا الحدث العالمي الذي غير الكثير من مجريات الأمور في مصر والعالم، فإن قناة السويس ارتبط تاريخها بالحروب ضد المستعمر.
رياح البحر تهب علي بورسعيد
بدأت علاقتي ببورسعيد في أواخر السبعينيات بعد إنشاء المنطقة الحرة فتركت في نفسي انطباعا سيئا، لكنني غيرت رأيي بعد ذلك عندما تعرفت علي عدد من مثقفي المدينة، وكذلك معرفتي بفناني السمسمية، وبدأت أتردد علي المدينة بشكل منتظم وقمت بعمل دراسة سسيولوجية عن الشخصية البورسعيدية بعنوان "بورسعيد من المقاومة للانفتاح" وأيضا لاستلهام روايتي "أيام القبوطي".
وأذكر أنني في يوم 5 نوفمبر 1984 وأثناء وجودي في المدينة، طالعت خبرا في الصباح عن إجراء مناورة "رياح البحر" في بورسعيد، وهي مناورة عسكرية مصرية أمريكية مشتركة، وكانت الصحف قد أغفلت الإشارة إلي الخبر بعد رد الفعل الذي أجرته مناورة "النجم الساطع" قبلها بحوالي شهرين علي طريق مصر- إسكندرية الصحراوي.
وأتساءل: لكن لماذا 5 نوفمبر تحديدا في بورسعيد؟
يمثل ذلك اليوم احتفال بورسعيد بذكري شهدائها، الذين سقطوا في عدوان 56.
وهو اليوم الذي اقتحمت فيه قوات العدوان الثلاثي المدينة بعد سبعة أيام من الحصار والقصف بحرا وجوا، وكان الاقتحام بحريا، عندما تقدمت بوارج بريطانية ترفع العلم السوفيتي، فظن البعض أنها بوارج صديقة فخرج أهالي المدينة لاستقبالها وعندئذ فتحت النيران عليهم وسقط يومها أكثر من خمسة آلاف شهيد معظمهم من المدنيين، ونسف حي المناخ الواقع علي البحر وسوي بالأرض.
هل كان هذا اليوم مصادفة لإجراء مناورة "رياح البحر"؟
تلك مفارقة من المفارقات التي تواجه المتابع لمدينة بورسعيد، فمع تحويل المدينة إلي منطقة حرة زادت هذه المفارقة، فقد اتخذ هذا القرار دون تخطيط وفي غياب خطة تنمية يمكن أن يتم في إطارها، ودون تحديد هوية للمنطقة الحرة أو هدف لها، مما جعل المدينة موقعا للكسب والربح.
وبدأت حالة من التغيرات تجتاح المدينة وتتخلل بنيتها الاجتماعية والثقافية وفي هيكلة البني الاقتصادية.
كان السؤال الذي طرح نفسه هو: هل انتهت بورسعيد الانفتاح وبورسعيد المقاومة؟
كان ذلك في منتصف الثمانينيات بعد أن وصل الانفتاح في المدينة مداه ثم أخذ ينحسر بعدها.
هل كانت بورسعيد تمثل مؤشرا لمصر في عالم الانفتاح والمقاومة؟
كنت أحاول البحث إجابة للسؤال.
تحولات المدينة
تتميز بورسعيد بكونها حالة من التغير الدائم جغرافيا وتاريخيا، فقد لعبت الطبيعة دورها عند نشأتها، عندما اختفت أفرع النيل من حولها كالفرع البيلوزي والتنيسي والمنديسي، وغرقت مدينة تنيس بعد الفتح الإسلامي مكونة من حولها بحيرة المنزلة.
بورسعيد الحالية هي جزء من تنيس القديمة والفرما وبيلوز، وكما شهدت المدينة فترات ازدهار في تاريخها، شهدت أيضا فترات من تراجع، فقد كانت تقع في طريق قوافل الحج القادمة- عبر الساحل الإفريقي- التي كانت تتوقف فيها للراحة قبل استئناف الرحلة إلي الحجاز، قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، حيث كانت تتجه إلي دمياط ثم بورسعيد، وبعضها كانت تسلك طريق السويس إلي البحر الأحمر.
وبالإضافة إلي ذلك كانت تنيس تتميز بالصناعات والحرف المختلفة خاصة صناعة النسيج الموشي بخيوط من الذهب والفضة، وفيها كانت تصنع كسوة الكعبة الشريفة ثم ترسل إلي القاهرة في زفة المحمل قبل السفر إلي الأراضي الحجازية.
وشهدت هذه المدينة أيضا اضمحلالا وخاصة في فترات الحروب الصليبية فدكت قلاعها وانكمشت بعد غرق تنيس، وصارت شبه جزيرة حملت اسم جزيرة الطيور، وأصبحت مكانا للصيادين الباحثين عن الرزق بعيدا عن سطوة الكبار الذين سيطروا علي البحيرة.
بدايات المقاومة
مع قناة السويس يبدأ تاريخها الحديث، بتأسيس مدينة بورسعيد، والصورة التي تصلنا دائما عن عمال الحفر الذين سيقوا إلي الحفر كالعبيد لا حول لهم ولا قوة، دون أي تمرد أو هروب، فعند بداية تأسيس الشركة أعلنت أنها ستصرف أجور للعمال وكان العمل اختياريا، حتي نجح "دي لسبس" من خلال عقد الامتياز الثاني للشركة أن ينص فيه علي أن تقوم مصر بتوفير عمال الحفر.
ومن هنا بدأت الخديعة وأعمال السخرة، وحين شعر العمال بذلك بدأت عمليات التمرد والهروب الجماعي، وزاد الأمر سوءا بعد الاستعانة بالجنود في عمليات الحفر، حيث كانوا يقضون فترة إجبارية بعد انتهاء مدة خدمتهم العسكرية.
وقد أدي تفاقم الوضع وهروب العمال من مواقع الحفر إلي التوقف مما هدد مشروع القناة بالتوقف.
ألح "دي لسبس" علي الوالي سعيد بأن يرسل إليه القوات التي تساعده علي منع تمرد العمال، رفضت بعض هذه القيادات القيام بتلك المهام، فتولي الأمر أحد الضباط الأتراك ويدعي إسماعيل حمدي الذي سجل صفحة سوداء في تاريخ القناة حيث قام بقمع التمرد، والقبض علي رؤساء العمال وإيداعهم في السجن، بعد أن توسع في عقوبات الجلد مقابل أي تقصير في الأداء دون أن يراعي تلك الظروف التي كان يعيشها العمال ممثلة في نقص الغذاء ومياه الشرب وتفشي الأمراض والأوبئة.
كان "دي لسبس" قد قام باستقبال إسماعيل حمدي بنفسه، وسلمه العمل بمناطق الحفر، وكان هذا الرجل كثيرا ما يمتطي صهوة جواده ويتجول وسط العمال لمباشرة العمل، بل والإشراف علي جلد المقصر منهم، ثم تم تعيينه كأول محافظ لمديرية القناة بعد إنشائها، تقديرا لدوره.
طرح البحر وطرح مصر
بدأ توافد السكان علي بورسعيد بعد افتتاح القناة فقد وفرت فرص عمل لمن ضاقت بهم السبل، ومن ثم توسعت المدينة بعدها، وتحول الرديم المجلوب من الحفر علي شاطئ بحيرة المنزلة، وردم به جزء منها، ونشأ حي العرب، وبعدها توالي انسحاب البحر لنجد أمامنا ساحة رحبة سميت "طرح البحر".
بورسعيد هي طرح مصر من السكان، الذين أتوها من جميع بقاع مصر، خاصة من دمياط والمنصورة وقري جنوب الصعيد والنوبة، وغيرها.
انخرط معظمهم للعمل بمهن البحر المختلفة التي وصلت إلي 28 مهنة، والتحق بعضهم بالعمل في شركة القناة، واتجه آخرون للعمل بمهنة البمبوطية ومعناها في الأصل "boat man"، وهي مهنة غير تقليدية، تتراوح ما بين المهن الخدمية والحرفية والتجارية وغيرها من الأعمال التي يمكن أن يقوم بها العامل الواحد، ويتم عمل البمبوطية من خلال مجموعات، كل مجموعة منها تعمل في قارب، ويتم تقسيم العمل فيما بينهم بالتناوب، وهي مهنة تعتمد علي التعامل مع ركاب السفن المارة بقناة السويس.
ونتيجة للحراك السكاني تكونت داخل المدينة جموع من أبناء المنطقة الواحدة، لاستقبال القادمين الجدد من قراهم، وقامت بتوفير فرص العمل، وأخذت هذه الجماعات في التفاعل فيما بينها لتنتج مزيجا جديدا في مواجهة الواقع العام الذي تعيشه المدينة.
ولا شك أن العمل في البحر كان له أكبر تأثير علي شخصية المواطن البورسعيدي الذي جاء إلي المدينة رافضا واقع موطنه الأصلي، وراح يواجه البحر، من خلال علاقة توثقت عراها علي الرغم من أنه واجه فيها المجهول والخطر.
ومثل البحر في نفس الوقت مصدر رزقه، فاستغل مهاراته لاقتناصه في مهنة لا تتوافر لها عوامل الثبات النسبي، كما تفاعل مع الأجانب واستطاع التعامل معهم من خلال لغاتهم التي اكتسبها بفترة طبيعية ومهارة فائقة سميت ب(الملاغية).
النشاط الاقتصادي أيضا شمل وجود بعض الحرف والورش والمصانع الفقيرة وبعض الأعمال التجارية، وفي الخطة الخمسية الأولي 60- 65 أنشئ مصنع الغزل والنسيج وآخر لتجفيف البصل وتعبئة الشاي.
كان توافد الأجانب من جميع الجنسيات قد أدي لإنشاء جاليات إيطالية ويونانية وأرمينية ومالطية، وتم تقسيم المدينة إلي حيين: الإفرنجي والعربي.
وفي هذا الوقت كان محظورا علي المصريين دخول الحي الإفرنجي إلا لتأدية الخدمات لسكانه.
وعلي الرغم من ظهور طبقة من ميسوري الحال في المدينة، إلا أن النشاط الاقتصادي فيها لم يكن ليسمح للمصريين بتراكم زيادات كبيرة.
الثقافة البورسعيدية
تبلورت حركة ثقافية بين أبناء المدينة في خلال هذه الظروف لتأكيد الهوية في مواجهة الوجود الأجنبي، فحتي اسم "أبو العربي" الذي أصبح موضوعا لسخرية ممجوجة كان لتأكيد هذه المدينة في مواجهة الأجانب.
واسم "السيد العربي، و"السيد المصري"، من أشهر الأسماء المتداولة والمحببة في نفس كل مواطن بورسعيدي.
سارت الحركة الثقافية البورسعيدية في اتجاهين هما: حركة المثقفين داخل المدينة وارتبطت بإنشاء مؤسسات ثقافية في مواجهة الأجانب نظرا لوجود جاليات كثيرة تنافست فيما بينها لإظهار الطابع القومي وتحولت المنشآت الخاصة بالجاليات الأجنبية مثل الكنائس والمدارس والجمعيات والقنصليات إلي مراكز ثقافية، وأدي هذا إلي خلق دافع عند المصريين لتأكيد هويتهم، ومن هنا نشأ نادي المسرح ونادي رمسيس ونادي العمال ودور السينما والصحف والمكتبات ودور النشر، حملت كلها مضامين وتوجهات قومية وارتبطت هذه المؤسسات بالحركات الثقافية والفنية في مصر كلها.
أما الثقافة الشعبية المحلية فقد تبلورت بشكل أساسي في الغناء، الذي بدأ مع حفر القناة من خلال أغاني الضمة والسمسمية التي نسبت تاريخيا إلي عمال الحفر الذين كانوا يتغنون بها في أثناء العمل، حيث يقوم المغني بأداء مقطع بترتيب مع الجالسين في الحلقة، حتي أصبح الغناء ملمحا أساسيا وعملا إبداعيا توارثته الأجيال، وخرج من إطار الفرد إلي نطاق الجماعة كاستجابة للتفاعل فيما بينهم، في محاولة لتنشيط الذاكرة في مواجهة الظروف المحيطة بهم.
ثم جاءت السمسمية بعد ذلك لتطلق العنان لفنون إبداعية أخري من خلال الغناء الشعبي تعبر وتسجل تاريخ المدينة والأحداث التي مرت بها.
من هنا نري أن نشأة الثقافة في بورسعيد جعلتها دائما في حالة مواجهة دائمة مع الواقع.. في مواجهة الوجود الأجنبي والحروب، وأيضا أغاني العمل التي تستحث الهمم وتزيل المخاوف، فالبورسعيدي يثأر لنفسه بالأغنية، من هؤلاء الذين يعادونه أو يضعون العراقيل أمام سبل رزقه، فإن الثقافة البورسعيدية في ذلك تؤكد أنها ثقافة مقاومة.
بورسعيد 56
ظلت العلاقة بين الأجانب والمصريين كما هي بعد الثورة، وظل الوضع في المدينة كما هو بسبب هيمنة شركة القناة، ويعد قرار تأميم القناة ضرورة قرار لجلاء الاحتلال عن بورسعيد، والذي دفعت المدينة ثمنه غاليا، بعد أن تم حصارها واحتلالها وعزلها عن باقي مصر في أيام العدوان الأولي.
وعلي أثر ذلك تم تدريب نصف مليون مصري علي استخدام السلاح الذي تم توزيعه علي المدنيين لتبدأ مرحلة المقاومة، وشكلت جموع من المثقفين ورجال المخابرات والمتطوعين والصيادين والبمبوطية وجميع المهن مجموعات عمل تقوم بتهريب السلاح عبر بحيرة المنزلة إلي المدينة التي تم حصارها. وعلي الرغم من التفتيش الدوري علي البيوت استطاع الأهالي حماية الوافدين الذين كان معظمهم يدخلون بورسعيد لأول مرة.
أما البطولات الشعبية التي أظهرها الأهالي فلا يتسع المجال للحديث عنها، وبإيجاز ربما يخل بالكثير منها، فقد ظهر فدائيون من أبناء الشعب البسيط وقدموا بطولات فوق كل تصور، كل منهم له حكاية طويلة.. والأسماء عديدة نذكر منها: محمد مهران، الذي قاوم الاحتلال عند منطقة الجميل وكبده خسائر فادحة وحين سقط أخيرا نقلوه إلي قبرص وقاموا باقتلاع عينيه لأنه تسبب في إصابة ضابط كبير منهم، وسيد عسران، الذي قتل- وهو ابن السابعة عشرة- قائد المخابرات البريطانية الميجور ويليام من خلال قنبلة وضعها في رغيف خبز، وفتحية الأخرس، التي كانت تقوم بمساعدة المصابين والمرضي، والطفل نبيل منصور، الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وكان يقوم بإلقاء كرات اللهب المشتعلة علي معسكرات الإنجليز بمنطقة الجولف.
وهناك مجموعة فدائية أخري تشكلت وقامت باختطاف ضابط إنجليزي اسمه انطوني مورهاوس، ومنهم محمد حمد الله، وعلي زنجير، وحسين عثمان.
لم تكن معركة 56 معركة عسكرية فحسب، بل لجأت قوات العدوان الثلاثي إلي جميع الحيل والأساليب للنيل من معنويات الشعب وزعزعة ثقته بنفسه وقيادته.
لعبت الثقافة البورسعيدية دورا هاما في مواجهة ذلك من خلال المنشورات التي وزعت في جميع أنحاء المدينة، كما انطلق الإبداع الشعبي من خلال السمسمية التي لعبت دورا هاما في تعبئة وشحذ كل القوي لواجهة العدوان.
وصدح صوت الغناء مرددا:
إدين وبن جوريون وموليه
جايين يحاربونا علي إيه
هو القنال ده في أراضيهم
ولا احنا خدناه منهم
منطقة حرة لمن؟
قبل الحديث عن تحويل المدينة إلي منطقة حرة يجب التوقف أولا عند فترة التهجير التي امتدت من عام 67 إلي عام 74 التي تركت آثارا عميقة في البنية الاجتماعية ببورسعيد.
والنشاط الاقتصادي في بورسعيد يعتمد كلية علي البحر ويرتبط بمجالات أخري كالصناعة والزراعة والتجارة.
ومع تحويل المدينة إلي منطقة حرة، تغيرت الأوضاع، وظهرت مفارقات منها انحسار التعليم، وسادت حالة من التناقض داخل المدينة، وظهرت طبقة جديدة بينما تمسك أبناء بورسعيد بتراث المقاومة في مدينتهم، مثلوا النواة الصلبة التي تشكل الغالبية العظمي من أبناء المدينة الذين ضحوا من أجلها، بل كلهم يعيشون حياة بسيطة من كدهم.
انكمشت المؤسسات الثقافية في ظل الانفتاح وتحولت بعض دور السينما والمسرح إلي مخازن للتجار، وعلي الرغم من ذلك فملازالت هناك محاولات دءوبة لإنعاش جميع الانشطة في مجالات الأدب والمسرح.
ظهرت عشرات الفرق في مدن القناة من أشهرها فرقة أولاد الأرض بالسويس بقيادة الكابتن غزالي، وفرقة شباب النصر في بورسعيد بإشراف كامل عيد، وفرقة أولاد البحر التي كونها الفنان عبد الرحمن عرنوس، فضلا عن عشرات الفرق التي ظهرت في مواقع التهجير بكل أنحاء مصر.
إننا جميعا ندين لبورسعيد بالكثير مما قدمته لمصر، ففي الزمن الرديء تصبح المدن العظيمة هدفا يسعي للنيل منها صاحب كل نفس ضعيفة.
تري.. ما الذي يمكن أن نعوض به بورسعيد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.