دب عطل في كهرباء السجن، فجاء إلي مركز قيادة المجموعة ضابط من الشرطة العسكرية، وهو يلهث، طالبا أن تضاعف مجموعات الحراسة فورا، وقال إنه يخشي حدوث ما هو أسوأ من ذلك. هل يصل الأمر إلي التمرد؟ ان كل شيء ممكن الحدوث. علي أي حال، فقد أعطيت الأوامر بأن يقوم كل الجنود الذين يقضون وقت راحتهم في الخيام بوضع احزمة القتال، وبأخذ اسلحتهم، والذهاب جريا إلي السجن الذي يبعد نحو عشرين مترا فقط. فتحت بوابات الدخول الحديدية وصعد السائقون إلي الشاحنات- الصهاريج، وإلي سيارات القيادة وسيارات الجيب المركونة بالقرب من مركز القيادة، وتكدسوا جميعا في فناء السجن ذي التراب الممهد، بينما أخذ أحد الضباط مستعينا بأضواء كشافات السيارات، في إرشادها حتي تستطيع كل سيارة منها أن تتخذ لها مكانا داخل فناء السجن، اهتاج المعتقلون الذين كانوا يستعدون حينئذ للنوم، فقد جاء انقطاع الكهرباء في الوقت الذي تطفأ فيه الأنوار عادة، وأخذ المعتقلون، بعد أن أغشت عيونهم أضواء كشافات السيارات، يحاولون حماية وجوههم بالمناشف، بالأغطية أو بقطع الكرتون كذلك فقد تم تدعيم نقاط الحراسة الاربع المقامة في اركان السجن. وكان مقدم الشرطة العسكرية في أشد حالات الاضطراب: فهل سيكون مضطرا لإعطاء الأوامر باطلاق النار، إذا حاول المعتقلون ان يهجموا بجمعهم علي حاجز الاسلاك الشائكة، الذي يفصل »زنازينهم« عن الجناح الاداري للسجن، ان التعليمات تسمح بهذا، بل تفرضه اذا ما تجاوز المعتقلون ذلك الحاجز. كانت التعليمات المعطاة هي ألا يستخدم في البداية سوي الرصاص المطاطي، والقنابل المسيلة للدموع. بدا الوضع غريبا: فهناك مائتا معتقل محبوسون وراء ثلاث شبكات من الاسلاك الشائكة. وفي مواجهة عشرات من العسكريين المسلحين، في حين ان العسكريين هم الذين يعطون الانطباع بأنهم هم المحاصرون. قفز أحد ضباط المجموعة إلي سيارة جيب، متجها إلي القاعدة القريبة لكي يري اذا ما كان صندوق التحكم الرئيسي في التيار الكهربائي للمعسكر والسجن يعمل أم لا. اتصل بنا باللاسلكي بعد عدة دقائق. لكي يخبرنا بأن صندوق التحكم لايعمل، فبدا ضروريا أن يتم تشغيل مولد كهرباء الطواريء. أصبح السجن مع كشافات ومصابيح السيارات المحتشدة في الفناء، مضاء وكأننا في قلب النهار، وكانت محركات السيارات الدائرة بقوتها الكاملة. تصدر ضجة تصم الآذان، تلقت المجموعات كافةالتي خرجت في دوريات الليل أمرا بالعودة إلي المعسكر فأخذت السيارات الجيب التي ترفرف فوقها هوائيات اللاسلكي، تخترق واحدة بعد أخري حدود الظلام والاسلاك الشائكة، التي تفصلنا عن تهديدات الليل. وعن صياح أبناء آوي وعن كتل الجبال المظلمة، التي كانت تطبق علي الأفق المنظور. كان مولد كهرباء الطواريء لايعمل، فقد نفدت شحنة البطارية التي تشغله، وبدا واضحا أنه لم يتم فحصها منذ عدة أشهر، فتعالت صيحات الضباط الغاضبة. ولكي يتم تشغيل المولد كان ينبغي الحصول علي شحنة كهربائية لاتقل عن شحنة بطارية دبابة. ولكن كيف يمكن الحصول علي واحدة في مثل هذا الوقت وذلك المكان؟ أخذ قائد السجن يصرخ في تليفون المجموعة، فقد كان مصرا علي ان يرسل له فريق الصيانة في أسرع وقت ممكن. وكان الوقت قد قارب منتصف الليل، فأجابوه بمراوغة. أنه عندما يفرغ فريق الصيانة مما يقوم به فسوف يصل فورا إلي الموقع. كان فريق الصيانة، في تلك الليلة، مكلفا بالعمل في الكتيبة المنتشرة في الشمال من كتيبتنا. وكانت تلك الكتيبة تخوض عملية تأديب في قرية »اشكالية« وكان منوطا بفريق الصيانة أن يسد الابواب والنوافذ التي كان رماة الحجارة والزجاجات الحارقة يتسترون وراءها. انتهي الامر بالمعتقلين بأن استسلموا للنوم، علي الرغم من الإزعاج الشديد، الذي سببته لهم محركات السيارات الدائرة بكل قوتها، وعلي الرغم من الأضواء الساطعة التي كانت تسلطها علي »زنازينهم«. كشافات السيارات الواقفة في فناء السجن. وحوالي الثانية أو الثالثة صباحا كان التيار الكهربائي. قد جري إصلاحه أخيرا فعادت المجموعات المناوبة إلي أخذ أماكنها في السيارات الجيب. وتحركت الدوريات راجعة إلي ذلك البحر الواسع من الحجارة ومن عتمة الليل الاخذ في الانتهاء. والقي جنود المجموعة، المنهكون، بأنفسهم علي أسرتهم الميدانية حتي دون أن يخلعوا ملابسهم، وسرعان ما غرقوا في نوم عميق ثقيل. عند الفجر اندلع هياج آخر في المعسكر. فقد كان هذا يوم الزيارة للمعتقلين، حيث يصرح للعائلات بزيارتهم لمرة واحدة كل اسبوعين، راح عشرات من العجائز والنساء والاطفال، الذين وصلوا إلي المكان مع أول أضواء النهار، يتدافعون متلاصقين أمام الأسلاك الشائكة علي مدخل المعسكر. واندفعت اسئلتهم إلي الحارس الذي يقوم بنوبة الحراسة، فيما اخذوا يعرضون عليه بإلحاح أنواعا شتي من الاوراق والوثائق. وتداخلت اصواتهم: البعض يصيح مناديا علي أشخاص، والبعض الآخر يطالب بجرعة ماء، في حين يتساءل اخرون عن الساعة التي سوف يمكنهم فيها رؤية المعتقلين، وسرعان ما وصل قائد السجن إلي نقطة الحراسة الخارجية، وهو لايكاد يفيق بعد من النوم وبدا واضحا أن هناك خطأ ما قد وقع. فقد قال القائد أن الزوار أتوا متقدمين يوما عن موعدهم، ومن ثم فقد أعطي الأوامر بأن يرحلوا عائدين. وسرعان ما ارتسمت علي الوجوه مظاهر الحزن العميق، وراحوا يرجون القائد ويتوسلون إليه ويؤكدون له من جديد انهم لم يروا بعد آباءهم، واخذوا يطلبون مرة أخري ماء لكي يشربوا. ولما كان التجمهر هائلا ويصعب وصفه، فقد اضطر القائد إلي الاذعان، ووافق علي ان تتم الزيارة، ولكن بشرط ان يتم ذلك بصورة منظمة. وسرعان ما أقيم »مكتب« علي مدخل المعسكر، بالاستعانة بأربع دعامات وضع عليها غطاء قماشي، بحيث اصبحت كالخيمة، وبالداخل وضعت اريكتان خشبيتان وطاولة. وجلس ثلاثة أفراد من الشرطة العسكرية اضافة إلي مجندة، محاطين بكوم ضخم من الملفات، وبدا الزوار يتدافعون علي حاجز الاسلاك الشائكة الضعيف، فهددهم قائد السجن بأنه سيلغي كل شيء إن لم يتراجعوا عشرين مترا بعيدا عن »المكتب« فتدافع الحشد إلي الوراء، وأخذت اجراءات الزيارة تنتظم. بعد أن نوديت أسماء عشرة معتقلين، تقدمت عائلاتهم واحدة بعد أخري، حيث بدأ تفتيشهم: الرجال في ناحية والنساء في ناحية أخري. اذ ليس مسموحا للمعتقلين بأن يتلقوا شيئا من الخارج سوي الاطعمة ويتم احيانا التغاضي عن السجائر الا أنه يحظر، وبصرامة، وصول اية مطبوعات أو أوراق أو حتي مجرد الصور العائلية. اتجهت العائلات التي مرت بنقطة التفتيش نحو استحكام غريب التكون، فهناك سياجان من القضبان الحديدية مثبتان في الارض بواسطة أوتاد من الصلب، ومفصولان الواحد منهما عن الاخر بمسافة تقارب المتر بينما يمتد طولها إلي نحو عشرة أمتار. وفي تلك المسافة الموجودة بينهم، والتي كانت ارضيتها من التراب الممهد، هناك سلك شائك حلزوني يمتد علي طول السياجين. أن هذه هي »غرفة الاستقبال« وتسمح تلك الاستحكامات للأشخاص بأن يتبادلوا الحديث دون أن يستطيع أحدهم أن يلمس الآخر. وفي طرفي غرفة الاستقبال الحديدية هناك حارسان مدججان بالسلاح يتخذان مكانيهما، ينتبهان طيلة وقت الزيارة، الذي يبلغ عشرين دقيقة لكل مجموعة إلي أن عائلات المعتقلين لاتمرر لهم أي شيء من أعلي السياجين الحديديين. اتخذت المجموعة الأولي المكونة من عشر عائلات مكانها علي أحد جانبي الردهة الحديدية المستطيلة. ثم جيء بعشرة معتقلين تحت حراسة عدة أفراد من الشرطة العسكرية. واتخذ المعتقلون اماكنهم في الجانب الاخر من السياج، بعد أن عبروا ممرا متعرجا من الأسلاك الشائعة، كما لو كانوا وحوشا في سيرك.. وبدأت الزيارة. خمسون فما يصيح ويبكي ويتكلم في وقت واحد. وأخذت النساء اللاتي كن يرتدين أغطية رأس ريفية بيضاء يضغطن علي السياج الحديدي بكل اجسادهن وكأنهن يردن تقليص المسافة التي تفصلهن عن اولادهن وازواجهن، وكانت احداهن تحمل علي ذراعيها طفلا حديث الولادة، وكان رأس ذلك الطفل، الذي لاتزال عظامه هشة، تميل ناحية السلك الشائك وعلي الجانب الاخر كان الأب - الذي لايصل عمره إلي العشرين عاما - يكاد يلتهمه بعينيه بينما تشنجت يداه علي الحاجز الحديدي وكأنهما فقدتا الحياة. ولم تكن حقارة ذلك العرض تثير شيئا غير التقزز والرغبة في القيء. بعد أن تنتهي العشرون دقيقة المقررة، يقاد المعتقلون إلي »زنازينهم« بينما تنسحب العائلات إلي الخارج، حيث تقف هناك مجموعة أخري نافدة الصبر. ولاتتحرك تلك المجموعة نحو »غرفة الاستقبال« الا عندما يخطو إلي خارج حدود المعسكر آخر شخص من المجموعة السابق عليها. ويظل هذا التناوب المخيف مستمرا طيلة ثماني ساعات، تحت سياط الشمس اللاذعة من الثامنة صباحا وحتي الثانية بعد الظهر. عند مغيب الشمس كانت العائلات قد قفلت راجعة، بينما بقي رجل عجوز جالسا بلا حراك علي مدخل المعسكر. كان في الستينيات من عمره، تغطي رأسه كوفية بيضاء ويبدو وجهه الذي يتوسطه شارب أسود كثيف وكأنه قد نحت من جذع شجرة زيتون. كان ينتظر معتمدا علي عصاه الخشبية، فيما كانت عيناه الخضراوان اللتان تشع منهما صلابة الحجارة تتسمران في اتجاه السجن. قال العجوز إن لديه أوراقا صحيحة شكلا مضمونا تفيد أنه من المفترض اطلاق سراح ابنه المعتقل، وأضاف قائلا لحارس البوابة، الذي اتي ليتقاسم معه وجبته: »لقد امضي ابني مدة عقوبته ولقد حضرت لكي أصطحبه واخذه معي إلي المنزل« وقبل العجوز أن يشرب الماء ولكنه رفض أن يأكل من طعام الجندي. طوال أيام ثلاثة ظل العجوز جالسا علي حجر كبير، بينما يداه معتمدتان علي عصاه وعيناه متسمرتان علي السجن. وفي صباح اليوم الثالث كان قد اختفي. بعد أربع وعشرين ساعة وصلت الحافلات إلي المعسكر، فقد كان من المفترض ان يرحل المعتقلون إلي سجن كيتسعوت (انصار 3) الكبير الموجود في صحراء النقب، حيث بدأ فيه، منذ أسابيع، تجميع كل المعتقلين بأوامر ادارية من سكان الضفة الغربية وغزة ويقول العسكريون العائدون من هناك أنه يضم الان عدة آلاف تم تكديسهم في الخيام - الزنازين التي تحيط بها الاسلاك الشائكة. وتوجد بهذا السجن ممرات واسعة مثل الطرق الكبري، تمتد بصورة منتظمة ما بين »الزنازين« المختلفة. في حين تتناثر اللوحات الارشادية لكي توجه السير داخل هذا العالم - السجن الذي انبعث بشكل خيالي في قلب الصحراء. وحتي يتم تجنب أي »اضطرابات« فقد ابلغ المعتقلون بأنهم سوف يذهبون إلي محكمة عسكرية قريبة من أجل مراجعة ملفاتهم، وفي خلال عدة ساعات. كان قد تم اخلاء السجن. صعد المعتقلون، وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم واعينهم معصوبة، في مجموعات تضم كل منهما عشرة أفراد إلي حافلات استأجرها الجيش من احدي الشركات وبداخل كل حافلة كان هناك جنديان من الشرطة العسكرية. ونقلت إلي الحافلات صفائح مملوءة بالماء وصناديق من الكرتون مكتظة بالخبز والبيض المسلوق والجبن والفواكه، فلن تستغرق الرحلة أقل من خمس أو ست ساعات. وفي منتصف النهار تماما. كانت كافة الحافلات قد تحركت. كانت تخيم علي السجن الخالي المغطي بالقاذورات رائحة كريهة من البؤس البشري وبداخل الزنازين ووسط اكوام الورق وجدت بطاقات بريدية وخطابات لم يتم استكمال كتابتها، فقد كتب أحد المعتقلين علي قطعة صغيرة من الورق »أسرتي الحبيبة، تحياتي لكم جميعا. كيف أحوالكم؟ أرجو من الله أن تكونوا جميعا بخير بعون الله. أما عني فانني في صحة جيدة. وفقط ما يوحشني وينقصني هو وجوهكم الحبيبة إلي قلبي. أرجو توصيل سلامي إلي كل الذين يسألونكم عن اخباري. تحياتي الرقيقة إلي زوجتي أم نضال. التي ارجو ان تكون قد تعافت بعد أن وضعت حملها. وكيف حال ابنتي الصغيرة الاخيرة انتصار ارجو أن تبلغوا...« وكتب معتقل آخر علي عجل في ظهر احدي البطاقات البريدية التي كانت سلطات السجون توزعها علي المعتقلين بصورة رسمية عدة كلمات يبدو أنها موجهة إلي المعتقلين الجدد الذين سوف يؤتي بهم إلي ذلك السجن »إلي القادمين الجدد: لقد احضرونا من معتقل عتليت (في شمال اسرائيل) وعندما رحلنا من هناك قيل لنا إنهم سوف يأخذونا إلي »الفندق« ولكننا وصلنا إلي هنا. واليوم سيرحلوننا إلي السجن الصحراوي الكبير. ولكن شيئا من كل هذا لايخيفنا، لان المقاتل يستطيع أن يعيش في ظل أي ظروف«. فصل من كتاب»قمع الانتفاضة يوميات ضابط »إسرائيلي« تأليف: چاك بنيتو ترجمة: ضياء رشوان