45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 17 مايو 2024    مدفعية الاحتلال تستهدف محيط مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    طائرات الاحتلال تطلق النيران بشكل مكثف على مناطق متفرقة في مخيم جباليا    قلق في إسرائيل بعد إعلان أمريكا التخلي عنها.. ماذا يحدث؟    غدا.. بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني للشهادة الإعدادية في البحر الأحمر    استئناف الرحلات والأنشطة البحرية والغطس في الغردقة بعد تحسن الأحوال الجوية    «الأرصاد» تكشف طقس الأيام المقبلة.. موجة حارة وارتفاع درجات الحرارة    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    باسم سمرة يروج لفيلمه الجديد «اللعب مع العيال»: «انتظروني في عيد الاضحى»    دعاء تسهيل الامتحان.. «اللهم أجعل الصعب سهلا وافتح علينا فتوح العارفين»    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة.. نور بين الجمعتين    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    موعد مباراة ضمك والفيحاء في الدوري السعودي    عاجل - حالة الطقس اليوم.. الأرصاد تعلن تفاصيل درجات الحرارة في محافظة أسيوط والصغرى تصل ل22 درجة    «قضايا اغتصاب واعتداء».. بسمة وهبة تفضح «أوبر» بالصوت والصورة (فيديو)    بسبب زيادة حوادث الطرق.. الأبرياء يدفعون ثمن جرائم جنون السرعة    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    الاستخبارات العسكرية الروسية: الناتو قدم لأوكرانيا 800 دبابة وأكثر من 30 ألف مسيرة    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الجمعة 17 مايو 2024    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    لبلبة: عادل إمام أحلى إنسان في حياتي (فيديو)    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    وقوع زلازل عنيفة بدءا من اليوم: تستمر حتى 23 مايو    أضرار السكريات،على الأطفال    بعد قفزة مفاجئة.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالصاغة    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    من أجل بطاقة السوبر.. ماذا يحتاج برشلونة لضمان وصافة الدوري الإسباني؟    هل يشارك لاعب الزمالك في نهائي الكونفدرالية بعد وفاة والده؟    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    محافظ جنوب سيناء ووزيرة البيئة يوقعان بروتوكول أعمال تطوير مدخل منطقة أبو جالوم بنويبع    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    فصائل عراقية تعلن استهدف موقع إسرائيلي حيوي في إيلات بواسطة الطيران المسير    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    في خدمتك| تعرف على موعد تشغيل قطارات العلاوة الخاصة بعيد الأضحى المبارك    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يعتبر نفسه كاتبا مصرياً سودانياً نمساوياً بدون ترتيب:
الروائي طارق الطيب:الأدب ليس مباراة في كرة القدم
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 01 - 2011

عندما سافر طارق الطيّب إلي النمسا في بداية الثمانينيّات، لم يحمل معه إلا كتاب »ألف ليلة وليلة«، وأغنية أسمهان الشهيرة »ليالي الأنس في فيينا«، وبعض الذكريات الأليمة. وصل إلي المدينة الأوروبية في شهر يناير. لم تكن ملابسه صالحةً لبرد النمسا القارس. »ملابس قطنية لطيفة، لا تمنع تسرب البرد حتي النخاع«، كما يقول. وجد نفسه منزوعاً عن الأهل والأصدقاء، وكانت الكتابة حيلة يستعيدهم بها، ويبحث فيها عن الدفء المفتقد.
يمكن وصف صاحب » مدن بلا نخيل« (باكورته الروائية عن دار الجمل - 1992) بالكاتب »المتعدِّد«. هو مصري سوداني، يحمل الجنسيّة النمساوية، يكتب بالعربية والألمانية، وأحياناً الإنجليزية. يكتب الشعر، والقصة، والرواية، إضافةً إلي محاولات في الفن التشكيلي. وقبل عامين، اختير ليكون سفيراً ثقافياً للنمسا، ومنح وسام الجمهورية النمساوية تقديراً لأعماله في مجال الأدب. أمّا هو فيرفض أن يوصف بالمتعدد، ويفضّل أن يقال »المتنوّع«. فالتنوع يعني إضافات إيجابية، وطبقات راسخة تضاف إليها طبقات متجددة، ويتفاعل بعضها مع بعض بانسجام، فيما التعدّد يحمل معاني التشظّي. »لم يكن لي في كلّ هذا خيار. ولدت في القاهرة لأب سوداني ترك السودان من أجل فتاة جميلة، في السابعة عشرة، أحبّها بجنون. أمي أيضاً، تركيبة سودانية مصرية، ولدت في بورسعيد، وعاشت في القاهرة بين منيل الروضة، والحسينية، وكوبري القبة، حتي استقرت في عين شمس. جدَّتها من دمياط. نشأتُ في القاهرة، بين عين شمس مسكن العائلة، والحسينية مسكن جدتي لأمي، والعريش حيث عمل والدي في الجيش المصري حتي جاءت حرب 1967، فضاع البيت«.
بعد تخرجه، رفضت الجامعة أن يتقدم للحصول علي الماجستير، إذ أصبح بين ليلة وضحاها بحكم قوانين 1981 الجديدة طالباً غير مصري. هكذا قرر الهجرة. كانت التغريبة الأولي إلي العراق (أربيل)، حيث صار له مطعم كبير هناك، لا يأكل فيه الرواد، بل يشربون الشاي أو القهوة فقط. لكن بعد أشهر قليلة، عاد إلي القاهرة، هرباً من » أحداث خطرة «. بعد أيام قليلة، قرّر الهجرة إلي النمسا، حيث قبلته جامعة الاقتصاد. هناك درس التجارة » مجاناً «، يقول ويضيف ساخراً : »حتي إنّهم أعادوا لي تكلفة دراسة اللغة الألمانية في نهاية كل فصل دراسي، باعتباري من دول العالم الثالث، وذلك حتّي أتممت أطروحتي، وحصلت علي درجة الدكتوراه في فلسفة الاقتصاد والعلوم الاجتماعية «.
لكن، لماذا كانت »ألف ليلة وليلة« الكتاب الوحيد الذي حمله في سفره، تماماً كما فعل حمزة بطل روايته/ السيرة » بيت النخيل « (دار الحضارة للنشر 2006). يقول : »بطلي حمل معه كتابا يثق فيه، فقد أحبطته جميع الكتب. أراد أن ينسج علي منواله وبصوته حكاية عصرية تحقق له النجاة من سيف شهريار الشرق والغرب المتربص. الحكاية هي طريق النجاة. علي الأقل نجاة تاريخه الشخصي من الضياع والاندثار«. يضيف: الحكاية لكي تعيش تحتاج إلي "روح". هذه الروح منحها له الصوت الآخر، صوت غنائي رائق قديم يجلجل في فضاءات بعيدة، لم يدخل اعتباطا إلي النص وإنما من قصة حب أقدم لشخصية أخري هامة في الرواية. هذا الصوت الآخر لأسمهان كان يغني لمدينة اسمها فيينا، سيكون فيها بالفعل، في (بيت النخيل)، وستكون فيها ساندرا التي سيسافر إليها حمزة كل هذه المسافة لتسمع منه قصة لم يرغب أحد هناك سواء في موطنه الأصلي أو في بلاد رحلته الطويلة (مصر والسودان) أن ينصت إليها.
هكذا بدأت حكايته مع الكتابة الاحترافية. لكن قبل الاحتراف، كانت ثمّة محاولات أخري قبل السفر. » بداية الأدب جاءت عندي من باب « قلّة الأدب » بمعناها الدارج «، يقول ضاحكاً. »أحببت فتاةً حباً أخرجني عن شعوري، وحرّر مشاعري كلّها؛ فكتبت فيها شعراً. قدمت هذه الأشعار إلي أصدقائي باسم مستعار، فراقتهم كثيراً وطلبوا المزيد. توالت قصائدي أمام الأصدقاء الشغوفين بذاك الهيمان المستتر الذي هو أنا «. حفزته مكتبة والده، القارئ النهم، علي المطالعة في عمر مبكّر. » كان والدي يجلّد روايات »الهلال« في مجموعات، ويطبع علي كل مجلّد اسمه. فاعتقدت قبل دخولي المدرسة أنّ أبي أديب، وأنه ينبغي لي أن أصير مثله، وأتابع دربه مستقبلاً «.
في سنوات الجامعة كاد أن يصاب بنوع من الإحباط. » كنت أتخبط بين سماوات وأراض من دون تحليق مستمر أو هبوط سليم «. بدأ منذ ذلك الحين في كتابة مقالات نقدية عن أحواله النفسية، ورؤيته للبيئة المحيطة. » كنت أشعر بارتياح لا يضاهي بعد الانتهاء من كتابة موضوع ما. شعرت بتوازن كبير نتيجة هذه الكتابات المتكررة «.
الكتابة باعتبارها علاجاً واكبته بعد السفر. كانت النمسا موجعة بصدماتها. » صدمة مناخية أمام الصقيع. وصلت في الشتاء، وعشت في بيوت من الجليد، وعملت في الشارع عاماً ونصف عام. صدمة لغوية، أمام الألمانيّة التي لم أكن أفقه منها كلمة واحدة. وصدمة أكاديمية. فبعدما تعلمت الألمانية، وجدتها في الجامعة أكثر صرامة «. أمام هذه العزلة قرّر أن يستعيد الغائبين من الأهل والأصدقاء، فلجأ إلي الكتابة عن ربع قرن قاهري. »استرجعت الجميع علي الورق في حكايات وكتابات، إلي أن وجدت يوماً من يرغب في نشر كتاباتي، بل يمدحها، ويحثّني علي كتابة المزيد«.
قرأ بالمصادفة إعلاناً في مجلة » الاغتراب الأدبي « التي كانت تصدر من لندن، تطلب نشر قصص من يعيشون في أوروبا. أرسل أولي قصصه وكانت تحمل عنوان » المساومة «، فرحب صلاح نيازي رئيس تحرير المجلة بها، طالباً المزيد. كان ذلك في أواخر الثمانينيات. بعدها، كرّت السبحة، ونشر في » الأهرام »، ثم مجلة »إبداع«، والعديد من الدوريات والجرائد في الوطن العربي وأوروبا. » نشرتُ أولاً في ألمانيا ثمّ القاهرة بالعربية، ثم بعد ذلك بالألمانية في فيينا، فبرلين، وبعد ذلك ظهرت ترجمات لي في دول عديدة «.
ثم كانت مجموعته القصصية الأولي » الجمل لا يقف خلف إشارة حمراء « التي أرسلها إلي الطيب صالح ليقرأها ويكتب لها مقدمة. علي الهاتف قال له الطيب بصوته الأفريقي الدافئ : » من أنا لأكتب لك مقدمة لكتابك؟ « لكنه كتب بعدها المقدمة الجميلة بخطّ يده المميز، وما زال طارق الطيب يحتفظ بها. » الغريب أنه حدث مرتين في قراءات لي هنا في أوروبا، أن أتي البعض معتقداً أنني الطيّب صالح، وهم ممن قرأوا له من دون أن يروا له صورة. صحّحت لهم ظنّهم، وأخبرتهم أنّ الطيب صالح أكبر مني قدراً وعمراً«.
ولكن ماذا عن المجالات الأخري الفن التشكيلي والسينما؟ يجيب: " شاركت في أدوار صغيرة جدا في أفلام نمساوية وألمانية منذ سنوات كتجربة شيقة لي ربما خمسة أفلام أو ستة، مرة كطيار ومرة كرئيس جلسة في الأمم المتحدة ومرة كصديق إفريقي لبطل فيلم ومرة كجنرال افريقي فاسد يشتري أسلحة وهكذا...". ولكن ماذا عن مشاركته البطولة لمورجان فريدمان في فيلم يتناول قصة حياة هذا الممثل الأمريكي الشهير؟
يضحك الطيب: » تقول لي زميلاتي في الجامعة أنني أشبه مورجان فريمان إلي حد كبير، ويقول لي كثير من النمساويين والنمساويات أنني أشبه مورجان فريمان بصورة كبيرة جدا، وامتد هذا التصريح لأمكنة أخري زرتها في أوروبا، دائما أنا مورجان فريمان؛ لأنه بشكل آخر محبوب جدا في أوروبا وأميركا كممثل بارع ومثير. أنا أحب هذا الممثل جدا لكني أراه يشبه والدي أكثر مني في أول يوم من شهر أبريل الماضي كنت جالسا هادئا في بيتي في فيينا؛ ففكرت أن أمزح مع أصدقائي ممن يشبهونني بمورجان فريمان. بحثت عن صور له ووجدت الكثير وضاهيت هذه الصور بصور مشابهة لي، حيث صورني كثير من المصورين المحترفين هنا في النمسا أولا ثم في أميركا بشكل احترافي وجميل بعض هذه الصور نشر في مجلات وجرائد والبعض مازال في حوزتي. وضعت صوري المشابهة تماما لصور مورجان فريمان، في عرض متواز جميل: صورته وهو يبتسم مع صورتي وأنا أبتسم. صورته وهو يضحك صورتي وأنا أضحك. صورة بروفيل جانبية له، مثلها لي ، وهكذا، وأرسلت خبرا مازحا لكثيرمن أصدقائي وصديقاتي عن قيامي بفيلم عن حياة مورجان فريمان بمشاركته. فوجئت بالردود الجميلة والتهاني اللانهائية من أميركا وأوروبا واستراليا ناهيك عن عالمنا العربي. كنت أمزح في أول أبريل، لكن يبدو أن المزحة تلقاها البعض علي أنها خبر أكيد؛ حتي رئيس جامعتي دعاني قبل أسابيع ليحتفل بي بهدية قيمة بمناسبة تدريسي في الجامعة معهم لعشر سنوات، واعتقد جازما أنني سأشارك في هذا الفيلم المنتظر، ولما أعلمته بالمزحة ظل يضحك لخمس دقائق، قائلا إن هذه أجمل مزحة سمعها في سنواته الأخيرة
أما عن الرسم فهذه قصة مختلفة.. يشرحها: مثل فرعون صغير لطخت حوائط البيت برسوماتي، ولكن تعاملت مع رسوماتنا باعتبارها "عك"، ولكن عندما هاجرت إلي أوروبا بدأت في التنقل بين معارض الفن التشكيلي والمتاحف، وصادقت فنانين وفنانات، أصبحت زيارة المتحف والمعرض والكونسيرت والمسرح والسينما مثل زيارة المقهي أو التمشية في الشارع؛ فكل شيء متاح وكل الفنون متقاربة". ولكن ممارسة الرسم بشكل احترافي لم تكن تتكون سوي عندما تأخرت الفنانة الدنمراكية في الانتهاء من غلاف روايته الأولي، واقترحت زوجته أن يفعل ذلك بنفسه ، ولما سمعت مسئولة ثقافية من النمسا عن رسوماته اقترحت أن تقيم له معرضا .. :" أقمت بعض المعارض الصغيرة علي استحياء، لكني رفضت بيع أي لوحة وأكدت علي أنني كاتب في المقام الأول، وأمارس هوايتي في الرسم في المقام الأربعين.لا يمكن وصفي بالشمولية في الفن، بل هي مجرد هواية تمس الكثيرين بجنونها. لست أولهم ولا آخرهم. ربما يمثل هذا التجريب الفني بالنسبة لي تنفيسا عن قلق داخلي في شكل فني آخر يريحني أنا في المقام الأول".
روايته » بيت النخيل « أشبه بسيرة ذاتية. بطل الرواية حمزة لم يتصالح مع السدود التي واجهها في الغربة، بل كسرها. المصالحة من وجهة نظره، تعني التعايش، أو التنازل، أو الإجبار، أو الخنوع. »كسرت حاجز اللغة بتعلمها؛ بأخذها إلي ملعبي. كسرت حاجز المعاناة من الشتاء والبرودة بالعمل والكسب وتجهيز تدفئة منزلية وشراء ملابس شتوية مناسبة، اسمّيها دائماً وليس مجازاً : أسلحتي ضد الشتاء «. يبتسم قبل أن يوضح: »أستطيع الآن أن أمارس رياضة الحياة هنا في فيينا، بعدما تدربت عليها سنوات طويلة، وجمعت من الخبرات ما يؤهلني لمتابعة المباراة حتي الشوط الأخير«.
ولكن كيف كانت السدود ..وكيف استطاع كسرها كيف أثرت الغربة علي الحواس ؟ أسأله..ويجيب:" بدايتي في النمسا كانت مربكة لي علي صعيد معظم الحواس: السمع لم تعد له القيمة الكبري التي كانت. اختلت وظيفة السمع بسبب الرطانة الألمانية، لم أعد أفهم عبر هذه الحاسة أبسط المعلومات. النظر أصبح يقوم بمهمة أكبر من مهمته الاعتيادية. أصبحت أفسر ما يريدون قولة عبر حركة الأجسام والإيماءات النمساوية، ورغم ذلك ظل معظم فهمي خاطئا. اللمس كان يضيع مني في كثير من الأحيان، حين أضطر للبقاء في الشارع في درجات برودة تجاوزت الصفر بمراحل، وحين أتحرك لا أشعر بجسدي، كنت أحمّل عينيَّ عبئا جديدا لتنظر في طريق سيري وتحفظ الجسد المشلول من الخطأ. المذاق تغير بالطبع والشم أيضا، وروائح الأشياء القديمة قبعت في الذاكرة تنتظر أي تلويحة أو إشارة.
هنا أقول إن بيت النخيل في فصوله الأولي يحمل الكثير من شهوري الأولي في هذه المدينة، وفي الفصول التالية كثير من الحكايات التي نتشارك حمزة وأنا في خبرتها، هناك الكثير من خبرات حمزة التي لم أوردها في هذه الرواية وهناك خبرات أكثر من حياتي أنا لم تتناولها الكتابة بعد أو بالأصح لم تتهيأ لها. أما ما يتعلق بالرائحة فهي فكرة عابرة ومعبرة في الرواية؛ صحيح أنني حكيت في رواية بيت النخيل عن البيض الفاسد الذي يروح بعطر زجاجة اللوتس التي أحضرها حمزة من السودان أو أحضرتها أنا من مصر، لكن الزجاجة بقيت، نحتفظ بها لوقت الأزمات ضد الرائحة الفاسدة لنستنشق منها ما يعيد إلينا التوازن في فترات خلل الرائحة.
سؤال الهوية بعد هذه السنوات، والتجارب، والخبرات لا يشغله. ليس مهماً أن يكون مصرياً أو سودانياً أو نمسوياً. هو كلّ هؤلاء. فالهويّة برأيه كائن حيّ، يتغذّي ليعيش، ويتطوّر ليؤثر ويتأثر. ومن الضروري أن يتغير هذا الكائن.
يشرح بتفصيل فكرته: أعتبر نفسي كاتبا سودانيا مصريا نمساويا بدون ترتيب، وقد مثلت الكل في ملتقيات ومهرجانات أدبية حول العالم. أصحاب الأفق الضيق هم دائما ما يؤكدون علي فواصل وحواجز الجنسيات، لكن الأدب ليس مباراة في كرة القدم، وقد يؤكد البعض علي الجنس (رجل أو امرأة) أو علي الديانة، وقد يبحثون عن اختلافات مظهرية أو عرقية أخري وما أكثرها ولا يلتفتون إلي أي توافق أو اتفاق. البعض يظلون في بحث دائم مرهق لهم وليس لي، للوصول إلي صورة مسبقة في أذهانهم هم فقط عني، لكنها في النهاية ليست لي، لأنهم لا يرغبون في أن يتعرفوا عليَّ من خلال أعمالي بل من خلال ثرثرات المقاهي وكسل الأذهان.
سؤال الهوية إذا لا يشغلني علي الإطلاق عبر هذه العطفة الضيقة أو »الحارة السد«؛ فالهوية كائن حي يتبدل كل يوم لكل شخص بمقدار. تعلمي للغة الألمانية أثر بالتأكيد علي هويتي بإضافات مفيدة. تعاملي الأكاديمي مع الطلاب أفادني وغيّر من نظرتي لكثير من الأمور؛ فأنا غارق معهم في أبحاثهم وأفكارهم ورؤاهم. أسفاري المتعددة حول العالم غيرت الكثير من أفكاري المسبقة. حياتي في مدينة مثل فيينا لابد أن تؤثر علي تفكيري ويومي وحياتي. زوجتي النمساوية فرع آخر إضافي مهم للهوية، أضافت وتضيف لي من تراثها تاريخا إضافيا ومن ثقافتها لغة جديدة وفنونا رفيعة ومن عائلتها قرابة لا تنقطع وأتبادل معها التواصل نفسه.
كل يوم جديد يضيف لهويتي جديدا، يضيف وعيا وأفقا جديدا، إضافات أعتبرها إيجابية بقدر صدقي في التعامل معها وتقبلي لما يصلح لي دون أن أصير مسخا مقلدا للآخر أو متجمدا صارما يسير للآخرة رافضا الحياة.. يختتم الطيب بالتأكيد: "الهوية بيت كبير بحجرات لا حصر لها، إما أن تدخلها وستتأثر حتما بعد كل دخول وخروج، وإما أن تقبع في حجرة واحدة وتقنع نفسك بأنك أعلم وأفضل من الآخرين ببقية الحجرات، وإما أن تجلس خارج البيت علي "شلتة" وثيرة وتصف للناس وهما من ذهنك عن البيت وحجراته كأنك خير العالمين".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.