"أين أنا"؟ تبيّن بعناء وسط العتمة كتبًا معلّقة في الفراغ كأنها في حالة انعدام جاذبية، بأغلفة سميكة وورقية تتساقط منها أوراق صفراء مربّعة، كمطر خفيف. تذكّر لمّا رآها ما يفعله بكتبه الجامعية في فترة الامتحانات. يثني زاوية كلَّ صفحة تحتوي عبارة مهمّة في أعلاها، إن كان الكتاب يخصّه، ويدسّ ورقة في الصفحة المذكورة، إن كان قد استعاره من مكتبة الجامعة. تقدّم قليلا ليلتقط أحدها، فاصطدم بالكتب. أزاح بعضها وداس علي أخري ليتمكّن من تجاوزها. "أين أنا؟" ليس في مكتبة الجامعة، هذا أكيد. أمام عينيه ذهبٌ يومض، يختفي، ويعاود الظهور. اكتفي بالنظر وبتمرير أصابع كفه اليمني بين خصلات شعره... كلما نظر أحدهم إليه، سأله: "كم عمرك؟ 35، 36؟" فيبتسم هيثم ولا يجيب. خصلتان من الشعر الأبيض تقفزان به عشر سنوات إلي الأمام وتجعل له وجهًا وقورًا يتسّم بالنضج. جسده الذي لا يحوي عضلاتٍ ناتئة أو وزنًا زائدًا، يسهّل هذا الخلط العمريّ. بعض الشبّان يصلون إلي منتصف ثلاثينياتهم بوجوه وقورة غير لافتة، يصبحون أرباب عائلات، وينشغلون عن أجسادهم بأمور أكثر "أهمية". وشوشة هذه المرة، مع وميض أبيض. فجأة، غادرت عناوين الكتب أغلفتها، ثمَّ تشظت أحرفًا: المبادئ الرياضية لطبيعة الفلسفة، تفسير الأحلام، الحرب والسلام، سيرتي الذاتية، من أعوامي الأخيرة، المحاكمة... تبعتها أسماء كتّابها: السير إسحق نيوتن، سيغموند فرويد، ليو تولستوي، تشارلي شابلن، ألبرت آينشتين، فرانز كافكا... اخترق بعضها جسده العاري، متابعًا طيرانه قبل أن يذوب في العتمة. تذكَّر _ وسط هذا الهجوم- كيفية تنظيم عناوين الكتب في الجداول، أو علي الرفوف. لو كان في مكتبة يافث، لاعتقد أن مصدر الجمل هو نظام التشغيل في الكمبيوتر المصفرّ. فالطريقة التي خرجت بها وهاجمته بحسب الترتيب الأبجديّ، توحي بذلك.. فجأة، صار.. يمارس عمله! يفعل ذلك في نظام التشغيل وعلي الرفوف، لكن هنا؟ ألا يجدر به أولاً أن يعرف أين هو، قبل أن يتصرّف وكأنه في المكتبة، في يوم عمل عادي؟ في الزاوية المعزولة من المكتبة، أمام الكمبيوتر ذي الشاشة المصفرّة، يمضي نهاره: إنترنت وبضع إيميلات ونظام البحث المكتبيّ. إليه، يتقدّم قلّة من التلامذة الذين فشلوا في العثور علي بعض عناوين الكتب، علي الكمبيوترات الموضوعة في الباحة الرئيسية. أحيانًا، يزداد عددهم، فيأتونه بعناوين يسهل إيجادها لأي مستخدم مبتدئ، بسبب ازدحام الباحة وانشغال الكمبيوترات جميعها. مهمته في أي حال بسيطة: أن يعطيهم رمز الكتاب الذي يشي بمكان وضعه في الرفوف، في هذا الطابق، أو في طوابق أخري. رغم ذلك، لا يحفظ أيًّا من وجوههم ولا يتذكّر حتي المعتادين منهم. يُطرق في الورقة التي تحتوي طلبهم، ومن دون أن ينظر إليهم، يفتّش في نظام البحث، مدوّنًا الرمز قرب العنوان ومعيدًا إليهم أوراقهم. لِمَ لا يعمل علي حفظ ثلاثة وجوهٍ علي الأقل؟ هذا كافٍ لإنسان "طبيعي" اجتماعيًا. الأرجح أنه يملك شيئًا من خجلٍ يمنعه من الإغراق في العلاقات مع أناسٍ لا يعرفهم جيدًا. الأرجح أنه يكتفي بأمل وهاني. هل يتخّذ صورة العامل المُجدّ الذي يحاذر إضاعة وقته؟ لا. هذا افتراض يسهل شطبه عند الاقتراب من شاشة الكمبيوتر ورؤية عدد صفحات الانترنت المفتوحة والتي لا علاقة لها بالعمل المكتبيّ. هو يحاول أن يحلَّ كل شيء عبر البريد الالكترونيّ، بما فيه طلبات الطلاب الذين كلّفه الدكتور المشرف علي أطروحته الجامعية بمساعدتهم. هكذا يوفر له العمل المكتبي و"التنقيرات" الأخري مدخولاً شهريًا يكاد يكون ثابتًا. أما المنحة المالية التي حاز عليها من الجامعة بدعم من أستاذه، فتغطي نفقات دراساته العليا وأكثر. الطلاب الذين غالبًا ما يتهامسون بشأنه، فوجئوا أكثر من مرة بانفراج أساريره إذا ما زارته أمل أو هاني، منفردين أو معًا. فهذا الذي يطرق في أوراقه دافعًا إليهم بالمعلومة، من دون أن يرفع نظره، يبتسم! لا. بل إنه حتي يضحك! أما من رآه في عطلة نهاية الأسبوع، فقد تيقن من أنه يختلف كلّية عن ذاك الذي يتمشّي بالبنطال الأسود، في أروقة مكتبة يافث، في الجامعة الأميركية. فهو يتقصَّد أن يرتدي ملابس أكثر تحررًا وشبابية، في الأمكنة القليلة التي يرتادها خارج الجامعة، وإن كان دائمًا يحاذر أن يظهر ب"الشورت". "لديك ساقا دجاجة". تثب الجملة أمامه من صيفٍ بعيد. من قالها؟ ربما أحد الصبية. كبر هيثم. إلا أنّه احتفظ دائما بساقي الدجاجة، رغم كل تحولاته الجسمانية. عندما يزداد وزنه، تتكدس الكيلوغرامات في منطقة البطن. وعندما تبلغ الأمور حدودًا خطرة، تصعد الكيلوجرامات لتستقرّ في منطقة أعلي الصدر. أما الساقان، فتُبقيان علي نحولهما. لذا يلبس بنطالاً رياضيًا عندما يجري في الصباحات في شوارع بيروت. لذا يتفادي دعوات الذهاب إلي البحر مع أمل وهاني. هما لا يفهمان هذا الرفض المتكرر، وهو لا يشرح ويكتفي بالابتسام. قد يزورهما بثياب الرياضة، في مسبح السان جورج، فيفاجآن، ككل مرة، بحضوره. لكن لم يصل الأمر قط إلي حدّ النزول معهما إلي حوض السباحة. حدث ذات مرة، أن خلع هيثم قميصه القطني في المسبح. صفَّقت له أمل ضاحكةً، محتفيةً بالإنجاز غير المسبوق. وقدّمت له _ علي حسابها- بيرة ألمازة ميكسيكان، بملح رطب يزنّر مشرب الكأس. وقفت وقالت، مقلدةً مراسلي نشرات الأخبار: "أعزائي المشاهدين، عم نشهد اليوم حدث تاريخي فريد من نوعه". ضحك هيثم، وضحك هاني. لكن "الصبيّ" -كما تناديه أمل عادةً- لم يكمل استعراضه، إذ أبقي ساقيه مختبئتين داخل بنطاله. يومها، لوِّحت الشمس نصفه العلوي، وفشلت في الوصول إلي جزئه السفلي. ولم يحدث أن تكرّر ذلك الإنجاز مطلقًا. عاري الصدر، بالبوكسر فقط، وبساقيه النحيلتين نفسيهما، مشي بضع خطوات، مهتديًا بالكتب التي جعلت تتطاير أمامه كأنما كي ترشده إلي مكان ما. وعندما مدّ يديه يتلمّس طريقه، وقع علي ما ظنّ أنهما جدارين يحدّان ما يشبه رواقًا. خفّت العتمة قليلا، وتباطأ الوميض الأبيض مباعدًا بين فترات ظهوره، كأنه إلي اختفاء. شعر هيثم بثقل في رأسه وبآلام مبرحة في معظم أنحاء جسده، فتوقف منتظرًا حدوث شيء ما. خطرت له فكرة احتساب الوقت، لكنه لم يفعل. لا فائدة من معرفة تفصيل كهذا. المؤكد أنه لم يتحرك من مكانه لفترة: فقد صحا ثم نام، فتح عينيه ثم أغمضهما، ظهر له السقف بنشِّه الرطب ثم اختفي في الظلمة، وعاودت الكتب ظهورها ثم اختفاءها. أخذ شيء ما يلكزه في وجهه بوتيرة شبه دورية، لكنه لم يرفع يده ليحكّ موضع الوخز، لكأنّ الطاقة كانت تغادر جسدَه من أطرافه. بقي مستلقيًا علي السرير، منتظرًا استعادة قوة ما. حتي عندما غادرته حالة الانتقال ما بين النوم والصحو، لم يأتِ بحركة، بل بقي محدّقًا في بقعة الرطوبة في الأعلي. حاول أن يتذكر شيئًا مبهمًا، فعاوده شعور الانزعاج الذي بات يلازمه منذ وقت. استلزمه الأمر دقائق قبل أن يستعيد بعضًا من تركيزه. صار الألم أكثر تواترًا. تكرّرت لكزات في وجهه وجسمه، بفوارق بسيطة. رفع ساعديه الثقيلين بعناء إلي مقدمة رأسه. تغلغلت أصابع كفيه في خصلات شعره الرطبة. أحسّ للحظة كأنه كمش صداعه بيديه. أحكم سيطرته علي رأسه، كمن يحاول أن يلغي صداعه. ازدادت البقعةُ الرطبة في السقف اتساعًا، منذ انتقاله إلي هذه الغرفة الصغيرة. لكنها رست علي حجمها الأخير منذ فترة. رطوبة في السقف، ورطوبة في خصلات شعره: من أين يأتي كل هذا الماء الذي ينفر من جميع مسام جسده؟ اعتدل جالسًا علي طرف السرير. فعل ذلك ببطءِ من يخشي أن يكسر شيئًا، ثم ضمّ كفّيه مخفيًا وجهه وعينيه بعد أن شعر بالدوار الذي يصاحب الانتقال المفاجئ من وضعية الاستلقاء إلي وضعية الجلوس. بعد دقيقة، تمكّن أن يتميّز ما يراه. كان كل شيء في الغرفة علي حاله: بقعة الرطوبة في السقف، الثريا ذات اللمبات الصفراء الأربع التي تضيء ثلاث منها فقط، تشقّق الطلاء الأبيض علي الحيطان، خيوط بيت عنكبوت في الزاوية اليمني من سقف الغرفة المربّعة، الكنبة الخضراء في الزاوية اليسري من الغرفة بالخزق الذي يتوسّطها مظهرًا الإسفنج الأصفر تحت القماش، بابا المطبخ والحمام المجانبان الجراران إلي يمين السرير، البساط القماشي الرخيص بين السرير والطاولة التي يستخدمها مكتبًا، الكمبيوتر علي الطاولة / المكتب، الستارة التي تحجب الشباك المغلق والمطلّ علي شارع جانبيّ في منطقة الحمرا، خزانة الحائط علي يسار الغرفة قرب السرير مفتوحة وعند أسفلها فردتا حذاء مرميّتان بفوضي واضحة، باب المدخل الخشبي بني اللون في آخر الرواق القصير. لُزوجة ما علي كفي هيثم جعلته يرفعهما من جديد. هل أن ما رآه صحيح؟ أم أن الضوء الأصفر، متحالفًا مع دوار وصداع رأسه، تلاعب باللون السائل علي كفيه؟ أبعد أصابعه قليلاً. تفحصهما أكثر. هو لون أحمر، لا شك. هذا دمٌ وفتات تخثّر. أيكون قد نزف من أنفه كالعادة؟ نهض ببطء، متوجهًا إلي يمينه حيث باب الحمام. جرّ جسمه جرًّا. توقف لحظة عند العتبة، ثم دخل. اتكّأ بساعديه علي المغسلة. فتح الصنبور فاندفعت المياه منه. وجهه في المرآة، ويده علي مقبض الصنبور. أثر الكحول بادٍ في نظرته. رغم غرقه في النوم لساعات، لم تزل عيناه الغائرتان دليل سكره. عندما يسكر، تغوص عيناه في محجريْهما. لن تلفته الآن الشامة النافرة في كتفه الأيسر. كلما وقف أمام المرآة تفحّصها. أمسكها بأصبعيه، وتأكّد أنها لا تنفصل عن جسده ولا تنزف. ذات مرة، حلم بأن شاماته تكاثرت. تناسلت من شامة كتفه شاماتٌ أخذت تزحف علي سطح جسده العلويّ فغطته. شامات حمراء وبنية وسوداء، مسطّحة، بقّعت جذعه كلّه. وحدها شامة الكتف - أمّ الشامات - ، بقيت نافرة. تذكّر ذلك الخاطر الذي راوده في الحلم، وتذكر أيضًا أنه ضحك ساعتها، وأنه ضحك إثر استيقاظه، لأنه.. ضحك في الحلم! نظر هيثم إلي مرآة المغسلة، غير مكترثٍ بشامته. أراد أن يري مصدر الدم. ليس أنفه، وإنما جرحٌ في خده. بعد ساعات، سيتلوَّن الورم المحيط بجرحه، بالأصفر والبنفسجي. حاول أن يتحسّسه بأصابعه، فلكزه الألم. قرر أن يستحم لعلّه يطرد بقايا سكره. خلع البوكسر أرضًا، ثم دخل المغطس. بقي تحت رشاش الماء لدقائق، مسندًا يديه علي الجدار القريب. رغم دواره، رأي ماءً أحمر ينساب داخل البالوعة. غسل الماء جسده ولم يغسل عينيه الناعستين. بالغ في الشرب البارحة. يعرف ذلك، ولا يذكر التفاصيل. الذكري ضائعة، والصورة سوداء. كيف وصل إلي بيته ليلة أمس؟ خرج من الحمام عائدًا إلي سريره. أزاح الأغطية واندس تحتها متقوقعًا. لم يفكِّر في شيء. نام عاريًا، مبلولاً، حتي صبيحة اليوم التالي.