حين أراد ويليام بوروز إجراء أبحاث من أجل كتابه غداء عاري ، كان في باريس . قصد مباشرةً شارع دي بوشيري علي الضفّة اليسري ، عبر أبواب مكتبة شكسبير آند كومباني ، و اتجه في الحال إلي أرفف بائع الكُتب الأمريكي جورج وايتمان . هناك ألقي أكداساً و أكداسا من المجلّدات الطبيّة الضخمة ، جنباً إلي جنب مع كل النسخ الورقيّة المكتوبة باللغة الإنجليزيّة التي قد تريدها . كان بوروز قد غادر هذا العالم منذ فترة طويلة ، لكن شكسبير آند كومباني لا .لا تزال جاثمة بنفس البناية الحجريّة علي ضفّة السين ، يُطِل عليها النوتردام . و إن أراد ويلي ونكا (شخصيّة مُتخيّلة بفيلم شهير إنتاج عام 1971 ) اقتطاع وقت من طبخ الشيكولاته و افتتاح مكتبة ، فهذه ما ستبدو عليه . في شكسبير آند كومباني ، ما من ثمّة مساحة كافيّة للتخزين ، هنّا يتدّفق السيّاح لالتقاط الصور للمدخل الفوضوي بالكتب المكدّسة من الأرضيّة إلي السقف . ها هنا المكان ، علي أيّة حال ، حيثُ علق في الخمسينات شعراء الBeat ( مصطلح يصف مجموعة من الكُتّاب الأمريكيين الّذين برزوا في خمسينات القرن الماضي ، الظاهرة الثقافيّة التي كتبوا عنها و استلهموها . العناصر الجوهريّة بثقافة ال Beat تضمّ تجارب مع المخدرات و أشكال بديلة للجنس ، و اهتمام بالديانات الشرقيّة و رفض للماديّة ) ، و الأكثر حداثة ، حيث صوّر إيثان هاوك المشاهد الافتتاحيّة من الفيلم الرائج قبل الغروب . في الطابق العلوي ، أعلي درج متعرّج ، هناك كل ما يشتهيّه القارئ . حجرة مكتبة ، عامرة بتبرّعات لوايتمان من المجموعة الشخصيّة لسيمون دي بوفوار ، و مختارات انتقائيّة من كتبه الخاصة . حجرة تضمّ بيانو ( و مطفأة حريق) . حين زرت المكان لم يكن أغلب الزبائن يخجلون من العزف عليه ، رغم أنّ رجلاً شديد الحياء من ممارسة العزف ، عجز عن مقاومة الجلوس فوق كرس البيانو _ يحاكي العازفين عشر دقائق كاملة دون حتّي أن يلمس بأصابعه المفاتيح . في الخمسينات ، حجّ ألن جينسبرج ، ويليام بوروز ، و حشد من شعراء ال Beat إلي هنا ، إلي المنارة الأدبيّة للبوهيميّة و الفجور التي وعدت بوطن حرّ للكتّاب الرحّالة ، الطامحين للشهرة أو الشهيرين فعلاً . ترأس وايتمان مشروعه الخاص الحرّ مع لحيّة بارزة مثيرة للإعجاب ، و عين ناقدة و غالباً بسياسة باب مفتوح . منذ بدايتها ، مع ذلك ، كانت المكتبة التي تشبه المتاهة دائماً أكثر من مجرّد مكان لشراء رواية . كانت منزلاً مؤقّتاً للكتّاب المشرّدين و التائهين ممن تعثّروا بها و ناموا بين أرفف الكتب حين كانت المكتبة تُغلق ، و كتبوا و كتبوا حتّي خرجوا منها مرّة أخري . لقد أطلق عليهم جورج " أكوام أعشابه " . أراد أن يكون للناس مكانا يبقون فيه حين يجيئون إلي باريس ، أن يكون لهم نافذة علي الدنيا ، بيت من البيوت في مدينة غريبة ، حتّي و إن لم يكن في جيوبهم نقود .كان شعاره ،" أعطّ قدر ما تستطيع ، و خُذ قدر ما تحتاج " ، عقيدة ما صار يعرف بفندق كومة العشب ، فلسفة حياة كانت بمثل راديكاليتها آنذاك كما الآن . نتيجة لذلك ، استضافت شكسبير آند كومباني علي مدي عمرها مئات الآلاف من الزوار ، بعضهم بات ليلة ، مخيمين فوق الأرائك في المكتبة ، أو ناموا بالأسفل في محتّرف الكُتّاب ، و هي غرفة صغيرة بها آلة كاتبة و نافذة بلا ستائر تضاء ليلاً عبر النوتردام . آخرون بقوا شهوراً ، و ربّما حتّي سنوات ( واحد من الأعشاب الأسطوريين أفاد أنّه مكث سبع سنوات ). شرط جورج وايتمان الوحيد كان بحلول نهاية إقامة الزائر ، يجب أن يكتب قصّة حياته فوق صفحة و يرفق بها صورة له. لا تزال هذه السياسة قائمة . جورج الآن بالسادسة و التسعين _ يقرأ كتاباً كل أسبوع بدلاً من واحد يوميّاً كما كان حاله _ و لا يزال يتلّقي كل سيرة حياته بنفسه ، غالباً من سريره ، في شقّته بالطابق الثالث في المكتبة . يروي لي أنّ سيرتي "ضبابيّة بعض الشيء" و يشير للصفحة الممزقة التي استعملتها . " فوق ورقة خردة قديمة ؟ في العادة يستعمل الناس ورقاً أكثر أناقة " يقول ببعض الاشمئزاز ." الأيرلنديون عادة كتّاب مهرة " يضيف تاركاً عبارته مبهمة ، هل هذا إطراء أم مقارنة سلبيّة ؟. أثناء إقامتي القصيرة هناك ، ألفيت نفسي مصادفةً عالقةً في حجرة معيشة جورج أثناء غفوته . و قد تقاسمت الحجرة مع كلبه و هرّه ، متسمّرة في مكاني كي لا أوقظه ، كانت ثمّة وفرة من الوقت من أجل قراءة هادئة . ثمّة قوّة في مجموعة الكثير من قصص الغرباء و هي جنباً إلي جنب . كل صفحة جوهر مصفّي لحياة ، مع آلاف من الآمال و الأحلام و الطموحات التي يزدحم بها مجلّد أسود. مارجريت جيلرمان ، طالبة صبوحة الوجه من ميسوري ، تطل ابتسامتها من صورة جواز سفرها بالأبيض و الأسود . مولودة عام 1951 ، ووصلت هنا يوم 7 يوليو 1973 و غادرت بعدها بيومين .إيان بيكارد ، ملازم بالجيش البريطاني بالراين ، وصل بالسابع و العشرين من يوليو 1980 ، و مكث حتّي الثاني من أغسطس . ان في الثانية و العشرين . يكتب ،" يقلل أصدقائي من شأني بدعوتي بيكس ، و هو أمر طيب ... مع أنّه من حسن الحظّ أنّ المؤسسة الانجليزيّة كانت تحتضنني ، إلا أنّ ذلك لا يعني الآمال و المثالية التي تغمر الشباب قد فارقتني ...إنّ فلسفتي جدّ بسيطة : ثمّة أخطاء بالنظام ، و التغيير العميق و الدائم سيجيء من داخله فحسب ... لديّ شكوك . الجنديّة بوصفها مهنة كريهة أخلاقيّاً ، بوصفها وسيلة لكسب لقمة العيش ، مع ذلك تمثّل تحديّاً دائماً و ممتعاً ". الأمل المتضمن بالداخل دائم الحركة ، شديد الكونيّة و خارج الزمن ، إنّه لصدمة حين أتذكّر أنّ كثيرين من هؤلاء الناس ، كانوا آنذاك في مرحلة المراهقة و العشرينات ، و هم الآن في الستينات أو السبعينات ، ربّما لقي بعضهم حتفه الآن . أتحدّث بعدها مع ابنة وايتمان ، سيلفيا ، عن هذا . تقول ،" بلي ، كان أمراً فظيعاً حين حاولت تتبع هؤلاء الكتّاب و اكتشفت أنّ بعضهم لم يعد علي قيد الحياة " .سيلفيا ، التي انتقلت إلي انجلترا برفقة أمّها حين كانت في الخامسة ، كانت تدير المكتبة علي مدي السنوات التسع الأخيرة ، و هي مسئولة عن التأكّد أنّ كل قصص الحياة كانت مرتّبة ، منقذة إياهم من أكوام من الأوراق بين رسائل والدها الشخصيّة . الآجر و الملاط ليسا بالكثير عدا أنّها تحمل بعض آثار من كل الأرواح التي مرّت من هنا . تحتفظ شكسبير آند كومباني بقصص آلاف الحيوات ، بشكل آخر غير الأدب ، و جورج وايتمان ، مركز الدوّامة ، يحتفظ بتلك القصص علي قيد الحياة .