د.مبارك ربيع أحد المبدعين والنقاد المغاربة أصحاب البصمة المميزة التي تشهد عليها أعماله القصصية والروائية: سيدنا قدر، دم ودخان، الطيبون، رفقة السلاح والقمر، الريح الشتوية، بدر زمانه، وغيرها.. وهي الأعمال التي حصل بعضها علي جوائز مهمة مثل جائزتي محمد زفزاف، والسلطان قابوس للرواية، وهو أيضاً الأكاديمي البارز، المثقف الفاعل، الذي يؤمن بأهمية العمل العام.. التقيناه أثناء زيارته للقاهرة منذ أيام لنسأله عن بعض القضايا الساخنة المثارة الآن علي الساحة الثقافية بالمغرب. ما رأيك في الخلاف الذي نشب مؤخراً بين المثقفين المغاربة، ووزير الثقافة بنسالم حميش علي خلفية قيامه بإلغاء المكافآت الخاصة بالمحاضرات التي يتم إلقاؤها في معرض الدارالبيضاء، أو الإشاعات التي أكدت عمله علي عدم فوز محمد برادة بجائزة تمنحها وزارة الثقافة؟! أعتقد أنّ هناك أخطاء مورست و ما تزال تمارس في حق الثقافة والمثقفين المغاربة، من قبل المسئولين، علي مستويات عدة، وفي وزارة الثقافة بالذات، كما من جانب بعض المثقفين الفاعلين الأساسيين في هذا المجال، وما يجب أن يعلمه ويعمل به أي وزير، ووزير الثقافة علي الخصوص، هو أنه وزير في خدمة جميع المثقفين المغاربة، وفي صالح الثقافة بكافة مظاهرها وظواهرها، وليس وزيراً لصالح مجموعة أصدقاء أو فئة أو شلة أو حتي حزب، ولا هو لخدمة مجال معين من مجالات الثقافة، وبالمقابل فإن المثقفين بدورهم وبخاصة فئة معينة منهم، يجب أن يعلموا ويعملوا علي أساس أن وزارة الثقافة ليست مقصورة عليهم ولمصلحتهم دون سائر المثقفين؛ وهذا ما يجب العمل علي ضوئه باتفاق أو اختلاف، إذ لا مانع من ذلك إن لم نقل إنه ضروري، إنما في نطاق استراتيجيا ثقافية محددة واضحة معروفة ومعلن عنها. وبغض النظر عن أيّ موقف، فالأمر يتلخّص في أن وزير الثقافة أكد ما يفيد حصول سوء تفاهم، فهو من جهة لم يحذف شيئاً بقدر ما غيّر في الترتيبات رغم أن ظاهر الأمر كان يبدو خلاف ذلك. يمكن البداية من هذه النقطة، والنظر إلي المستقبل لكن باستراتيجية ثقافية حقيقية، فالمثقفون في المغرب هم الأقل نصيباً من بين زملائهم في بقية الأقطار العربية في الانتفاع بالاهتمام الثقافي وما يرتبط به من مزايا، وربما هذا هو مصدر الخيبة الكبيرة التي عبّرت عنها مواقف المثقفين الذين كانوا يتوقّعون ذلك من وزير أديب ومثقف وأستاذ جامعي، هو بنسالم حميش، فكان ما وقع صدمة عجّلت بتفجير أو إظهار -علي الأقل- ما كان مختبئاً، أو متحملاً بكيفية أو بأخري. ربما تكون هذه الإثارة أو الإشارة مناسبة للتنبيه إلي أن الوضع الثقافي في المغرب يخلو من استراتيجية محددة في معالمها الكبري علي الأقل، وفي مقاصدها. أقول إن هذا ضرورة، سواء كان الأمر متعلقاً بنوايا بنسالم حميش، أو الدولة، ففي رأيي إنّ وجود استراتيجية هو الضرورة القصوي، وإلا يبقي العمل الثقافي عملاً انتقائياً واحتفائياً مظهرياً دون تغيير عميق لا في مسار الثقافة، ولا في وضعية المثقفين، علماً بأن أية مؤسسة حكومية خاصة وزارة الثقافة في أي بلد ليست صانعة الثقافة بقدر ما هي مدبرة لفضاءاتها. وما رأيك في قرار بعضهم بمقاطعة أنشطة الوزارة؟! هناك أطراف معروفة تعبّر عن مقاطعتها لأنشطة وزارة الثقافة، وقد قلت إنّ الوزارة بدت كأنها هي من يصنع الحدث الذي يساعد علي نمو مثل هذه التوجهات. ومن باب حرية التفكير والتعبير فهؤلاء لهم الحق في ذلك، كما لغيرهم الحق في أن يعبّروا عن توجهات معاكسة لذلك، والمغرب بلد النقد والمعارضة بامتياز، فقد ظل المثقفون علي مدي نصف قرن تقريباً في موقع المعارض للأنشطة الرسمية للوزارة، جزئياً أو كلياً، وأنا أتحدث عن المؤسسات والأفراد، لكن ذلك لم يمنع الوزارة من المضي في إدارة الشئون الثقافية وفق رؤيتها الخاصة، وأيضاً لم يمنع الهيئات والأشخاص المعارضة جزئياً أو كلياً من المضي في طريقها الخاص الذي يتقاطع أحياناً مع الاتجاه الرسمي ويتعاكس في غالب الأحيان معه، وربما كان هذا الأمر انعكاساً لوضع سياسي ساء لفترة طويلة، فلا مانع اليوم من أن يتجلي المشهد الثقافي في المغرب علي نحو أكثر ديناميكية.. وربما يكون الحوار في الشأن الثقافي بجدية ومسئولية، سواء مع وزارة الثقافة أو مع المؤسسات الحكومية المسئولة علي أعلي مستوي من شأنه أن يساعد المجال الثقافي المغربي علي تجاوز كثير من المعوقات، والتي تشبه بركة شبه راكدة. وإذا كنا متفائلين ويجب أن نكون كذلك فإن علينا الاعتراف بأنّ الوضع العام الراهن في المغرب بما فيه الوضع السياسي بإيجابياته الآخذة في التراكم والتقدم لم يأت نتيجة العمل السياسي المحض.. بقدر ما كان ثمرة فعل تداخل السياسي مع الثقافي بوضوح وقوة، وبالتالي كان للمثقفين المغاربة، أفراداً ومؤسسات ثقافية، دور رئيسي في صنع الحاضر بلغتهم الثقافية الخاصة، وبالموقف المسئول إزاء واقع الوطن والمجتمع في المغرب منذ حقبة الاستقلال إلي اليوم وما قبلها. لذلك فمن حق الساحة الثقافية في المغرب أن تحظي بالاهتمام الضروري والذي لم يبلغ أي درجة تقارن بما أصبح عليه الحال في العديد من الدول العربية. وفي رأيك..كيف يمكن حل الخلاف؟! أظن أن الحوار -بغض النظر عمن هو في موقع المسئولية- من شأنه أن يعطي نتائج إيجابية يمكنها أن تلبي بعض المتطلبات.. وهذا لا يتنافي مع تعددية الأصوات والاتجاهات، بل يستلزمها، كما أننا أبعد ما نكون عن توجه يؤدي إلي "توحيد وتنميط" الآراء والمواقف، فكما أنّ التوجّه يحتمل الشأن السياسي العام، بل ويتطلب التعدد والتنوع، فإنّ الشأن الثقافي ليس منافياً بطبيعته لذلك إن لم يكن هو المجال الأوسع، والأرحب، للتعدد والتنوع والاختلاف، وإذا كان وضع المغرب بصفة عامة كان يميل إلي تجنب "التوجيه" و"الإرشاد" في مجال الثقافة، فهو لن يكون اليوم -في طموحه البعيد- مخالفاً لما كان عليه الأمر سابقاً، الاختلاف تتطلبه طبيعة المرحلة بالتزامات التي أثق أنّ من شأنها تقوية الشأن الثقافي، ليبقي "ملعباً" صالحاً لكل الفرقاء والفاعلين في نطاقه. ولماذا يبدو المغرب بلداً منعزلاً..لا نعرف منه إلا الأسماء الشهيرة فقط؟! يوجد سوء تواصل علي مستوي أطراف الثقافة العربية بما فيها المغرب، وبطبيعة الحال، وإذا استخدمنا المصطلح المتداول "المراكز الثقافية" والذي تمثل القاهرة نموذجاً منه، فإن حركة الاتصال بين الثقافة المغربية والشرقية مع الاعتذار عن هذا التعبير مرة أخري إنما يرتكز علي انتقائية مرتبطة بالصدفة، تتمثل في لقاءات هنا وهناك، لقاءات تقوم علي العلاقات الشخصية، والمؤسسية جزئياً، بمعني أنها لا تتخذ شكل حركة ثقافية. لذلك ليست الأسماء الجديدة والشبابية هي التي تبقي في منطقة الظّل _فقط- فحتي بعض الأسماء ذات القدم الراسخ في المجال الثقافي تبقي تقريباً علي المستوي نفسه، وينسحب هذا علي الإنتاج التابع لهذه الفئات، ونعني الكتابة والكِتاب.. فالأعمال الفكرية والإبداعية لمن نصفهم بالكبار تظل محدودة الانتشار لأسباب يمكن إجمالها في انعدام التواصل، ويمكن تفصيلها في كل مستلزمات الحركة الثقافية والتجارية ومختلف العمليات المرتبطة بذلك. المغرب أيضاً بلد مصدّر للتنظير.. إذا كنت تتفق معنا في هذا فما السبب في وجهة نظرك في تقدم النقد علي الإبداع؟! دعني أقول لك ما سبق أن سمعته من مبدعين مصريين، وأنا أنقل مضمونه ويتمثل في تساؤل المستنكر كيف يتقدم في الشهرة والانتشار المنظرون -بمن فيهم النقاد- علي المبدعين في الرواية والشعر بشكل عام. وبغض النظر عن هذا السؤال وأهميته وقيمته فإن الوقوف عند ظاهرة النقد وحدها وهي كما وصفتموها بالقوية والمتمكنة، والتي وصلت أيضاً إلي نقد النقد، ثقافة تستند لدي أصحابها إلي تراكم معرفي خصب، يجمع بين المكونات العربية الأصلية والثقافة الغربية في أحدث مظاهرها، وفي رأيي يمكن أن أجازف بأن أقول إنني شخصياً لا يرضيني ولا يطمئني ظاهرة اتساع الساحة النقدية بالمقارنة مع الساحة الإبداعية، لأن النقد تال للإبداع وتابع له بدون حكم قيمة، والعكس يكون أمراً غير طبيعي، وعلي كل حال يبدو أن هذه مرحلة في طريقنا إلي تجاوزها بمنطق التاريخ الأدبي الذي شهد أموراً مماثلة تغيّرت في النهاية، وربما يسهّل من هيمنتها الحالية أنّ وسائل النقد وممارسته تبدو لأول وهلة كأنها الأسهل باعتبارها صدي لقراءة ما تنتجه الساحة، لكن عندما يكون أمر النقد الأدبي والفكري أعمق من ذلك، وأكثر تجذراً في المهنية النقدية فإنه يتميز، وبالتالي يقتصر علي المجدين والمجددين في إطاره ويتخلص مما يبدو له مقوياً في الظاهر، وهو الارتكاز علي النظريات النقدية "الدرس النقدي" الذي يمثل شبه درع واق للناقد يقيه توهج الالتقاء المباشر مع النص، أقول إنها مرحلة تبدو بوادرها في سعة الظواهر الإبداعية فيما تحفل به الساحة الآن من غث وسمين، وفيما تعج به أيضاً من أنماط النقد، الغث والسمين كذلك، أي أنها مرحلة قد تفرز الجودة والامتياز وحدهما في مجال الإبداع كما في مجال النقد علي السواء. وكيف تنظر إلي مستقبل الكتابة المغربية الجديدة؟! أعتقد أن الحركة القوية للشباب والتي تتسع ساحتها باستمرار، قادرة علي خلق أنماط من الكتابة تمثل سلسلة التطور الطبيعي كما في كثير من المجالات، ويمكن أن نعزي الانتشار إلي سهولة وسائل النشر حالياً، الوسائل التي قللت من عوائق ظهور الكتاب وإن كانت في الوقت ذاته قللت من عدد النسخ المنشورة عكس ما كان عليه الأمر منذ عقدين أو ثلاثة. كانت العناوين أقل ولكن ما يطبع من نسخها أكبر بكثير مما هو عليه الحال الآن، وهو ما يحتاج إلي تفسير. ربما يكون السبب هيئات التوزيع، بدليل أن هذه الظاهرة المستفحلة التي تعني طباعة عدة مئات من الكتاب ليست شاملة لكل البلاد، تبدو المسألة مرتبطة بعدد القراء إلي حد ما لكنها غير مقنعة تماماً، ويبقي الرواج ليس للكتاب في ذاته بقدر ما هو للحركة الدائرة حوله والإعلاميين بالخصوص وأيضا بقدر ما هو مرتبط بموضوعات التابو المعروفة، الدين، الجنس، السياسي، وغير ذلك.