القدس. حلمٌ _ لغة. لغةٌ يمتزج فيها التاريخ بما قبله، وما بعده. يمتزج بالإنسان والواقع، نهايةً ولا نهاية. إنها التّراب والماء _ ولكَ أن تجبلَ ما تشاء / (...) ... "كلَّم الله موسي في أرض بيت المقدس، تابَ الله علي داود وسليمان في أرض بيت المقدس، رَدّ الله علي سليمان ملكه في بيت المقدس، بَشّر الله زكريّا بيحيي في بيت المقدس، سَخّر الله لداود الجبال والطّيرَ في بيت المقدس، تتغلَّب يأجوج علي الأرض كلّها غير بيت المقدس، ويهلكهم الله في أرض بيت المقدس، أُوتيت مريم عليها السّلام فاكهة الشتاء في الصّيف، وفاكهة الصّيف في الشّتاء في بيت المقدس، ولد عيسي عليه السّلام وتكلّم في المهد، في بيت المقدس، وأنزلت عليه المائدة في أرض بيت المقدس، ورفعه الله إلي السّماء من بيت المقدس، وينزل من السماء إلي الأرض في بيت المقدس. هاجر ابراهيم عليه السلام من كوثا إلي بيت المقدس، أُسْرِي بالنبيّ إلي بيت المقدس، تكون الهجرة في آخر الزّمان إلي بيت المقدس، يُنْصَبُ الصّراط علي جهنّم إلي الجَنّة ببيت المقدس، ينفخُ إسرافيل في الصُّور ببيت المقدس، والحوتُ الذي الأرضونَ علي ظهره: رأسهُ في مطلع الشّمس، وذنبَهُ بالمغرب، ووسطه تحت بيت المقدس، تخرب الأرضُ كلّها ويعمرُ بيت المقدس، أوّل بقعةٍ بُنِيت من الأرض كلّها موضع صخرةِ بيت المقدس. تظهر عين موسي في آخر الزّمان ببيت المقدس..." (...) (عن: قاضي القضاة، أبو اليمن القاضي، مجير الدين الحنبلي 068 _ 829ه في كتابه: الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل). ... إنّها القُدرة علي تحويل الحُوتِ إلي كناريٍّ، والبقَرةِ إلي مِنْجَلٍ للحصاد. ..." وبذلك الطّريق سارت قطعان عدَدٍ لا يُحصي من الزّعماء الكباش والنّعاج المسمّنة والخراف والحملان المجزوزة الصّوف والإوزّ البريّ والعجول المخصيّة المتوسّطة الحجم والأفراس المصدورة والعجول الجَمّاء والأغنام الطويلة الصّوف والحيوانات الاستيلاديّة..." (...) "وهناك أصوات وطْء أقدام وقَوْقأَة وجُؤَار وخُوار وثغاء وخرخرة ونخار وقَضم واجترار للخراف والخنازير والأَبْقار الحُبْلي (...) "... يحملون سعفَ النّخيل القيثارات السّيوف تيجان الغار (...) أصفاد فؤوس أشجار جسور أطفال في أحواض اغتسال أصداف مقصّات مفاتيح ثعابين بأجنحة ومخالب خنازير مصابيح ملاعق نجوم أفاعي سفادين علب فازلين أجراس عكّازات كلاليب قرون وعول صقور أحجار رحيً وحيد القرن (...) يرتّلون فاتحة القُدامَي التي تبدأ قومي استنيري يا أورشليم (...) ويقولون: كلّها تأتي من شَبا". (عن: جيمس جويس، يوليسيس، ترجمة: صلاح نيازي). ما هذا الرّأس الذي ينخلهُ الهذيان؟ ما هذا الجسم الذي تَنْخرُهُ مخالِبُ التوهّم؟ هل الإنسانُ هو نفسه خُرافَةُ الدّم واللّحم؟ هياكلُ عظميّةٌ، جماجمُ، أوردةٌ وشرايين، آذانٌ وعيون: أدواتٌ وآلاتٌ يحفظها الغبارُ في ثيابه وتحتَ وسائده. لكل أداةٍ ولكلّ آلةٍ أسنانٌ من الذّهَب، كمثل آياتٍ تَنْحتُ ذَهَبَ الكلام. لو كان الغبارُ يعرف أَنْ يقفَ علي قدميه، لكانت السّماء مجرَّد سِوَارٍ ضيّقٍ علي كاحله. ما لِلدّهشة تَفْتَرُ؟ ما للوقت يستسلمُ لِتَباريحه؟ إن كانت هناك أبديّةٌ فهي الثلجُ المعمِّر شقيقُ الغبار. وانظروا: علي كلّ عتَبةٍ، وفي كلّ مُفتَرقٍ مَيْتٌ يحَارُ فيه نعشه: هل تحملهُ الملائكة، أم أنّ عليه، هو، أن يحملَها؟ يا قدس، يا قدس! في عصركِ البرونزيّ، كانتِ التّفاحة امرأة. في عصركِ النفطي _ الالكترونيّ، صارت التُفّاحةُ قنبلةً: تحوّلٌ لا تتّجه فيه الصّواريخُ إلاّ نحو بيوت العُشّاق. عُشّاقٌ: بعضهم يحمل أوراقه ويمضي في اتّجاه عصر الحجَر، وبعضٌ يحمل أوراقَه ويضيع: يجهل أَنّي يمضي، وأين، وكيف يَتّجه؟ من بين أثداء الكواكب، يهرب ملائكة اليقين، ويجيئونَ إليكِ. يغتسلون بمائكِ، وينحنون لنخيلكِ. يشدّون السّماءَ من شعرها، ويقودونها إليكِ. تَنْسلِبُ السّماء من السّماء، وتُمسك حبالهم بعنق الأرض. توازنٌ ديموغرافيّ! أناسٌ يجيئون إلي القدس من أطراف العالم، أناسٌ ينبتون في طينها ومائها. ثلاثة وافدين مقابِلَ مقيمٍ واحد. المقيم يرحل، والوافد يقيم توازنٌ ديموغرافيّ! وليس هناك بابل ولا آشور. إنّه الهَدْمُ، هدم الحجَر والبشر. إنّها السّياسة _ مِعْماراً آخر. لا شَرْق في شرق القدس، والقُرَي حولها سديم. مُنْعزَلاتٌ تحفّ بها الشرطة من كلّ نوع. - وأين القانون الدولي؟ - لا يُقرّ ذلك. بل يعدّه جريمة. - ولماذا يظلّ صامِتاً. - لعلّه التّجاوُبُ مع "التّرحيل الصّامت". أو لعلّه الصَّدي. إنّها القدس تتشقَّق وتنهار _ الحوضُ المقدس الحوض التّاريخي، قديمُ المدينة، سفوح جبل الزيتون الغربيّة، سلوان وادي حلوة، حَيّ البستان، حي الشيخ مدّاح، وادي الربابة... إلخ، إلخ. إنْغَرسْ أيّها الوافد، انْقَلِعْ أيّها المقيم: تلك هِي اللاّزمة في موسيقي الله. والمجدُ لإسطبلات سليمان: اسْرَحي فيها كما تشائين، وحَمحِمي، يا خيول الملائكة! بَطْنُ المكان ينتفخ، والوقت يلتهم الأجنّةَ وأرحامَها. ما هذه الظّلال التي تجهلها الشَّمس، ما هذه الأجراسُ التي تنكر أصواتَها، ما هذا النَّرجسُ اللاّهوتيّ الذي يتمرأي في الغيم؟ بلي، بين الواقع واللّغة خنادِقُ لا تُرْدم، وأهلاً بكَ، أيّها اللاَّ شيء الملك. لا حياة في الحياةِ، يا مَرْيم، لا حياة إلاّ في الصُّورة، غداً، من سيُلقي عليكِ السَّلامَ، في هذه الظّلمات التي تتعانَقُ وتتآخي؟ رئة الكلام تَخْرجُ من قَفصِها الصَّدريّ، وبين جداريْن: البكاء والمبكي، يأتي ويذهب قطار التاريخ. لماذا، لماذا تكذبين أيّتها النّجوم؟ طرقٌ كمثل أخاديدَ في وجه المعني، تشقّها عرَباتُ الأباطرة. حولها بَشرٌ يَحتفون، حولها مِنصّاتٌ من الآلاتِ والبيارق، حولها أكفانٌ وحَفَّارونَ وقبورٌ. دَمُ الآلةِ يهدرُ، دم الطّفولة يتخثّر، عَلّمينا، أيّتها الأرضُ كيف نغسلُ هذه الصِّبْغة؟ هل سنظلّ إلي الأبَد، نُصْعَقُ ونُجَرُّ وراءَ جحافلِ أَنْسابِنا؟ "علي هذه الأرض ما يَستحقُّ الحياةَ"، يقولُ زرادشت بلسان نيتشه، أين هي، إذاً، مطرقةُ الحريّة؟ أين هو، إذاً، سندانُ العَقْل؟ كيف للإنسان، خالِق المعني، أن يكونَ مصيرُه مُرْتَسِماً في لفظةٍ؟ وكيف لروحه أن تنسكبَ في جدار؟ لم يعد أحدٌ يعرف إلا الاسم، كأنّ الأشياءَ غير موجودةٍ إلاّ لَفْظاً. القشرة تلتهم اللّبّ والغبارُ اسْمٌ آخر لِلغيب. وما أشدّ في هذا كلّه بؤسَ الإنسان: يَهبط في قارورةِ الأَنْتَ أنتَ، يَصعد في دخان لَبّيكَ لَبّيك. وها أنتِ، أورشليم _ القدسُ، تتزلّجين علي ثَلْج المَعْني وللسّماء فيكِ جِنٌّ وعفاريتُ يهيمنون علي محيطات اللّغة. من قَبْرٍ، مِن نَقْشٍ، من عشبةٍ لها شكل الثّديين، من طحلبٍ يتسلّق حائطاً رطباً، تنبعث رائحةً تتمازج فيها الرِّقَّةُ والرِّقُّ، وتطوف حوله الشياطين والملائكة في رقْصٍ كأنّه الموج. أنا، الفقيرَ إلي رغيفٍ، يلذّ لي أن أكون فيكِ الإعصارَ والزّلزلة، أَشهد فيكِ النّهاية واللانهايةَ في نَبْضٍ واحد، وأُشهد عليكِ الطّبيعةَ _ الطَّبْعَ والجِنْسَ والحَدْس.