"ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه ، وإنما إعطاؤه معنيً وقيمةً ، وجعله في النهاية لا يُنسي." هذه الكلمات للكاتبة الفرنسية آني إرنو، تحضر إلي الذهن فوراً أثناء قراءة كتاب "رحلة يوسف" للكاتب سامح فايز، الصادر حديثاً عن دار الكرمة، والذي ينطلق فيه من مرض ابنه يوسف الذي عاني من نقص الأكسجين قبل أيام من ولادته، ونتج عن هذا نزيف في المخ واستسقاء في الدماغ تسبب في شلل الوليد قبل وفاته وعمره أقل من شهرين. 54 يوماً قضاها والداه في الدهاليز المعتمة للمنظومة الصحية في مصر. في "رحلة يوسف" لا يسعي سامح فايز إلي طمس جرحه الشخصي أو علاجه، بقدر ما يطمح لمنحِه قيمة ومعني ولإخراجه من حيز الخاص إلي العام والجمعي. يبدو متوجساً مما قد يعتبره قارئا مفترضا تجربة بالغة الذاتية، وربما يكون هذا التوجس هو ما دفعه للغوص في آلام الآخرين المنسيين والمُهمَلين بقري الصعيد ليقدم لنا لمحة منها مضفورة بألمه الخاص. يكتب: "جميعنا رحل له أحباب، فما الذي سيميز "رحلة يوسف"؟ مات والدي وأحد لم ينتبه، مات يوسف وأحد لم ينتبه، ومات آخرون وأحد لم ينتبه، فلماذا علينا أن نسطر الموت في كتاب، نحكي فيه أوجاعنا؟ هذه جميعها تساؤلات سبقت مرحلة الكتابة، نعم أحتاج إلي عالم أكبر يعطي "رحلة يوسف" قدراً من الأهمية لدي القارئ." ويضيف أن بضعة شهور انقضت وهو يبحث عن حكاية، تجعل من قصة يوسف مسألة تهم القارئ، "حكاية تعكس المسألة من قضية أب فقد ولده، إلي قضية كل الآباء." هكذا بدأ سامح فايز رحلة بين قري الوجه القبلي ليلملم حكايات المتألمين والمرضي الفقراء، حكايات كان قد عاين طرفاً منها، أثناء رحلة ألمه الخاصة ومحاولاته لإنقاذ صغيره من براثن الموت، حيث كان شاهداً علي مَن يلجأون بمرضاهم إلي القاهرة بحثاً عن شفاء بعيد المنال، مَن كانوا يتحملون الإهانات ويقفون في طوابير بالساعات أو يبيتون علي الرصيف أمام المستشفيات علي أمل أن يتمكنوا من حجز دور بين قائمة لا نهائية من المرضي. في كتابه يكشف صاحب "جنة الإخوان" الكثير عن القطاع الطبي في مصر، عن مشكلات المستشفيات عامة وخاصة، وأخطاء الأطباء والإهمال الذي يودي بحياة المرضي، وما رصده في قري الصعيد المنسي، يعمِّق تفاصيل المشهد، فنري حيوات تذوي جهلاً وإهمالاً، ووحدات صحية تسبب المرض بدلاً من أن تعالجه، ومافيا تجارة الأدوية، حيث يبيع مرضي السرطان الفقراء الأدوية المصروفة لهم لمن سيبيعها لاحقاً - لآخرين بمبالغ فلكية، فقط لأنهم فقراء يائسون من العلاج ويرغبون في تأمين مستقبل أولادهم بثمن دواء هم في أشد الحاجة له. ما كتبه سامح فايز ليس "رحلة يوسف" ولا سيرة مرضه/ حياته القصيرة، بل سيرة الألم المصري، وتفاصيله التي تحيل الواقع إلي كابوس متصل.