بدأت إنجي أفلاطون حياتها منذ بداية عقد الأربعينيات في القرن الماضي، ولم تكن حسب مذكراتها، تعرف اللغة العربية جيدا، ولكنها تعلمت العربية علي يد الفنان كامل التلمساني، وبالتالي انخرطت في الحركة التشكيلية بكل طاقاتها. وبعد زمن طويل احتفي الفنانون التشكيليون بإنجي، وقدمتها الصحافة والوسط الثقافي في فترة الثمانينات علي أنها فنانة تشكيلية فقط، دون إبراز الجانب السياسي والنضالي في حياتها، هذا الجانب الذي عرّجت عليه بقوة في فترة من حياتها. كانت إنجي واحدة من أبرز الطلائع النسوية التي التحمت بالحركة الوطنية وانضمت للتنظيمات السرية ودفعت سنوات من عمرها في السجن ثمنا لنضالها. وشهادة عبد العظيم أنيس تشي بذلك:" لقد قضت إنجي أفلاطون سنوات السجن خلال المرحلة الناصرية كما قضينا، وعانت مثل ما عانينا/ لكنها ظلت علي تفاؤلها وحيويتها طوال تلك السنوات السبع ولجأت إلي فنها من جديد وهي في السجن تستعيد لوحاتها لحظات حية من أعماق الناس في السجون وظلال الطبيعة من نافذة الزنزانة"(1). إنجي الكاتبة تحكي إنجي عن علاقتها بالكتابة: " أليس من الغريب أني اتجهت إلي الكتابة في الوقت الذي لم أكن أستطيع الكتابة بسهولة باللغة العربية، لكن كان شعوري قويا بضرورة مخاطبة الناس بالكتابة لتوصيل آرائي إليهم في كل الأوقات. فالكتابة تأثيرها أسرع من الرسم وهي وسيلة مباشرة للإقناع" (2). لم تكن الكتيبات ونشرها الوسيلة الوحيدة لنشر آراء إنجي وتوصيلها للناس فقد أتيحت لها فرصة الكتابة في الصحافة عام 1950، فخصصت لها جريدة " المصري" التي كانت من أوسع الصحف انتشارا آنذاك عموداً تحت عنوان ثابت اختارته إنجي بنفسها وهو " المرأة نصف المجتمع"، وتطورت الأمور فصارت تحرر صفحة كاملة بدلا من العمود الواحد، ولكن تم إنهاء عملها في الجريدة عندما أثارت غضب وزير الداخلية فؤاد باشا سراج، وانتقلت إنجي لتكتب في مجلة " الكاتب" وهي مجلة أسبوعية أصدرتها لجنة السلام لتكون لسان حال رسالة السلام ودعوته وظلت تكتب فيها حتي تم إغلاقها بأمر السلطة بعد حريق القاهرة. كما أن إنجي كانت تكتب في جريدة " مصر المناضلة" والتي كان يصدرها مكتب الشئون الخارجية بالحزب الشيوعي المصري وهي جريدة تحرر وترسل وتوزع لكل من يهمه التعرف علي مواقف ووجهات نظر الحزب السياسية. بين عامي 1948 و1950 قدمت إنجي إنتاجها الفكري ورؤيتها النسوية والسياسية للرأي العام في ثلاثة كتب هي: 80 مليون امرأة معنا ( 1945)" الجمعية النسائية الوطنية. وكتب مقدمته " الدكتور طه حسين بك" القاهرة، مطبوعات دار الفجر ، 1948 . -" السلام والجلاء" كتب مقدمته " الأستاذ الدكتور عزيز فهمي"، القاهرة ، 1950 وقد رصدت إنجي في الكتاب الثاني واقع المرأة المصرية عند منتصف القرن الماضي فتقول في المقدمة: " اليوم يدور في مصر جدل عنيف حول حقوق المرأة بين فريقين رئيسيين: الفريق الذي يؤيد المساواة بين الرجل والمرأة في المجتمع، والفريق الذي يعارض هذه المساواة. وتحيط بكل من هذين الفريقين شيع تختلف بينها علي مدي التأييد أو مدي المعارضة " (3). والكتاب يتكون من ثلاثة أبواب الباب الأول يتناول دراسة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمرأة المصرية في المجتمع المصري، والباب الثاني يتناول تحرير المرأة من زاوية المرأة والإسلام ثم الأسباب الحقيقية لوضع المرأة في المجتمع المصري في الأربعينيات والخمسينيات، وأخيرا المبادئ الرئيسية لتحرير المرأة المصرية، الباب الثالث ويتناول تاريخ الحركة النسائية في مصر، وطرحت في الباب الثاني من الكتاب (الفصل الثالث) المبادئ الرئيسية لتحرير المرأة المصرية وتصدرتها عشرة مبادئ منها: تحريم تعدد الزوجات تحريما تاماً،تقييد حق الرجل المطلق في الطلاق والمساواة بين الزوجين في حق الطلاق علي ألا يستخدم هذا الحق إلا علي يد القاضي، وتحريم الزنا تحريما تاما علي الزوجين والمساواة في العقوبات بينهما،وتحريم ضرب الزوجة وإلغاء نظام الطاعة...إلخ ". وتعتبر هذه المبادئ الذي وضعتها إنجي بمثابة برنامج كامل عن حقوق المرأة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما زال الكثير منها لم يطبق إلي الآن. في عام 1950 أصدرت كتابها الثالث بعنوان " السلام...الجلاء" في محاولة للكشف عن عدم وجود تناقض بين الدعوة إلي السلم العالمي من ناحية، والدعوة إلي الكفاح بكل الوسائل ضد المحتل البريطاني بما في ذلك الكفاح المسلح من ناحية أخري. وتضمن الكتاب خمسة فصول منها : فظائع الحرب و فظائع القنبلة الذرية والنضال من أجل السلام . تلك المرحلة علي تأليف الكتب فقط ،بل إنها شاركت في الصحافة السياسية ،وفي مقال لها بعنوان مثير (الست الزعيمة تؤيد الاستعمار) " فوجئ الرأي العام بتصريحات غير مفهومة من الدكتورة درية شفيق فيها تضرع وبكاء وتسليم الأمر لله: وأرادت الزعيمة، أن تفسر تصرفاتها المتناقضة، فإذا بها تؤكد أن دورها في الحركة النسائية لم يعد حركة مسرحية فحسب، بل انتقل إلي خدمة أصدقائها الإنجليز والأمريكيين" (4). وفي مقال آخر في مجلة الكاتب للسلام والحرية (5)، تكتب انجي مقالاً بعنوان "أبراش وسل وتفتيش أجساد النساء"، يتحدث المقال عن الجرائم الرهيبة الدامية التي رواها المسجونون السياسيون في ساحة القضاء، وكذلك معاملة البوليس للمسجونات ووصفه ذلك بأنه وصمة عار في جبين الإنسانية ومخالفة صارخة لقوانين السجن ولوائحه. وتعود إنجي مرة أخري لتصوب سهامها تجاه المنظمات النسائية وتتساءل" ولكن اشتراك المرأة المصرية في هذه الحركة الوطنية كان مستقلا عن المنظمات النسائية القائمة التي بقيت في معزل عن النضال الوطني الشعبي"(6). وفي كتابتها تؤكد إنجي دائما أن تأخر المرأة المصرية وتعاستها هما حلقة من السياسة الاستعمارية المحرمة التي بدأت في 1 يونيو 1882 علي أيدي قطاع الطرق البريطانيين. " لذلك يجب أن يدرك الجميع أن رفع مستوي الأسرة المصرية رهن بالقضاء علي الاستغلال الاستعماري. وأن استقلال المرأة الاقتصادي رهن بازدياد والحاجة إلي الأيدي العاملة بتطوير الإنتاج وتخليصه من الاستعمار وأن تحرير المرأة سياسيا واجتماعيا رهن بتحقيق الديمقراطية الحقيقية والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات.. وهذا رهن بالقضاء علي مصدر المأساة ... الاستعمار الذي دنس وطننا بأقدامه الملوثة بالجريمة والضعة والعار في 11 يوليو 1882"(7). طريق إنجي إلي الفن والحرية تعلمت إنجي من التلمساني أكثر من دروس في الرسم ، تعلمت أن الرسم نافذة ساحرة علي الحياة وعلي مصر الحقيقية، نافذة علي المعني الحقيقي للفن... الرسم ليس إلا التعبير الصادق عن المجتمع والذات . " لقد رفع التلمساني عني حجراَ ثقيلا، أزاح من أمامي سداَ قوياَ كان يخنق تفكيري ويئد شعوري وكانت مفاجأة للتلمساني ... ما هذه الشحنة القوية من التمرد والرغبة العارمة الصادقة في التعبير بالرسم التي تتمكن من فتاة تنتمي إلي البرجوازية ؟"(8). وهكذا وضع التلمساني إنجي أفلاطون علي طريق أهم جماعة فنية (الفن والحرية ) التي ظهرت في الأربعينات والتي كانت لا تهتم بالفن وحسب بل تثير قضايا كبري في السياسة والفكر عموما إلي جانب قضايا الفن التشكيلي وكانت تضم نخبة من الفنانين والأدباء الطليعيين علي رأسهم رمسيس يونان وفؤاد كامل ومارسيل بياجيني ومحمود سعيد وألبير قصري وجورج حنين، وانتقلت إنجي بالرسم إلي الدخول في دائرة المثقفين المصريين وإلي قراءة الكتب الماركسية بالاطلاع علي المفاهيم الاشتراكية التي فتحت أمامها أبواب عالما كاملا لقضايا كبري ، قضايا الاستعمار والتحرير الوطني وقضايا الفقر والاستغلال الطبقي والاستغلال المزدوج للمرأة في المجتمعات الرأسمالية. وقد زاد حماسها واقتناعها بالاشتراكية العلمية تركيزها علي ارتباط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي. شغلت قضية المرأة مكانا أساسيا في تفكير إنجي ، فاتجهت إنجي للنوادي الرياضية والثقافية وجمعية الشبان المسيحية ودار الأبحاث العلمية وتعرفت منها علي شهدي عطية الشافعي وعبد المعبود الجيلي وكانا مسؤولين عن الدار وكانت إنجي من رواد الندوة الأسبوعية، التي تلقي في هذه الدار، وكانت تتردد علي أماكن كثيرة للمثقفين وفي دار البحاث العلمية تكونت أول لجنة نسائية انضم إليها عدد من الشابات المثقفات منهن سعاد بدير وثريا أدهم، ولطيفة الزيات، وفي منتصف عام 1945 أخذت إنجي زمام المبادرة وكانت معها لطيفة الزيات وفاطمة زكي وآسيا النمر وعنايات النيرلي، وكونت إنجي مع بعض زميلاتها الماركسيات جمعية شبابية ذات طابع ديموقراطي وأطلقوا عليها رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية . ووضعوا برنامجا وحددوا لها أهدافا ووجهوا نداء للفتيات والنساء في مصر للانضمام إلي الرابطة. كما وضعوا قسماً للرابطة " نحن نساء مصر نقسم قسماً مقدساً علي الكفاح المستمر بمختلف أشكاله حتي نقضي علي الرجعية والاستعمار قضاء تاماً، وحتي تعم بلادنا ديموقراطية حقيقية "(9). وهكذا هجرت انجي مجتمعها المخملي الارستقراطي وألقت بنفسها في الفضاء السياسي والثقافي وانحازت للفقراء وقضايا التحرر الوطني. كان أول نشاط هام تقوم به الرابطة هو قرارها بإرسال مندوبات عنها إلي أول مؤتمر نسائي عالمي يقام بعد الحرب وهو المؤتمر الذي افتتح في باريس يوم 26 نوفمبر عام1945 . تجربة إنجي مع السجن كانت تجربة السجن في حياة إنجي قاسما مشتركا بين فن الرسم والكتابة ،وفي مذكراتها تروي بعضا من تجربتها في السجن قائلة : "هربت حيث أحسست أنهم ينوون القبض علينا ، وتنكرت لمدة ثلاثة أشهر ونصف في ملابس فلاحة وكان زوجي قد توفي فكنت وحيدة حتي تم القبض عليّ واعتقالي في سجن القناطر ..... فترة السجن كانت فترة نضوج فني وإنساني وفكري .... بعد ثلاثة أو أربعة أشهر بدأت أحس أني أريد الرسم وكان ذلك ممنوعاً ولكني استطعت التفاهم مع مأمور السجن حينذاك وكنت قد فزت بالجائزة الأولي من وزارة الثقافة عن لوحة المسابقة قبل الهروب والسجن فعزز ذلك موقفي ، ثم أخذت حق الرسم وكنت الوحيدة التي يسمح لها بالخروج إلي الحوش للرسم"(10). "في السجن أحسست بقاع المجتمع .... أجلس مع المسجونات أتحدث وأسمع منهن قصصاً ومآسي فظيعة، أحسست أن السجن فرصة كاملة لأعرف بلدي أكثر وأدخل في أعماق الناس كنت أريد أن أعبر عن كل ما شاهدته في السجن لكن اللوحات كانت تمر علي المأمور وعلي مصلحة السجون والمباحث وذات مرة صودرت لوحة وكانت هذه هي المشكلة التي إضطرتني إلي تهريب اللوحات من السجن"(11). ماذا رسمت إنجي في السجن "رسمت بورتريهات، ورسمت القلوع التي كانت تبدو وراء القضبان من بعيد فكنت أري الشراع كأنه يسير داخل السجن وسبب لي هذا جنوناً لأن الشراع كان يتحرك ونحن ساكنون في أماكننا. كنت أصعد إلي سطح السجن لأري الشراع وأرسم إلي حد أن المسجونات كن يتحمسن لي كثيراً وينادونني حين يرين شراعاً في الأفق"(12). ومن أبرز أعمال إنجي في السجن " طابور الحمام، استلام الجراية، الطفل والبرتقالة، عنبر السياسات، زهور خلف القضبان، بنت القنصل، وعندما عرضت هذه اللوحات في المعرض الشامل لإنجي (1942-1985) كتب لويس عوض " طفت ساعة بين جحيم دانني والمطهر حتي وقعت علي مشارف الفردوس التي أرجو أن أدخله قريبا بفن إنجي أفلاطون. فبعد مرحلة السريالية التقليدية في أوائل الأربعينات كانت هناك تلك المجموعة الخطيرة المستوحاة من سجن النساء في القناطر وهي في نظري من أروع ما سجله الفنان في مصر"(13). أما الفنان عز الدين نجيب فيخبرنا عن إنجي " تعلمت بالسجن أكثر مما تعلمته خارجه، ومارست حريتها وهي بداخله بطريقة فذة... راحت ترسم الحيوات السفلية الزاخرة بالمعاناة والخطيئة والخوف والمجهول والتمرد والقهر والشهوات المدفونة والصبوات المحرمة التي تستشيط استعاراً لدي أقل لمسة جنسية، ... رسمت السجينات في حالاتهن وتحليلاتهن المختلفة- فرادي وجماعات- كذلك رسمت خلال نوافذ العنبر المطل علي النيل، المراكب التي تحمل بلاليص الفخار وأشرعته المعبأة بنسائم الحرية، ورسمت الصيادين والمراكبية والحمالين الذين تحملهم تلك المراكب.. مع رقعة صغيرة من السماء الناصعة.. وتلك جميعا كانت أجنحتها الخضراء الغضة للتحليق بعيداً... نحو عالم الحرية المفقودة والحياة الرحيبة"(14). (1) شهادة عبدالعظيم أنيس: (صاحبة القلب الحكيم ) عدد خاص عن المرأة المناضلة إتحاد النساء التقدمي، لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، القاهرة، 1989،ص 18 . (2) مذكرات إنجي أفلاطون : تحرير وتقديم سعيد الخيال ، دار سعاد الصباح ،1993،ص 110 . ( 3 )نحن النساء المصريات: إنجي افلاطون، مركز دراسات المرأة الجديدة، القاهر ة ، 1999 . (4) مجلة الكاتب ( للسلام والحرية)، العدد 12، السنة الخامسة عشرة، 5 مايو 1951، القاهرة، ص 11 . (5) مجلة الكاتب ( للسلام والحرية)، العدد 15، السنة الخامسة عشرة، السبت 26 مايو 1951، القاهرة، ص 6 . (6) مجلة الكاتب ( للسلام والحرية)، العدد 14، السنة الخامسة عشرة، 19 مايو 1951، القاهرة، ص 6 . (7) مجلة الكاتب ( للسلام والحرية)، العدد الحادي والعشرون، السنة الخامسة عشرة، 14 يوليه 1951، القاهرة، ص2 . (8) مذكرات إنجي أفلاطون ،مرجع سابق ،ص 29 . (9) المصدر السابق ص51 . (10) حوار مع (إنجي) أجرته مي التلمساني، السنة السابعة، العدد 58، القاهرة، يونيو 1990، ص 121 . (11) المصدر السابق ص122 . (12) المصدر السابق ص 122 . (13) الدكتور لويس عوض الكلمة التي سجلها في الكتاب الذهبي للمعرض الشامل للفنانة إنجي أفلاطون (1942 -1985). (14) مقال لعز الدين نجيب: " لوحات إنجي افلاطون، ووهج يضيء ولا يحرق، مجلة أدب ونقد، العدد 47، مايو-يونيو 1989، ص 17 .