مناضلون يساريون إنجي أفلاطون «كثيرا ما كنت أحضر حفلات الأميرة شويكار «الزوجة الأولي للملك فؤاد» في قصر محمد علي باشا الكبير في شبرا، كانت حفلات أرستقراطية جدا، صاخبة جدا، تشبه حفلات القصور القيصرية في روسياوفرنسا، الفتيات يخطرن بفساتين مبهرة وسط شبان أرستقراطيين، كنت أري الترف والبذخ وتفاهة الشبان فأشعر بالقرف. «إنجي أفلاطون - مذكرات مخطوطة» الاسم الحقيقي للجد هو حسن الكاشف أحد طلبة المدرسة العسكرية في عهد محمد علي باشا، سمع محمد علي أن زملاء حسن يسمونه «أفلاطون» بسبب كثرة اسئلته ورغبته في الجدل والنقاش، فقال «لا بأس أن يكون لدينا نحن أيضا افلاطون»، وبعد هذا التطور السامي أصبح أفلاطون اسما إجباريا وبعدها حصل علي الباشوية فقد أصبح أحد قادة الجيش البارزين والأسرة أرستقراطية في أعلي درجات الأرستقراطية، فالأب سليل أفلاطون تعلم في جامعات سويسرا وانجلترا وتخصص في علم الحشرات وأصبح عميدا لكلية العلوم، والأم صالحة هانم اخترقت جدار الوهم الأرستقراطي الخامل وأصبحت أشهر مصممة أزياء في مصر، في البيت الجميع يتكلمون الفرنسية، ومجرد كلمات عربية قليلة للتخاطب مع الخدم. وترسل الطفلة إنجي إلي مدرسة مخصصة للبنات الأرستقراطيات راهبات مصر الجديدة، الدراسة بالفرنسية والتعاليم متزمتة بصورة غير عاقلة، فممنوع علي الفتاة أن تنظر إلي نفسها في المرآة طويلا، بل ممنوع عليها أن تنظر إلي جسدها ولهذا يتعين عليها أن تستحم وهي تلبس جلبابا مخصصا لذلك، وممنوع قراءة الروايات أو أي كتب غير الكتب المدرسية.. لا صداقة بين التلميذات، وقائمة الممنوعات طويلة. ومنذ البداية تتمرد إنجي وتحاول علي الأقل أن تقيم علاقة صداقة مع التلميذات لكن أعين الراهبات تتعقبها حتي تضبط وهي تقرأ رواية «الذئب الأبيض» لجاك لندن، وتحاكم أمام مجلس من الراهبات وتتلقي إنذارا بالفصل، لكن إنجي تواصل تمردها حتي تصل إلي سن الثانية عشرة فلا تحتملها المدرسة، وتستدعي رئيسة الراهبات «بارتلو» صالحة هانم لتقول لها في أسي إنها مضطرة لفصل إنجي من المدرسة «لأنها يركبها شيطان» وقالت في أسي «أخشي أن تصبح ابنتك خطرا علي المجتمع»، ولا مفر أمام الأسرة فلكي تكمل إنجي تعليمها لا توجد مدرسة أرستقراطية أخري سوي الليسيه، وهكذا من قمة التزمت إلي قمة التحرر، وتحكي إنجي في مذكراتها لتصف حالها في المدرسة الجديدة «كنت كسمكة عادت طليقة إلي بحرها». لكن للأرستقراطية طقوسها فلابد للبنت أن تتعلم العزف علي البيانو أو الرسم أو هما معا، وتستأجر لها الأسرة مدرسة للرسم مقابل جنيهين في الشهر، وتكون نقطة التحول الحاسمة في حياة الفتاة الأرستقراطية، فالمدرس هو كامل التلمساني أحد رواد بيت الفن وأحد مؤسسي جماعة الفن والحرية، تلك الجماعة التي كانت تطلق في نهايات ثلاثينيات القرن الماضي شعار «الفن معمل بارود» كان التلمساني فنانا رائعا لكنه كان فقيرا جدا فقبل أن يعلم هذه الفتاة الأرستقراطية علي مضض. وتقول إنجي في حواري معها «قال لي فيما بعد إنه أتي إلي بيتنا يائسا مفزوعا لأنه مضطر لأن يبيع فنه لأرستقراطية فاشلة تريد فقط أن تضيع وقتها في التباهي بأنها تتعلم الرسم»، لكن التلمساني لا يلبث أن يكتشف بذرة التمرد في هذا العمق الأرستقراطي فمضي يعلمها ما فوق الرسم، فتح لها نافذة واسعة وممتعة عن تاريخ الفنون والحضارات والعلم ودور الفن في الحياة، وفتح لها نافذة عن مصر الحقيقية، مصر التي لم تكن تعرفها، وتضحك إنجي في حوارها معي «باختصار بجنيهين في الشهر استطعت أن أصبح إنسانة وفنانة وتقدمية، طلب مني التلمساني أن أنسي كل القواعد المدرسية للرسم، وأن أرسم كما أريد.. ورسمت وكانت لوحاتي الأولي صاخبة «فتاة تحاول الهرب من لهيب النار والثعابين» ولوحة أخري لفتاة تجري هاربة فوق الصخور المحاطة بأمواج عاصفة بينما يطاردها طائر متوحش لقد أزاح التلمساني عني حجرا ثقيلا، وأزاح من أمامي سدودا عديدة كانت تخنق تفكيري» وهكذا يتفجر الفن متمردا، ويتحول التمرد من الفن إلي تمرد علي المجتمع.. ألم يكن شعار «الفن والحرية» هو الفن معمل بارود؟، وتقول إنجي «اصطحبني التلمساني إلي القاهرة القديمة لأري عبق البسطاء ورائحة الفقراء وهناك التقيت في «بيت الفن» عشرات من الشعراء والرسامين ومن التمرد إلي الاشتراكية ومنها إلي الانتماء التنظيمي» فالفتاة كانت أكثر ذكاء من أساتذتها فقد اكتشفت أن التمرد الفردي لا يكفي وأن الرسم مهما تمرد لا يكفي، وإنما العمل المنظم هو الأساس. وتقول في مذكراتها «لقد زاد حماسي واقتناعي بالاشتراكية العلمية لتركيزها علي ارتباط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي وبتحرير المرأة وبالعدل والمساواة»، وتقول في حوارها معي «لقد سئمت ثرثرة المثقفين المعزولين وقررت وبوعي الانتقال طوعيا من معسكر الأغنياء إلي معسكر الفقراء»، وبعد أن حصلت وهي في الثامنة عشرة علي الثانوية العامة عرضت عليها الأسرة أن تسافر إلي فرنسا لتكمل تعليمها، فرفضت وتقول «كنت مشتاقة إلي أن أتمصر أن أتكلم العربية أن أعيش بعيدا عن الغش الأرستقراطي، وعملت مدرسة رسم في مدرسة الليسيه، وانضممت في عام 1944 لمنظمة ايسكرا وكانت لم تزل تتلعثم في الحديث بالعربية فكلفت المنظمة الشاعر فؤاد حداد بأن يعلمها العربية، وانفجرت ضاحكة وهي تحكي لي كيف أنها كانت تقرأ أمامه فقرأت كلمة «الهوي» وفسرتها علي أنها الهواء فغضب فؤاد حداد وقال في حدة «هو انتي محبتيش أبدا بالعربي»، لكن ثمة حواجز أخري هي الملابس الأرستقراطية التي تفزع البسطاء وقتها، ورويدا رويدا قادها النضال نحو التمصير.. فعاشت بامتنان في أحضان البسطاء، وتنشط إنجي في «دار الأبحاث العلمية» و«لجنة نشر الثقافة الحديثة» وتنضم لجمعية الشابات المسيحيات و«رابطة فتيات الجامعة والمعاهد» و«اللجنة الوطنية للطلبة والعمال»، ثم حادثة مثيرة للضحك، كانت صالحة هانم وإنجي مسافرتين إلي باريس (يوليو 1946) وفي الإسكندرية كان في وداعهما إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء، وبعدها بأسبوعين صدر أمر بالقبض علي إنجي وكان «صدقي» هو صاحب القرار البوليسي ذهب ولم يجد أحدا بالمنزل فأغلق دون حصافة الأبواب بالشمع الأحمر، واهتزت هامات كبيرة لغضب صالحة هانم واضطر صدقي للاعتذار. ومن باريس تسافر إنجي إلي براغ لتشارك جمال غالي في تمثيل مصر في مؤتمر اتحاد الطلاب العالمي، وفي عام 1950 تعمل صحفية في «المصري» لتحرر بابا بعنوان «المرأة نصف المجتمع»، وفي 1951 تشارك في اللجنة النسائية لدعم الكفاح المسلح وفي تأسيس حركة أنصار السلام وفي 1957 تنجح في تأسيس وإشهار اتحاد نسائي مصري باسم «الجمعية النسائية القومية» لكن الأمن يأمر بحل الجمعية. وتمضي إنجي في رحلة النضال وتصبح عضوا في اللجنة المركزية للحزب، ويأتي عام 1959 ليحمل في أول أيامه أكبر حملة قبض علي الشيوعيين وتهرب إنجي، تستعين بالفن فتتخفي في زي فلاحة شرقاوية وتعيش بشجاعة وامتنان في أحضان رفاق فقراء في أحد حواري شبرا، ويقبض عليها ليحكم عليها بالسجن عامين، وبعد السجن تخرج لتعاود النضال في صفوف المجلس المصري للسلام ولتصبح واحدة من أشهر فنانات الرسم التشكيلي، ولتعيد طباعة كتبها ذات المذاق الخاص «ثمانون مليون امرأة معنا» والمقدمة لطه حسين و«نحن النساء المصريات» والمقدمة لعبدالرحمن الرافعي، و«السلام والجلاء» والمقدمة لعزيز فهمي، وهل هي مصادفة أن تحظي كتبها بمقدمات لألمع المثقفين؟. وتبقي الشعلة القادمة من عالم الأرستقراطية لتضيء عالم الفقراء.. حتي ترحل.