لو وين فو الطعامُ معبِّراً عن الشَرَه والجوع والثورة والرفاهية الطعام كبطلٍ إنساني: (كنتُ أشعرُ بالاضطراب داخل المطعم كذلك، وخاصةً أنني كنتُ أمقتُ رؤيةَ هذا السلوك حيث يتناول الناس طعامهم بنهمٍ وزهو. كان ثلث الطعام علي الطاولةِ الواحدة يضيع هباءً، وكانت حاوياتُ الفضلات تمتلئ ببقايا السمكِ واللحم والأرز الأبيض. لقد تحول الأمر من "فَسَدَ اللحم وخَمَّ الخمرُ في القصرِ الوسيع" إلي "فَسَدَ اللحم وخَمَّ الخمرُ في المطعمِ الوسيع"، وإذا أفلَتُ العنانَ للأمور وكنتُ مُتسيباً، فأيُّ ثورةٍ قمتُ بها؟).. من رواية الذوَّاقة. يقول الروائي الصيني "لو وين فو" علي لسان بطل الرواية، الشخصِ الذي عاصر الثورةَ الشيوعية شاباً وكَبُرَ مع تحولاتها وهو يعمل "مديراً لمطعم".. وفيما كان هذا المدير يدعو إلي التشقف الثوري إن جاز التعبير حتي في الطعام، كان ثمة شخص آخر شَرِهٌ ويحب الطعام، في توازي بين شخصيتين كلاهما علي النقيض وبطلهما واحد.. الطعام. لا تتحدث الرواية إذَن عن "ذوَّاقة" بالمعني التقني للكلمة، بقدر ما تتحدث عن تحولات المجتمع الصيني المنعكسة هنا في هذا العمل في "ثقافة الطعام" حين يصبح نادراً فتحدث مجاعة وحين يصبح وفيراً، فيتفنن الصينيون في موائدهم، وثمة وصفٌ شبه إمبراطوري في الرواية لمائدة كهذه، وإن كانت لعشرة ضيوفٍ فقط. كما أنَّ البطل الثاني الشَّرِه "تشو تزي تشي".. لا يُبدي نهماً إزاء الطعام، كشخصٍ أكولٍ بقدر ما يعتبر الطعامَ متعةً وفنَّاً إلي حد أن يقدم لضيوفهِ الروبيان المقلي داخل حبات الطماطم الطازجة، إنَّه يحب الطعام ويتذوَّقه، معبِّراً بذلك عن طيفٍ إنسانيٍّ بامتداد الحضارات البشرية كلها في فنون الطهي والأكل، إنَّه يعبِّر عن نوعٍ من إرادة الحياةِ وحبها بالأكل حتي في أشد اللحظات المجاعة مأساوية. الذوَّاقة وتحولات الصين الحديثة: تُعَدُّ رواية "الذوَّاقة" أهم عمل للكاتب الصيني "لو وين فو" وقد نُشرت لأول مرة عام 1983 في العدد الأول من مجلة "الحصاد". وتدور أحداث الرواية في مدينة سوجو جنوبالصين، وهي مدينة مشهورة بجمال الطبيعة وأماكنها الترفيهية، ومعروفة كذلك بمطبخها الشعبي الغني. وتحكي الرواية عن العلاقة بين أحد الأثرياء الذي يحبون تناول الطعام ويعمل كذوَّاقة وهو تشو زي تشي، وبين أحد المشاركين في الثورة الذي يعمل جاهداً لتنفيذ أهدافها والبعد عن البذخ والإسراف وهو قاو شياو تينغ. وعبر اثني عشر فصلاً، اقتطع الكاتب لو وين فو زمناً تاريخياً يمتد لحوالي أربعين عاماً، بدايةً من الحرب الأهلية الصينية، مروراً بالمجاعة الكبري، ثم اندلاع الثورة الثقافية وما بعدها، حيث عكست الرواية أحوال المجتمع الصيني في ظل تلك الأحداث التاريخية، وناقشتها بشكل عميق من خلال طرح موضوع الطعام وثورة المطاعم ودمجها مع تلك الأحداث، بحيث يمكننا تتبع الأحوال الاجتماعية بل والظروف النفسية كذلك للشعب الصيني خلال تلك الظروف الصعبة وقدرة هذا الشعب علي التعامل معها، حتي خروجه من عنق الزجاجة بانتهاء الثورة الثقافية وبداية عصر الإصلاح والانفتاح. ويمكننا اعتبار هذه الرواية روايةً اجتماعية وسيرةً ذاتية للكاتب كذلك. فقد قال "لو وين فو": "قاو شياو تينغ هو أنا". لأنَّ سخطه وكرهه للمجتمع القديم كان السبب الذي دفعه إلي الاشتراك في الثورة والتغيير، ولأنَّه كان معجباً بالأفكار الثورية المثالية، وقد وقف من قبل لطلب العفو والسماح أثناء الثورة الثقافية كما ستحكي الرواية، ولأنه نُفي لمدة تسع سنوات إلي الريف. وتكشف الرواية عبر الشخصيات عن نوع من التأمل الدقيق في الثورة والأفكار الثورية، وعن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وعن بعض الأفكار والسياسات غير الناضجة وغير المكتملة التي لها علاقة ببناءِ دولةٍ ومصيرِ شعب. مطبخ سوجو العالمي: كان الكاتب "لو وين فو" قارئاً نهماً للكتب والراويات الكلاسيكية، والشعر الصيني القديم وكتب التاريخ والفلسفة، والكتب المترجمة، كما أنَّ عمله صحفياً لمدة ثماني سنوات، والظروف التي مر بها، أثر بشكل بالغ في كتاباته وأثري لغته الأدبية. وبالإضافة إلي ذلك، فإنَّ حبه لمدينة سوجو بطبيعتها الخلابة ومطبخها الغني المعروف حتي عالمياً، انعكس تقريباً في كل أعماله. ولم تكن رواية "الذوَّاقة" استثناءً. وسيجد القارئ أبياتاً من الشعر الصيني القديم لبعض الشعراء المشهورين مثل (باي جو يي) و(تانغ بو خو)، ووصفاً لمدينة سوجو، وتفاصيلَ عن بعض وجباتها، كما أنَّ الرواية لا تخلو من ذكر أحداث تاريخية كالحرب الأهلية والمجاعة الكبري والثورة الثقافية وغيرها. إلي جانب ذلك، تأتي عباراتٌ من اللهجةِ المحليةِ لمدينةِ سوجو بين حين وآخر في متن الرواية، والتي آثرت ترجمتها باللغةِ العربيةِ الفصحي وعدم اللجوء إلي العامية المصرية لأنها ليست كثيرة إلي الحد الذي يؤثر في المتن العام لنص الرواية. وسوف يلاحظ القارئ استخدام الكاتب لتقنيات متعددة في كتابته، كاستعادة الأحداث الماضية (الفلاش باك)، والوصف المُسهب أحياناً لحدثٍ ما، والتنقل بين الأزمنة، وتكرار عبارات وكلمات، والانتقال من ضمير المتكلم أو الراوي إلي ضمير المخاطب. الكتاب والصحفي وصاحبُ المطعم: وكاتبُ "الذوَّاقة" الروائي والقاص "لو وين فو" يعدُّ من أبرز أعلام الأدب الصيني الحديث، ومن الكتاب الذين تركوا بصمةً واضحةً في الأدب الصيني، لا تزال مؤثرة بعد رحيله عن الحياة. وقد كان الكاتبُ في حياته صحفياً وصاحبَ مطعمٍ كذلك الأمر الذي وظفَّه في روايته هذه بأشكالٍ مختلفة. ولد "لو وين فو" يوم الثالث والعشرين من مارس آذار عام 1927 في محافظة تاي شينغ التابعة لمقاطعة جيانغسو جنوبالصين. وقضي طفولته مع والدته وجَدته. وحين كان عمره ست سنوات التحق بإحدي المدارس التقليدية، وأظهر ولعاً شديداً بالقراءة والكتب، الأمر الذي دفع بمعلمه إلي الاهتمام به وتشجيعه. أنهي "لو وين فو" دراسته الابتدائية والإعدادية خلال الحرب اليابانية الصينية الثانية (1937- 1945). وفي عام 1945 انتقل إلي أقربائه في مدينة سوجو.. التي تدور فيها أحداث الرواية.. للاستجمام واستكمال الدراسة الثانوية، وبعد إنهائها كان يمكنه الالتحاق بجامعتين في مدينة شانغهاي، لكن أسرته لم تستطع تحمل نفقات الدراسة والمعيشة، ولهذا ذهب إلي المنطقةِ المحررةِ في سوبي حيث درس الماركسية في جامعة هوا تشونغ. وبعد تخرجه من الجامعة اشترك "لو وين فو" في حرب التحرير، أو ما يُعرف بالحرب الأهلية الصينية في شمال جيانغسو. وفي عام 1949 عاد إلي سوجو وعمل صحفياً في مؤسسة شينخوا بالمدينة، ومن ثم عمل صحفياً في جريدة سوجو. بدأ "لو وين فو" عام 1955 مسيرته الأدبية والتي استمرت أكثر من خمسين عاماً، وبعد سنتين أصبح عضواً في جمعية جيانغسو للأدب. وفي عام 1957 أسس مع عددٍ من الكتاب مجلة أدبية عرفت باسم "المستكشفون"، والتي سرعان ما قضت قبضةُ الحزب الشيوعي عليها وصُنِّفَ لو وين فو باليميني، وذلك أثناء ما يعرف "بالقفزةِ الكبري إلي الأمام"، حيث أُجبر علي العمل كميكانيكي في سوجو. وبعد ثلاث سنوات من العمل وحسن السير والسلوك، سُمِحَ له بالعودة إلي الكتابة. وبعد اندلاع الثورة الثقافية في عام 1966، نُفِيَ "لو وين فو" إلي الريف لإعادةِ التأهيل من خلال العمل حتي عام 1976. وبعد انتهاء الثورة الثقافية بموت الزعيم ماوتسي دونغ، عاد لو وين فو إلي سوجو في نوفمبر عام 1978 وكان عمره خمسين عاماً. وفي ديسمبر من عام 1978، شغل منصب رئيس تحرير مجلة سوجو، وعاد إلي الكتابة والتأليف مرة أخري في فترة الإصلاح والانفتاح في عهد دينغ شياو بينغ. وعكست جميع أعماله تأملاً عميقاً وتفكراً في الذكريات والأحداث الخاصة بالتاريخ المعاصر للصين كالفقر والتراجع والتخلف والفوضي. وبعد أن نشر رواية "الذوَّاقة" عام 1983، افتتح "لو وين فو" مطعم "ذاوَّقةُ سوجو القديمة"، ليقدم في مطعمهِ مأكولات سوجو التقليدية، كوسيلةٍ لتحقيقِ فكرته المثاليةِ عن الطعام الجيد، وكان معروفاً في الوسط الأدبي الصيني باشتغاله في أعمال المطاعم. لقد انتهي به المطافُ إذَن في مدينة سوجو، مدينتَه المفضلةَ في مقاطعة سوجو، وكانت أعماله مرآة لهذه المدينة كما سنري في رواية "الذوَّاقة" وكان هذا هو السبب في اعتبار أعماله منتمية إلي أدب سوجو. وفي التاسع من يوليو عام 2005، توفي "لو وين فو" عن 78 عاماً متأثراً بإصابته بداءِ الانسدادِ الرئوي المزمن. وسام فارس الفرنسي لرواية "الذوَّاقة": برع الكاتب "لو وين فو" في كتابة القصص القصيرة والمقالات والروايات القصيرة والطويلة، ولعل قصصه القصيرة مثل "الشرف" كانت بداية مسيرته ككاتب وانتباه الوسط الأدبي إليه، إلَّا أن رواية "الذوَّاقة" كانت "ذروةَ أعماله الإبداعية" كما جاء في إحدي المقالات النقدية الصينية حول الراوية. ومن أهم أعماله كذلك الرواية الطويلة "المأوي"، وقصص قصيرة مثل "البئر"، "رجل من عائلة بائع متجول" وقصة "من أعماق الزقاق" والتي تُعَدُّ من أهم قصصه القصيرة. وفي عام 1989 حصل الكاتب "لو وين فو" علي وسام فارس في الفنون والآداب والذي تمنحه فرنسا عن روايته "الذوَّاقة" التي نالت شهرةً كبيرة وتُرجمت إلي العديد من اللغات، كما حازت الرواية كذلك في الصين علي جائزة أفضل رواية قصيرة لعام 1983 1984. كما حُوِّلت روايةُ "الذوَّاقة" إلي فيلم من إخراج وبطولة الممثل الراحل (شيوي تشانغ لين) عام 1985. آمل أن تستمعوا بقراءةِ هذا العمل المترجم من اللغة الصينية إلي اللغة العربية لأول مرة، وبالرغم من أنَّه روايةٌ قصيرة أو نوفيلا، إلَّا أن ترجتمه استغرقت عدةَ أشهر في تدقيق أحداثه ووجباته وأسماء أكلاته ولغته، وآملُ أن تنمِّي هذا الرواية لدينا حاسةَ التذوق لطيبات الأدب والطعام والحياة.