"هاربون من الموت" كتاب يحكي قصة اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم الموت إلي جنة أوربا. أهمية الكتاب لا تأتي فقط من كونه يتناول الأزمة السورية الحالية، ولكن لأنه يحكي المأساة الإنسانية من الداخل، فالكاتب الصحفي الألماني "فولفانج باور" وصديقه المصور التشيكي "ستانيسلاف كروبر" خاضا هذه التجربة مع أحد الأفواج الهاربة من مصر عبر البحر الأبيض المتوسط. صدر الكتاب عام 2014 في ألمانيا، حصل علي عدة جوائز. ترجم إلي اللغة الإنجليزية والفرنسية كما صدرت نسخته العربية مطلع هذا العام عن دار العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة. هنا نحاور المؤلف والمصور. "ها هو العالم العربي يغرق في نفس الأوحال التي اجتاحت أوروبا من 70 سنة وأغرقتها بالحروب الهمجية وبالكراهية والعنف". قلت في مقدمة النسخة العربية من كتابك "هاربون من الموت". كيف يقيم الصحفي فولفانج باور الأزمة السورية؟ الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي تم استبدالها بحروب أهلية شديدة الدموية. سوريا، العراق وليبيا هم أكثر الأمثلة وضوحا بينما الأنظمة السياسية المتزنة مثل مصر وتونس،استطاعت أن تحتوي أزمة الحروب الأهلية وتتخطاها بشكل كبير. لكني مازلت علي يقين أن سورياوالعراق لن يعودا كما كانا من قبل، لأن الحرب بين السنة والشيعة اشتعلت بشدة. لم يعد لدي القدرة علي تخيل المشهد السابق يعود من جديد،أقصد أن يعيش السنة والشيعة في سوريا بسلام كما كانوا من قبل فالدم الذي سال كافيا ليسمم أي علاقة وطنية طبيعية بين شباب المستقبل من السوريين. فملايين الموطنين دفعوا دماءهم و حريتهم ثمنا للأخطاء السياسية. متي اتخذت قرارك بخوض تجربة الهروب مع اللاجئين السوريين وكيف استطعت إقناع صديقك المصور الصحفي "ستانيسلاف كروبر" ليصاحبك في هذه الرحلة الخطرة؟ لم يكن قرارا سهلا ولم اتخذه بين يوم وليلة، قمت بالإعداد لهذه الرحلة لمدة تسعة أشهر. وخلال هذه المدة بدأ عدد أصدقائي السوريين الراغبين في الهروب غير الشرعي لأوروبا يزيد. فكرة مشروع الكتاب بالنسبة لي لم تكن لتنجح لو اعتمدت علي لقاء السوريين الذين نجحوا في الوصول لألمانيا لأن صوتهم بالنسبة للمجتمع الأوروبي لن يكون بنفس المصداقية كصوتي. أهم شيء كان علي فعله أثناء التجهيز للرحلة هو تأليف قصة منطقية أقولها للمهرب عني، لأن ذكر حقيقتي كصحفي لن يفيد معهم أبدا. ألفت سيرة ذاتية جديدة لي،عرفت نفسي كمدرس لغة إنجليزية قوقازي أحببت فتاة لكن أهلها عارضوا زواجنا وأن موقفهم سبب عدائنا عائليا كبيرا خاصة بعدما قتل احد أفراد عائلتها من شخص مجهول واتهمت أنا في هذه الجريمة لذلك كان علي أن اهرب وأبدأ حياة جديدة في قارة بعيدة. قصة رخيصة، أليس كذلك، لكن حياتي كلها خلال رحلة الهروب اعتمدت علي هذه القصة. ساعدني صديقي المصور الصحفي "ستانيسلاف كروبر" في هذا، ليس فقط لكونه يصاحبني في رحلات العمل منذ سنوات طويلة، ولكنه أيضا يجيد اللغة الروسية التي لا أفقه كلمة فيها. ربما لطول العشرة لم يكن أقناعه بمهمتنا الجديدة صعبا وربما لأن فكرة المشروع فتنته وأثارت فيه روح المغامرة. لماذا اخترت "القوقاز" وأنت لا تجيد اللغة الروسية؟ لتبرير مظهري الأوربي، فحتي بعد إطالة لحيتي لم أبدو أبدا كرجل عربي أصيل. كما أن ستانيسلاف يجيد اللغة الروسية. حين وجه أحد أفراد العصابة الحديث لكما باللغة الروسية أجبت أنت بالنيابة عن صديقك الصحفي "فولفانج"، هل تذكر ما دار بينكما وشعورك وقتها؟ نعم. كان حوارا عبثيا، حدثني الرجل عن علاقته بالسيدات الروسيات والأوكرانيات الذي قابلهن في مصر. أنا لست مدخنا لكني أضطررت أن أقبل التدخين معه كي أغطي علي صديقي الذي لا يتحدث الروسية إطلاقا، أذكر أن "فولفانج" تحجج وقتها بالصداع كي يمكث في الغرفة دون أن يشك الرجل به. إلي أي مدي ساعد تخصصك الدراسي "الدراسات الإسلامية" في عملك الحالي كصحفي متخصص في شؤون الحروب المشتعلة في المنطقة العربية؟ وقعت في حب العالم العربي منذ زرت الجزائر وكان عمري حينئذ 19 عاما. ربما لهذا راقتني فكرة "الدراسات الإسلامية" لكني فشلت في دراستي لأن قدرات عقلي لم تستوعب المعلومات الكثيرة في هذه الدراسة وبدأ هذا الشعور حين بدأت دراسة اللغة العربية وكان لدي مشكلة في نطق حرف "العين". أو ربما لم أكن تلميذا فذا لأن حين بدأت دراستي لم يكن لدينا في ألمانيا معلمين أكفاء في هذا المجال. كيف تمكنت من التقاط الصور التي نشرت في الكتاب،وما التبرير الذي قدمته للمجموعة التي كنت معها؟ لم ألتقط صوري جهارا، واستخدمت كاميرا الهاتف سرا حتي أتمكن من التصوير دون أن يشعر أحد منهم. كيف تري الصور التي صورتها أثناء رحلة الهروب،وكيف تشعر حين تشاهدها الآن؟ علي المستوي الفني، أراها صور ضعيفة، مهزوزة ومظلمة وبعضها غير واضح. لكن كل صورة تحمل داخلها ذكري شخصية بالنسبة لي. الأمر لم يعد مهني بقدر ما أصبح شخصي. " لم يكن البحر أخطر ما مررنا به"،لكن يظل الخوف من الموت غرقا أكبر مخاوف الهاربين،من وجهة نظرك ما هي أخطر المواقف في رحلة الهروب؟ ليس هناك مجالا للتفضيل، المخاطر كانت كثيرة. لحظة اختطافنا من قبل عصابة في الإسكندرية وكنا مجموعة من ثلاثين شخصا لمدة أربعة أيام، لك أن تتخيلي لو كشفت هويتنا كصحفيين لهم! تعرضتما للاختطاف، السجن والمصير المجهول كما عاملك المهرب كعبد، حدثوني عن مشاعركما وأفكاركما أنذاك؟ فولفانج: شعرت أني مادة للتجارة،لم أعد إنسانا. كان صادما جدا أن تشعر بأنك بلا قيمة حقيقة من دون أوراقك الرسمية وهويتك الحقيقية. أن تصبح مجرد لعبة يمكن لأي شخص مطاردتها. لكن في قمة يأسي رأيت شجاعة وقوة المهاجرين "الحقيقيين"، رأيت أجمل ما في البشر وأسوأه أيضا. فهذه التجربة أثرت أكثر كثيرا مما تصورت كصحفي متخصص. ستانيسلاف: ليس لدي ما أقوله،حقا. يكفي أني أعاني من مشاكل بالمعدة منذ قمت بهذه المغامرة. جدل كبير في أوروبا هذه الأيام حول موضوع اللاجئين وخاصة العرب منهم،كيف تقيما الموضوع؟ فولفانج: ألمانيا تستقطب أكبر عدد من اللاجئين. بعضهم يرغب في حرق بيوت اللاجئين وهؤلاء سيزيد عددهم كلما أزداد عدد اللاجئين. والبعض الآخر، وهم الأغلبية، يحاولون عمل شبكة لمساعدتهم. آلاف الأشخاص حول ألمانيا يدعمون اللاجئين من خلال دروس اللغة، ترتيب الأمتعة والأثاث، دعوات عشاء ومرافقتهم لمقابلة السلطات. أعرف أحدهم يدعم 200 شخص من أصل 3000 الموجودين لديهم. حتي أن بعضهم يموت ببطء بسبب كثرة عدد الأشخاص المقيمين معهم في المنزل. لكن بشكل شخصي أعتقد أن اللاجئين هم من يساعدون المجتمعات أكثر. بالطبع هناك أغبياء ومجرمون ضمن اللاجئين يختبرون الحرية في مجتمع جديد عليهم تماما لذلك يرتكبون أفعلا متخلفة مثل التحرش الجنسي بالنساء،بالنسبة لهؤلاء أفضل عقاب لهم هو الترحيل وإلا سيتسببون في مشاكل لباقي اللاجئين. ستانيسلاف:أنا من دولة التشيك حيث لا يقبل معظم الشعب فكرة وجود لاجئين بينهم خاصة العرب، أشعر بالعار لهذا،ولكنها الحقيقة. الأمر محير جدا بالنسبة لي فأنا مدرك لخطورة الأحداث في سوريا وحق الناس في الهروب لمكان أمان يكون بالنسبة لهم الوطن البديل. من المؤسف أن لا تحاول السلطات في القارة الأوروبية إيجاد حل إنساني لهذه الأزمة. من ناحيتي أقترح أن تقيم الدول مكاتب لتقديم طلبات اللجوء في الدول العربية. يتم التقديم من خلالها بهذه الطريقة سيتم تنظيم الموضوع وسيسافر اللاجئ بطريقة آمنة و شرعية. حين سجنتك الشرطة المصرية مع الأسر السورية الهاربة عبر البحر،هل شعرت باليأس؟ لم أشعر أبدا باليأس، أنا شخص متفائل. المحكمة المدنية برأتنا منذ أول يوم لأننا حين قبض علينا كنا داخل المياه الإقليمية المصرية. لكن الأمن القومي تحفظ علينا كما حدث مع باقي المجموعة. المشكلة أننا لم نكن نعرف سبب الاحتجاز ولا الاستجواب. حيث تم استجوابنا جميعا حتي الأطفال. ستانيسلاف..حدثني عن الذكري التي لا تغيب أبدا عن ذهنك. في الحجز، كنا كثيرين من أعمار متفاوتة، لكني تعلقت بفتاة صغيرة تدعي بيسان ذات الخمسة عشر عاما مات والدها وهربت من الحرب مع أخيها ذي السبعة عشر عاما. علي الرغم أنها بالكاد تتحدث الإنجليزية إلا أن الصداقة الإنسانية جمعتنا. كان جسدها ضعيفا جدا بسبب قلة الطعام والمرض لأنها مريضة بالسكر،كانت بيسان تحب الرسم وأهدتني إحدي رسوماتها التي أعلقها في بيتي الآن. الحرية بعد السجن ماذا غيرت فيك فولفانج؟ أتمني أن لا تكون شخصيتي قد اختلفت كثيرا. لكني صرت أفضل المشي في أماكن مفتوحة لأني أدركت معني السجن وحقيقة الحرية. عملية الكتابة كم استغرقت من الوقت؟ ما يقرب من ستة أشهر ستانيسلاف،هل مازلت علي علاقة بأحد من الهاربين؟ نعم أنا وفولفانج كونا صداقات حقيقية مع بعضهم وسعداء أنهم مستقرون حاليا في ألمانيا. فعمار علي سبيل المثال استطاع أن يجلب أسرته ونزوره بين حين وآخر. حصل كتابك "هاربون من الموت" علي جائزة الصحافة بألمانيا، حدثني عن شعورك بالجائزة؟ لدينا في ألمانيا أكثر من 300 جائزة في الصحافة، أنا لست فخورا جدا بالجائزة بقدر سعادتي وفخري بعملي الذي يساهم،إلي حد ما،في تقليل المشكلات. تم ترجمة الكتاب لعدة لغات آخرها اللغة العربية،هل تعتقد أن الترجمة مهمة؟ الترجمة تعني لي الكثير، كصحفي أحاول بناء شبكة علاقات بين البشر من ثقافات وتجارب حياتية مختلفة، هذا هو سحر مهنتي. أن يتم ترجمة كتابي للغة العربية،وهو الأمر الذي فشلت في تعلمه،أعني اللغة العربية،فهذا قمة السحر بالنسبة لي علي المستوي ال فولفانج، ما هو مشروعك القادم؟ انتهيت منذ أيام من كتاب يتناول جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد بنيجيريا والمعروفة إعلاميا "بوكو حرام". وأنت ستانيسلاف ماذا تفعل حاليا؟ لا شيء سوي التصوير،أصور لصالح المجلات والصحف. مازال شغفي بتصوير الطبيعة في روسيا هو الأهم وذات يوم سأقيم معرض تصوير.