اتفقنا أو اختلفنا حول موهبة أحمد مراد، فهو بلا شك أكثر الروائيين المصريين الشبان شهرة ومبيعاً، وترجمة لأعماله، وإثارة للجدل مع كل عمل يُنشر له. فحتي من يسبونه أو يرون أنه قد نال شهرة أكبر من حجم موهبته، هم من يسارعون لشراء روايته الجديدة أو قراءتها إلكترونية فور صدورها. إذن نحن هنا أمام ظاهرة تستحق الكتابة عنها. في روايته الأخيرة (أرض الإله) الصادرة عن دار الشروق عام 2016، نري طفرة علي مستوي اللغة، وربما أيضاً في اختيار التاريخ موضوعاً للرواية، وإن كان قد بدأ هذا الاتجاه التاريخي من روايته السابقة (1919) الصادرة عام 2014، لكنه في (أرض الإله) يذهب بنا إلي أبعد من هذا التاريخ.. يأخذنا إلي زمن النبي موسي وخروج بني إسرائيل من مصر. يستند الروائي علي نظرية وردت في كتاب "فرعون ذو الأوتاد" لأحمد سعد الدين، والذي يقول فيه أن فرعون موسي لم يكن مصرياً، ولكنه كان ملكاً للهكسوس الذين احتلوا شبه جزيرة سيناء لمائة عام، والذي يقول أيضاً بمحو ذلك التاريخ عن عمد من قِبَل اليهود ليُظهروا بشاعة المصريين ودمويتهم كذباً وبهتاناً، وقد طمسوا كل الأدلة التي تؤكد هذه النظرية، تحديداً بعد احتلالهم سيناء في 1967، فعملوا علي سرقة آثار تؤكد الحكاية الحقيقية، ودمروا البعض الآخر. وكل ما سبق يتبناه أحمد مراد ويصيغه في روايته (أرض الإله)، لكنه حينما فكر في توجيه الشكر لأسماء بعينها في نهاية الرواية، لم يذكر مؤلف ذلك الكتاب، لكنه اختار عاطف عزت، صاحب كتاب "فرعون كان من قوم موسي"، والذي تقول نظريته بأن معركة موسي كانت مع قومه، أي صراع داخلي ليس لمصر ولا لأهلها فيه ناقة ولا جمل، وهو ما لم يَرِد إطلاقاً في روايته! وبعيداً عما سيُكال له من اتهامات بانتهاك قدسية الرسل وتجاهل الحقائق التاريخية، فهي في النهاية رواية، وليست كتاب دين أو تاريخ. وللكاتب كل الحق في صياغة وسرد ما يريد، فالرواية خيال محض، وإن احتوت علي حقائق مُثبَتَة. هل أقدم أحمد مراد علي كتابة هذه الرواية بدافع وطني بحت، ودفاعاً عن الهوية المصرية وحضارتها العظيمة، خاصة أنه أورد أسماء نستخدمها حتي اليوم مثل "وحوي" و"بلبوص"، شارحاً جذورها ومعانيها المصرية القديمة، مؤكدا في نهاية الرواية علي أن اسم (مصر) الحقيقي هو (إيجيبت)، ومعناها أرض الإله وليس (مصر) كما أراد لها اليهود حينما استخدموا في التوراة لفظ (مصرايم) للإشارة إليها، وحينما ظل يؤكد علي عمق حضارة المصريين بناة الأهرامات، أم هي رد علي افتراءات ودراسات وأفلام بنكهة صهيونية آخرها: "الخروج: آلهة وملوك"، والتي تظهر المصريين بشكل دموي، وترسخ لأن فرعون موسي هو رمسيس الثاني، أم هي محاولة لأسلمة التاريخ بما أنه سرد قصة موسي كما جاءت في القرآن، وبحوار قوامه الآيات القرآنية كما أُنِزلت، أيضاً استخدم اسم (إدريس) بدلاً من (أوزوريس) وكرره بطول الرواية، وظل يستخدم كلمة (ملائكة) بدلاً من (آلهة)، نافياً عبادة المصريين لها، مُشيراً بشكل ضمني إلي أن عقيدتهم كانت توحيدية حتي من قَبل إخناتون؟! في الحقيقة لا نستطع تأكيد شيء سوي أن أحمد مراد مصور بدرجة كاتب، يجعلك لا تقرأ الرواية فقط، بل تراها تتحرك أمامك، فهو يملك ناصية المشهد مُجَسَدة أمام القارئ ربما بسبب خلفيته السينمائية كطالب متميز في قسم تصوير. نص (أرض الإله) أقرب إلي السيناريو منه إلي الرواية، نظراً للحوار الذي يحتل أغلب مساحتها. لكن هناك من الحوار والشعر ما أتيا أضعف بكثير من السرد. نستطيع أن نستنتج حجم المجهود البحثي في كواليس ما قبل الكتابة، سواء من خلال الإستعانة بأكثر من مرجع، أو بمساعدة كثيرين أورد أسماءهم في الشكر. هناك تأكيد دائم علي دونية الشخصية اليهودية، المدلسة، الطامعة، المتنمرة، المتسلقة، التي تسطو علي تاريخ ومقدرات الشعوب، وتصوير الشعب اليهودي علي أنه فئة غير مؤمنة، تقتل أنبياءها. وشخصيتيّ مردخاي وأمه خير مثال علي ذلك! بنية الرواية تنقسم إلي حكايتين: الأولي، بطلها الكاهن الشاب كاي وحبيبته ناديا، والثانية هي القصة المكتوبة في متون مخطوطات مانيتون السمنودي، وتحكي عن عصر موسي واليهود والخروج من مصر، وقد احتلت الأخيرة جزءاً كبيراً من الرواية، بتفاصيل كان من الممكن اختصار الكثير منها، وقد كانت القصة الأصلية في حد ذاتها شيقة جداً. يحسب للرواية أنها تلقي الضوء علي كتاب مهم، هو (الجيبتانا)، الذي يحكي عن ملوك مصر وأسرهم المتعاقبة. فالرواية الجيدة هي التي تفتح للمعرفة أبواباً، وتجعلك بعد أن تنتهي منها، تبدأ البحث عما حوته من معلومات لم تسمع عنها قبلاً. تجنب الكاتب الحديث عن سِفر الخروج، بحجة أن برديته فُقِدَت، وهي ربما تكون محاولة لتفادي لغط، ولو أنني أراه وقد بدأ يعاني منه فعلياً بولوجه تابو الدين، وتجسيده للرُسُل، وطَرقُه هذه النظرية الجدلية التي يؤكدها سعد الدين في كتابه من خلال عمر رمسيس الثاني الذي حين مات كان قد تجاوز التسعين، وعلي لفظ (فرعون) الذي لم يُتَخَذ لقباً إلا في الدولة الحديثة، نهاية الأسرة الثامنة عشرة، وتحديداً في عهد إخناتون، وليس قبل ذلك. لنخلُص إلي أن (فرعون) موسي اسم وليس لقباً، ثم أن (قارون) و(هامان) اسمان غير مصريين، ورمسيس الثاني لم يكن يطلق علي نفسه إله كفرعون المذكور، فهناك تماثيل تصوره جاثياً علي وجهه يتعبد للإله ويقدم له القرابين. علي الرغم من تبني أحمد مراد في قصة موسي، ما جاء في القرآن بنصه، إلا أنه اعتمد تفاصيلها من سِفر الخروج كما ذُكِرَ في التوراة: نزول بني إسرائيل من أرض كنعان إلي مصر هرباً من المجاعة في زمن يوسف، وتكاثرهم بشكل مرعب مما أقلق الملك المصري الجديد، فقال لشعبه: "ها هم بنو إسرائيل أكثر منا وأعظم قوة، فلنتآمر عليهم لكي لا يتكاثروا وينضموا إلي أعدائنا، فسخرهم للأعمال الشاقة وأذلهم". الرواية تتماهي مع حبكة (دان براون)، فتبدأ بجريمة قتل مُلَغَّزة حيث القاتل والدافع غير معروفين، ورمز مجهول يتركه القتيل، ثم يأتي البحث والمطاردة التي يكون دافعها محاولة طمس دليل مادي سيقلب الموازين ويحيل اليقين إلي شك، والحقيقة الراسخة إلي أسطورة. وقد تفوق براون علي (أمبرتو إيكو)، الذي سبقه في ذلك النوع التاريخي البوليسي الذي تجلي في روايته الشهيرة (اسم الوردة)، فأجاد الأول الخلطة التي تجذب القاريء وتجلب الشهرة، ويبدو أن أحمد مراد يحاول السير علي خطي براون. الصفحات الأخيرة يتوقف فيها فعل السرد، فتصبح شذرات أخبار، ترسيخ معلومات، وتصحيح أخري. أعتقد أن نهاية الرواية كانت ستكون أقوي لو كان آخرها ما كتبه مانيتون في مخطوطاته: "تذكروا أبداً أن فرعون ملك بدوي هكسوسي. فرعون ليس ملكاً جيبتياً. أيجيبت ترجموها عن عمد إلي مصر. مصر هي عاصمة أرض الرعاة، أرض الفيروز. أما إيجيبت اسم أرضكم الأصلي، فيعني: أرض الإله". أحمد مراد كاتب مجتهد، متطور، مختلف (تأمل طرق الدعاية التي يلجأ إليها)، ليس لديه رواية تشبه الأخري، أو موضوع يشبه الآخر، وأري أنه سيصل إلي أبعد بكثير مما هو عليه الآن.