منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تخفض من توقعاتها بالنسبة لنمو الاقتصاد الألماني    مجلس الحرب الإسرائيلي يجتمع اليوم لمناقشة موضوعي الرهائن واجتياح رفح    طريق الزمالك.. البداية أمام بروكسي.. والإسماعيلي في مسار الوصول لنهائي الكأس    رانجنيك يوجه صدمة كبرى ل بايرن ميونيخ    حبس طالب جامعي تعدى على زميلته داخل كلية الطب في الزقازيق    مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث بالطريق الزراعي بالقليوبية    محافظ المنيا يوجه برفع درجة الاستعداد لاستقبال عيدي القيامة وشم النسيم    الثانوية العامة 2024.. مواصفات امتحان اللغة العربية    بحضور سوسن بدر.. انطلاق البروفة الأخيرة لمهرجان بردية لسينما الومضة بالمركز الثقافي الروسي    «الشيوخ» ينعي رئيس لجنة الطاقة والقوى العاملة بالمجلس    ارتفاع حصيلة قتلى انهيار جزء من طريق سريع في الصين إلى 48 شخصا    مصير مقعد رئيس لجنة القوى العاملة بالشيوخ بعد وفاته    السيسي: حملات تفتيش على المنشآت لمتابعة الحماية القانونية للعمال    الأهلي والالومنيوم والزمالك مع بروكسي.. تفاصيل قرعة كأس مصر    نجم الأهلي السابق: إمام عاشور أفضل لاعب في مصر    الهجرة تعلن ضوابط الاستفادة من مهلة الشهر بمبادرة سيارات المصريين بالخارج    «القومي للأمومة» يطلق برلمان الطفل المصري لتعليم النشئ تولي القيادة والمسؤولية    وزراة الدفاع الروسية تعلن سيطرة قوات الجيش على بيرديتشي شرقي أوكرانيا    واشنطن تطالب روسيا والصين بعدم منح السيطرة للذكاء الاصطناعي على الأسلحة النووية    الأرصاد: الأجواء مستقرة ودرجة الحرارة على القاهرة الآن 24    حداد رشيد حول منزله إلى ورشة تصنيع أسلحة نارية    أب يذبح ابنته في أسيوط بعد تعاطيه المخدرات    ميقاتي: طالبنا المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف هجماتها على لبنان    بعد طرح فيلم السرب.. ما هو ترتيب الأفلام المتنافسة على شباك التذاكر؟    مسلسل البيت بيتي 2 الحلقة 4.. جد بينو وكراكيري يطاردهما في الفندق المسكون    الإمارات: مهرجان الشارقة القرائي للطفل يطلق مدينة للروبوتات    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    فيديو وصور.. مريضة قلب تستغيث بمحافظ الجيزة.. و"راشد" يصدر قرارا عاجلا    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    «اكتشف غير المكتشف».. إطلاق حملة توعية بضعف عضلة القلب في 13 محافظة    مصدر رفيع المستوى: تقدم إيجابي في مفاوضات الهدنة وسط اتصالات مصرية مكثفة    رئيس اتحاد القبائل العربية يكشف أول سكان مدينة السيسي في سيناء    «التنمية الحضرية»: تطوير رأس البر يتوافق مع التصميم العمراني للمدينة    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    كلية الإعلام تكرم الفائزين في استطلاع رأي الجمهور حول دراما رمضان 2024    هل تلوين البيض في شم النسيم حرام.. «الإفتاء» تُجيب    شيخ الأزهر ينعى الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    كولر يعالج أخطاء الأهلي قبل مواجهة الجونة في الدوري    شوبير يكشف مفاجأة عاجلة حول مستجدات الخلاف بين كلوب ومحمد صلاح    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    بنزيما يتلقى العلاج إلى ريال مدريد    البنك المركزي: تسوية 3.353 مليون عملية عبر مقاصة الشيكات ب1.127 تريليون جنيه خلال 4 أشهر    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    على طريقة نصر وبهاء .. هل تنجح إسعاد يونس في لم شمل العوضي وياسمين عبدالعزيز؟    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    منها إجازة عيد العمال وشم النسيم.. 11 يوما عطلة رسمية في شهر مايو 2024    رئيس الوزراء: الحكومة المصرية مهتمة بتوسيع نطاق استثمارات كوريا الجنوبية    سؤال برلماني للحكومة بشأن الآثار الجانبية ل "لقاح كورونا"    أبرزها تناول الفاكهة والخضراوات، نصائح مهمة للحفاظ على الصحة العامة للجسم (فيديو)    تشغيل 27 بئرا برفح والشيخ زويد.. تقرير حول مشاركة القوات المسلحة بتنمية سيناء    هئية الاستثمار والخارجية البريطاني توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية    دعاء النبي بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة .. واظب عليه    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال الغيطاني حكايات من دفتر الغياب
»القلعة المدينة« تمثيل السلطة والشعب قراءة في " الزيني بركات "
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 05 - 2016

أصدّر الرِّوائي الراحل جمال الغيطاني روايته نثار المحو بقول فؤاد حداد: كأن الحياة ذكري، وهو تشبيه الحياة بأنَّها ذكري، سواء أكانت ذكري جميلة أم حزينة، فالذِّكري تظلُّ عالقة في الأذهان لارتباطها بوقتٍ ومكانٍ معينين. فإذا كان فؤاد حداد قد شبَّه الحياة بأكملها بأنَّها ذكري، فإنَّ هذا الأمر هو ما يتمثَّله الغيطاني في سعيه الدَّؤوب، لتسجيل ما كان، سواء أكان جميلاً أم قبيحاً. فكلُّ الحياة أصبحت فيما يتعلق به ذكري بأتراحها وأفراحها. وهكذا عند النَّاس ولكن مَنْ يستطيع أن يهضم تلك الأحداث، ليقدِّمها في شكل فني جميلٍه إنه الفنَّانُ، صاحب القيم والمعتقدات، لذلك فقد استطاع الغيطاني التقاط تلك الذِّكريات، والتي كانت في الوقت نفسه دافعاً لتكوينه الثَّقافي، سواء أكانت المتعلقة بحياته مع والده والذي أصرَّ علي حسن تعليمه وتهذيبه أم مع المكان والبيئة التي نشأ فيها مع أسرته وأقرانه في درب الطبلاوي بعد مجيئة مع والده من الصَّعيد. وترعرع ونما وأصبح أديباً مرموقاً فهو من جيل الستينيات.
"وقد ظلت القلعة باقية، فعلي الرغم مما طرأ من التغيير علي أشكال الحكومة ومهامها (...) فإن القلعة باقية وما زالت تشاهد إلي اليوم. وحيثما أجلنا البصر من قلعة سان أنجيلو إلي الكتلة الصماء القائمة إلي جوار قوس الإمبرالية في لندن، ومن الكرملين إلي مبني البنتاجون (...) نري أن القلعة ما برحت قائمة ترمز إلي السلطان المطلق والتفكير المضطرب، شأنها في ذلك شأن أقدم نماذجها".
لويس ممفورد
نهضت أغلب مجتمعات العصور الوسطي، خصوصا المجتمعات الشرقية التي وصفت بأنها "إقطاعات عسكرية"، علي تكوين قوامه ثنائية بسيطة وحادة: "السلطة" و"الشعب". وتجسّد هذا التكوين في كثير من "المدن العواصم" التي اتخذت مراكز للحكم، في هذه المجتمعات، خلال التكوين المعماري لهذه المدن الذي احتفي بالتعبير، تخطيطا وبناء، عن ثنائية "السلطة/الشعب"، ممثّلة في بنية مركزية للمدينة كان فيها مركز الحكم، الرمز الديني والرمز السياسي، معا، بمثابة "نواة" أساسية، تقع في "سرة" المدينة غالبا، أو في "قلبها"، ومن هذه النواة، أو حولها، كانت تتفرع أحياء المدينة، ساحة المحكومين.
هذه الثنائية بين الحكام والمحكومين، وتمثيلها التخطيطي والمعماري في تكوين المدينة، كان لهما بالطبع امتدادهما في مجتمعات وفي مدن أسبق من العصور الوسطي؛ نلحظ ذلك بوضوح في مدن حضارة ما بين النهرين، وفي المدن المصرية القديمة، وفي مدن العصور الوسطي المسيحية والإسلامية . والملاحظ أن النواة الدينية/ السياسية كانت تتجاوز، في بعض هذه المدن القديمة، حدود النشاط الديني والسياسي. فالمعبد المصري، مثلاً، (الذي كان يطلق عليه "بريتر"، أو بيت الإله، والذي كان يبني عادةً بجوار بيت الحاكم وكبار الكهنة) لاح بمثابة تمثيل ل"الكون الأصغر"؛ يحاط بأعمدة تسجل عدد أبراج الفلك وعلامات دوائر البروج أو دوائر الكواكب ، وبذلك كان يرتبط بجانب من جوانب النشاط العلمي، فضلاً عن أن نشاطاً فنياً مهماً قد ارتبط بالمعابد في كثير من الحضارات . كذلك كان قصر الحاكم مقراً "للمكاتب المختلفة التي كانت لازمة لإدارة المنطقة المحيطة بالمدينة" .
هذا التكوين المركزي، الذي يعكس هيمنة النواة علي ما حولها؛ أي يعكس هيمنة السياسة والدين والممارسات المصاحبة لهما، والذي بدا واضحا في تكوين المدينة المصرية القديمة، استمر فيما بعدها في مدن أخري مع تغيرات طفيفة لا تعدل من هيمنة النموذج نفسه. ففي المدينة الإغريقية، مثلاً، ارتبط مركز المدينة بالميدان الرئيسي Agora الذي وضع وسط المدينة بوصفه مركزاً للنشاط الاجتماعي والسياسي . وفي العصور الوسطي المسيحية والإسلامية أضيفت تفاصيل جديدة إلي هذه البنية المركزية؛ كان منها تحول بعض الكنائس أو أجزاء منها إلي "مراكز للصناعة" المعروفة آنذاك ، وكان منها قيام بعض المساجد الإسلامية بأدوار "مجالس قضاء" مبكرة أو مدارس وجامعات، كما انطبعت المساجد الكبري التي مثّلت المراكز الدينية، في غير حالة، بطابع عسكري عكس التداخل بين دوري الحاكم القائد ورجل الدين، أو عبر عن العلاقات والمصالح المشتركة بينهما ، ثم كان الاقتران التاريخي الآخر المهم بين هذه النواة الدينية/ السياسية/ العسكرية، من جهة، ونواة "السوق"، من جهة أخري، تعبيراً عن الدور المتزايد للعلاقات التجارية .
للمرة الأولي، طيلة تاريخ يصل إلي ستة آلاف سنة إلا قليلاً، سوف يتخلخل هذا النموذج الذي هيمن علي تخطيط المدينة لفترات طويلة، وذلك في القرن التاسع عشر؛ حيث نشطت حركة العمران المديني باتجاه أطراف المدينة كلما اتسع قلبها الذي تحول إلي "حي أعمال وتجارة" ، وسوف يظهر نموذج آخر لتخطيط المدينة، هو نموذج "النويّات المتعددة" الذي سيسود سيادة كاملة منذ عشرينيات هذا القرن تقريباً، مع تبلور "حلقات" جديدة أصبحت قاسماً مشتركاً في تكوين معظم المدن الحديثة. ولكن، فيما قبل هذا التغير في تخطيط المدينة، الذي يعكس تغيرا في علاقة السلطة بالشعب، ظل نموذج البنية المركزية مهيمنا في أغلب المجتمعات الشرقية بوجه خاص. وقد تمثل هذا النموذج، في غير حالة، خلال نواة "القلعة" التي جمعت بداخلها كل السلطات الإدارية والسياسية وأحيانا العسكرية، وفي أحياء المدينة التي تترامي من حول هذه القلعة. والمفارقة في هذا التكوين أنه قد جمع عالمين مختلفين، متباعدين ومتناقضين، وإن وقعا علي مساحة واحدة أو متقاربة. وعلي هذه المفارقة في علاقة السلطة بالشعب، وفي تمثيلها المعماري، نهض عدد من الروايات الحديثة، منها رواية جمال الغيطاني (الزيني بركات) التي كتبت في زمن توارت فيه ثنائية القلعة/ المدينة، ولكن بقيت وهذه مفارقة أخري ثنائية السلطة/الشعب قائمة بهذا القدر من الوضوح أو ذاك.
تتناول (الزيني بركات) عالم القاهرة في فترة مفصلية من فترات تاريخها؛ إذ يركز زمنها المرجعي علي سنوات تنتمي إلي بدايات القرن السادس عشر الميلادي، فترة دخول الأتراك إلي مصر.
وتتخذ الرواية من تجارب مجموعة شخصيات، أهمها شخصية "الزيني بركات بن موسي" (الذي تولي في التاريخ المرجعي حسبة القاهرة وارتقي في المناصب) تكأة الولوج إلي عالم كامل في تاريخ مصر، يصعد ويزدهر، ولرصد عالم آخر يأفل ويذوي، انطلاقاً من محاولة موازاة زمن معاصر، مرتبط بفترة كتابة الرواية.
تنبني الرواية علي "مفتتح" وستة "سرادقات"، يوازي أغلبها شخصيات بعينها: الزيني بركات (الذي سوف يصبح "استدار الأخيرة ومتولي الحسبة المصرية ووالي القاهرة والمتحدث عن الوجهين القبلي والبحري")، وعلي بن الجود (متولي الحسبة السابق)، وزكريا بن راضي (الشهاب الأعظم، كبير البصاصين)، وسعيد الجهيني ("المجاور" بالأزهر، القادم من قرية بعيدة، مريد الشيخ أبي السعود الجارحي)، الشيخ الجارحي (القطب الصوفي صاحب الكلمة المسموعة حتي من السلاطين أنفسهم). هؤلاء جميعاً، وغيرهم من شخصيات أقل حضوراً (منصور، ريحان، شهاب الحلبي، سماح) يمثلون مفاتيح لالتقاط مفردات عالم السلطة وما حولها، ونماذج دالة علي أفول زمن إمبراطورية المماليك المصرية، وتحول مصر كلها إلي محض ولاية تابعة للخلافة العثمانية ، وتراجع القاهرة "أم الدنيا وبستان الكون"، بكلمات تقرير كبير بصاصي الديار المصرية (انظر الرواية، ص 186)، من عاصمة تلك الإمبراطورية الكبري إلي محض مدينة كبيرة من مدن الشرق.
تتحرك الرواية حركة أساسية بين أماكن بعينها مسماة داخل القاهرة من ناحية، وداخل القلعة من ناحية أخري- رمز الحكم ومقرّه ومركز سلطاته العسكرية والسياسية والإدارية جميعاً، قروناً عدة ، والتي كانت السيطرة عليها تعني السيطرة علي مصر كلها . وفي هذه الحركة، تظل السلطة بعلاقاتها الخفية، بأقبيتها ودهاليزها الداخلية، حاضرة بطول الرواية، خلال تناول الحكام والمحكومين، والبصاصين ومطارديهم وضحاياهم، وخلال تناول المنازعات المتعددة بين المماليك والمماليك، وخلال "النداءات" التي تهبط من القلعة، مقر الحكام، إلي المدينة، ساحة الرعية. لكن هذا الحضور للسلطة، مع اختراق عالمها السري، يظل متسماً بنوع من الغموض، تماماً كأسوار القلعة التي تشرف علي المدينة من علٍ، ويراها سكان المدينة من كل اتجاه، راسخة وهائلة ومخوفة، ورمزاً للكتمان، لا تبين أسوارها أبداً عما يدور وراءها. إن هيمنة السلطة علي كل ركن بالمدينة، ووضوح أسوار قلعة هذه السلطة، في تلك الفترة من فترات "الإقطاع العسكري" بمصر، هما تعبير عن خصوصية تندرج تحت قانون وسم خلال العصور الوسطي كل سلطة مركزية وكل دكتاتورية: قانون السرية .
باختراق الزيني بركات هذه السرية، إذن، تكون قد اخترقت النواة الصلبة التي نهضت عليها أكبر إمبراطوريات الشرق في تلك الفترة. وبحركة الرواية بين مباني القلعة المحصنة وحارات القاهرة، تكون قد تحركت علي ذلك المحور الخطير الذي دارت حوله علاقة المماليك بالشعب الذي ظلوا يحكمونه لفترة طويلة (من 1250م إلي 1517م)، رغم انفصالهم عنه علي مستويات شتي، قبل أن ينتقل الحكم من أيديهم إلي ولاة آخرين، سوف يتلقون أوامرهم من "الباب العالي"، وسوف يصوغون للقاهرة مصيراً آخر ومكانة أخري ، وسوف تصبح علاقة القلعة بالمدينة، مع هؤلاء الولاة، ذات طابع آخر ، وإن لم تتخلَّ عن بعدي الهيمنة والتسلط.
القاهرة، في هذه الرواية، قاهرة التحول الاستثنائي، عن وجهها المهدد باقتحام الغزاة يقول الرحالة الذي تردد إليها أكثر من مرة: "وجه القاهرة غريب عني، ليس ما عرفته في رحلاتي السابقة (...) أري وجه المدينة مريضاً يوشك علي البكاء، امرأة مذعورة تخشي اغتصابها آخر الليل" (ص9). وباقتراب الغزاة، سوف يقول عنها كبير البصاصين، زكريا بن راضي: "الحواري مغلقة، الناس يسرعون إلي غير هدف" (ص5). وسوف تغدو "بيوت المدينة كلها مغلقة، مرعوشة، تود لو توارت" (ص9)، ثم تغدو "القاهرة (...) رجلاً معصوب العينين، مطروحاً فوق ظهره، ينتظر قدراً خفياً" (ص16). وبعد زوال هذا الترقب لخطر أو عنف مباغت؛ بعد استسلام القاهرة للعثمانيين، سوف يري الرحالة نفسه "الأسي شفقاً كثيفاً فوق المدينة كأن البيوت نفسها أسالت أدمعاً" (ص239).
مع وجوه المدينة هذه، في زمن تحولها الاستثنائي، ترصد الرواية المدينة بتكوينها المعروف خلال العصور الوسطي؛ بأحيائها وأسواقها وحماماتها ووكالاتها.. إلخ، وأيضاً بانقسامها إلي ثنائية معمارية حكمتها طيلة حوالي ستة قرون، بين السلطة والشعب ، بين القلعة والمدينة: "تغرق البيوت في نعاس طري وتتأخر الشمس في الوصول إلي حواري الحسينية، الباطنية، الجمالية، والعطوف، بينما تري واضحة من فوق أسوار وأبراج القلعة" (ص18). إن القلعة، التي تشرق الشمس عليها أول ما تشرق، والتي كان موقعها قد اختير بوصفه أفضل المواقع من الناحية العسكرية والصحية معاً ، سوف يتكشف عالمها شيئاً فشيئاً، لنشهد عزلتها وانغلاقها علي عالم المتسلطين عليها ومن ثم المهيمنين علي مصر وعلي "توابعها" جميعاً حيث لا يتسني طلوعها إلا لهؤلاء، ولأفراد مختارين مكشوف كل ما بداخلهم (انظر ص 67)، وحيث قصورها وقاعاتها وسجنها الرهيب، والعذاب الذي اشتهر به إلي حد يجعل الموت أملاً مرتجي (انظر الرواية ص 52 وص 25).
برصد صعد الزيني وازدهار نجمه وتحوله داخل المدينة إلي مادة من مواد الأخبار التي تتطاير، وقدرته علي أن يمتلك القدرة علي دخول القلعة والخروج منها: "تجيء الأخبار وتروح كموج البحر الكبير (...) الزيني نزل من القلعة"، "الزيني يطلع الآن إلي قاعة الدهيشة بالقلعة" (ص45)... بهذا، تكون الحجب قد كشفت عن عالم لم يكن مسموحاً سوي بالتطلع إليه من بعيد، وتكون الرواية بين السجن و"قاعة الدهيشة"، و"البيسارية"، و"الطبلخانة".. إلخ. وفي الأسفل، حيث المدينة، تتحرك الرواية داخل سور المدينة الذي يحيط بها وتقع القلعة علي نقطة منه - ويحميها في فترة ثم يعجز عن حمايتها في فترة أخري؛ بين الحواري المغلقة والأحياء المتعددة و"كوم الجارح" مقر الشيخ أبي السعود الجارحي والأزهر وأبواب القاهرة المعروفة والأسواق والأسبلة والمقابر والبيوت. وهذه الحركة المزدوجة تقترن باختيار شخصية "المحتسب"، مهنة الزيني، نفسها، بما لها من سلطات ، وبما هو متاح لها من قدرة علي التنقل بوصفها "واسطة" بين القلعة والمدينة. وتعتمد هذه الحركة علي مادة تاريخية ثرية متاحة، تفيد من الوقائع المرجعية التي أوردتها الكتابات التاريخية عن تلك الفترة (كتاب ابن إياس "بدائع الزهور في وقائع الدهور" خصوصاً)، كما تفيد من استخدام اللغة التاريخية نفسها (مثل استخدام تعبيرات مسكوكة بعينها تتردد بكثرة لافتة في نص ابن إياس: "تغير خاطر السلطان" انظر الرواية ص 19، "الناس (...) كالجراد المنتشر" انظر الرواية ص12) ، فضلاً عن إفادة رصد هذه الوقائع من صياغة "اللغة البصرية" التي كان الاحتفاء بها واضحاً في عالم المدينة القاهرة في تلك الفترة؛ حيث الاهتمام بألوان الملابس وأشكالها بوصفها تعبيراً عن انتماءات متباينة لأديان أو مكانات مختلفة (راجع الرواية ص53 مثلاً)، بالإضافة إلي الإفادة من لغة "المنادي" وسيلة الإعلام الرسمية المعروفة آنذاك الذي يطوف بالمدينة ناشراً تعليمات أو أخباراً بعينها، فيتمثل سرد الرواية لغة هذا المنادي في مساحات عدة بالرواية.
هذا العالم التاريخي، المتمركز حول ثنائية القلعة/ المدينة، بصياغاته هذه، قد ينفتح علي ثنائية أخري تتمثل في المدينة/ الريف، كانت بارزة أيضاً في نظام "الإقطاعات العسكرية" الذي عرفته مصر في تلك الفترة؛ فتشير الرواية مثلاً- إلي إقطاع زكريا بن راضي في "سرياقوس"، أو إلي الفقر المدقع والإتاوات الباهظة التي تدفع بعض الفلاحين للرحيل إلي المدينة "ليجهر بالشكوي" (انظر الرواية ص 40)..ولكن مثل هذه الإشارات تظل في الرواية محض إطلالات خاطفة علي عالم لا نراه، يأتي نائياً تماماً عن ثنائية القلعة/ المدينة (وقد كانت هذه الثنائية الأخري، المدينة/ الريف، جزءاً من التناول الأساسي في رواية سعد مكاوي "السائرون نياماً" التي نشرت قبل "الزيني بركات" بسنوات عدة ، كما كانت مركز التناول في رواية محمد جبريل "قلعة الجبل").
مع الاحتفاء برصد ثنائية القلعة/ المدينة، ومع الاحتفاء بالتفاصيل التي تجد لها سنداً مرجعياً في المكونات التاريخية للمدينة الشرقية، فرواية (الزيني بركات) تحفل بما يجعلها "تناولاً فنياً خالصاً". فقصص الحب، والإحباط، والتسلط، والخيانة، وتجارب "المكابدة الروحية" التي تنطوي عليها الرواية، واللغة المشبعة بعلاقات شعرية، كلها تمثل جزءاً مما ينأي بها عن مهمة "نقل" التاريخ، أو رسم صورة دقيقة عن الفترة الأخيرة من حكم المماليك، أو رصد ملامح متفق عليها للقاهرة في تلك الفترة. والقاهرة التي توالت صورها قبل هزيمة المماليك وبعدها في الرواية، للرحالة ولبعض البصاصين، سوف تتخذ ملامح أخري، ذات طابع شعري تقريباً ، لعاشق فرد خائب، يري "السواد يلف المدينة" (انظر الرواية ص 235)، وهذه الرؤية المتغيرة للمدينة ترتد إلي أسباب داخلية خاصة أكثر مما هي موضوعية مرتبطة بما تعانيه المدينة بالفعل، خلال تحولها الاستثنائي، وسقوطها وسقوط قلعتها، معاً، لغزاة سوف يؤثرون تأثيراً كبيراً فيهما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.