تنفيذا لتوجيهات السيسي.. محافظ شمال سيناء: تقسيط إيجار الشقق على 30 سنة لأهالي رفح    الآن.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بعد آخر انخفاض    تقديم الساعة 60 دقيقة غدًا.. تعرف على مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    ارتفاع عدد ضحايا قصف الاحتلال لمنزل عائلة الجمل شرق رفح إلى 5 شهداء    لبنان.. طيران إسرائيل الحربي يشن غارتين على بلدة مارون الرأس    واشنطن تطالب إسرائيل ب"إجابات" بشأن "المقابر الجماعية" في غزة    محافظ شمال سيناء: لا توطين لأي فلسطيني.. وإعادة 3 آلاف إلى غزة قريبا    بطولة الجونة للاسكواش.. تعرف على نتائج مباريات ربع النهائي    عاجل.. تصريحات كلوب بعد الهزيمة من إيفرتون ونهاية حلم البريميرليج    «زي النهارده».. وفاة الفنان سمير وحيد 25 إبريل 1997    محافظ الإسكندرية يهنئ السفيرة لينا بلان لتوليها مهام قنصل عام فرنسا بالمحافظة    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    مواجهة بين أحد الصيادين ومؤسس حملة "خليها تعفن" تكشف أسباب ارتفاع أسعار الأسماك    «زي النهارده».. بداية الحرب الأمريكية الإسبانية 25 إبريل 1898    مصير مجهول ينتظر "مؤتمر المصالحة الليبية" ..تحشيد عسكري روسي وسيف الإسلام مرشحا للقبائل !    مراقبون: فيديو الأسير "هرش بولين" ينقل الشارع الصهيوني لحالة الغليان    مظاهرات لطلاب الجامعات بأمريكا لوقف الحرب على غزة والشرطة تعتقل العشرات (فيديو)    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    "سنحولها إلى الجهات الرقابية".. الزمالك يكشف مفاجأة في قضية بوطيب وتحركات لحل الأزمة    وزير الرياضة يتفقد استعدادات مصر لاستضافة بطولة الجودو الأفريقية    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي بعد خسارة ليفربول وفوز مانشستر يونايتد    كاراجر: محمد صلاح ظهر ظلا لنفسه هذا الموسم    خبر في الجول – الأهلي يتقدم بشكوى ضد لاعب الاتحاد السكندري لاحتساب دوري 2003 لصالحه    بعد خسارة الأهلي ضد أويلرز الأوغندي.. موقف مجموعة النيل ببطولة ال«BAL»    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    الأرصاد تُحذر من حالة الطقس المتوقعة اليوم الخميس: درجات الحرارة تصل ل43    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    شراكة مصرية إماراتية لتوطين صناعة السيارات الكهربائية والتقليدية    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أخبار الفن|طلاق الفنان أحمد جمال من زوجته سارة قمر.. وشريف منير يروّج ل«السرب».. وهذه الصور الأولى من زفاف ابنة بدرية طلبة    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    في حفل تأبين أشرف عبدالغفور .. أشرف زكي: فقدنا فنانا رسم تاريخه بالذهب    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    خال الفتاة ضحية انقلاب سيارة زفاف صديقتها: راحت تفرح رجعت على القبر    أحمد موسى: مصر قدمت تضحيات كبيرة من أجل إعادة أرض سيناء إلى الوطن    إجازات شهر مايو .. مفاجأة للطلاب والموظفين و11 يومًا مدفوعة الأجر    في الموجة الحارة.. هل تناول مشروب ساخن يبرد جسمك؟    طريقة عمل الكبسة السعودي باللحم..لذيذة وستبهر ضيوفك    حكم تصوير المنتج وإعلانه عبر مواقع التواصل قبل تملكه    أمين الفتوى: التاجر الصدوق مع الشهداء.. ومحتكر السلع خبيث    تجديد اعتماد كلية الدراسات الإسلامية والعربية ب«أزهر الاسكندرية»    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    خالد الجندي: الاستعاذة بالله تكون من شياطين الإنس والجن (فيديو)    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأصالة والمعاصرة في أعمال جمال الغيطاني

الحداثة المطروقة والمعدة للسباق باتجاه ما هو "جديد"، كانعكاس للتجديد والتغيير المستمر تلبية لقوانين السوق وإرضاء لذوق الجمهور المتغير خلال النصف قرن الأخير، كانت حداثة ناقصة وسطحية، ومحكوم عليها بالزوال والتواري كزوال السراب السريع، ولو أضفنا إلي ذلك الوضع المتردي للثقافات الهامشية في مواجهة مراكز الإنتاج الثقافي الكبري في الغرب والجهود المبذولة لمحاكاة بعض مبدعيها البارزين - وهو شيء مشترك بين أسبانيا والدول العربية، رغم الفوارق بينهما - لذلك تعثر علي أوضاع متشابهة علي جانبي المتوسط، كتلك التي عبر عنها "Vicente Liorens" في كتابه عن القرن التاسع عشر: "مجهود طويل وشاق للوصول إلي روح الزمن، وعندما يبدو أن الهدف قد تحقق، نجد أن هذه الروح قد أخذت طريقا آخر، من هنا تأتي البلبلة والغموض الأبدي وتواصل تخلف ثقافتنا، التي لاتعايش العصور الحديثة من خلال وضع قلق فقط، بل بحركتها المستمرة خارج الزمن".
أعمال جمال الغيطاني مثلها مثل أعمال الكاتب التركي :اورهان باموك "Orhan Pamuk" تهرب من شراك الخطاب المتكرر (التبني الأعمي لقوالب واقعية القرن التاسع عشر) والتأثيرات المبالغ فيها لكتاب أساسيين، من السهل تقليدهم (كافكا وفوكنر وجارثيا ماركيز) وكذلك تتفادي الوقوع في شراك دوامة الطليعية التي تستهلك نفسها دون فائدة ترجي منها، وبعيدة عن خطر الجماليات المكونة عبر تراكمات فنية وأدبية متعالية من الإبداعات ذات الدسامة المترهلة، فهو تماما مثل باموك وموقفه من استنبول، الغيطاني "يقرأ" القاهرة، كنظام يولد ماضيه الخاص، وهو ما يجعله يمتلك إمكانية مواجهة الحاضر بطريقة متوافقة مع الزمن تماما: (انظر لوري لوتمان Luri lotman، سيموطيقا المدينة). وتماما كمؤلف "الكتاب الأسود" الذي يتناول التراث العثماني الثري الخبيء، فالغيطاني يجذر شجرة أدبه في التراث العربي الثري، خاصة كتابات المؤرخين، والأدب المترامي والمجهول في عالم التصوف.
في كتبه عن العظمة المصرية، يحاول الغيطاني فك رموزها كما لو كانت طلاسم، فيمر من خلال الحاضر إلي الماضي، ويعيد تحديث الماضي، يلعب باللا تاريخي، ويكشف عن قدم ما بين يديه علي انه جديد واستحالة استمراره. كنت قد عرضت من قبل رؤيتي النظرية والعملية في نص المدينة، وكذلك الخصوبة التركيبية للكلمتين، والروائي المصري يعتبر نموذجا ممتازا ل "محاولاته المستعصية" كحيوان حضري". يقول "حياتي ملتصقة بالقاهرة... فقد وزعت أوقاتي ما بين الشوارع والحارات والطرقات والمساجد والفضاء... وشكلت.. الطلال.. والملامح والعتاقة القاهرية اركانا أساسية في وجداني وتكويني الروحي.. ان النواحي القاهرية والمباني والأزقة والاقببة مسكونة بالحنين والحكايات المتوارثة إلي جانب المصائر البشرية وفيها كان احساسي بالزمن".
ومتوازيا مع هذا التدريب الممتع للقراءة الحضرية القريب في وجوه متعددة منه من "والتر بنجامين Walter Benjamin"، عرف الغيطاني كيف يصنع لنفسه نسبا أدبيا تمتد فروعه إلي مؤلفين متباينة اتجاهاتهم، كالمؤرخ ابن اياس والشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، وذلك من خلال رؤية متكاملة مع الماضي والتي ندركها اليوم علي أنها تعبير أدبي وفني خاص بنا مع اقتراب نهاية القرن العشرين، يتأمل الغيطاني بنجاح انه في كل مغامرة فنية أيا كانت في الشعر أو النثر أو النحت أو العمارة لابد أن تقوم دائما علي إرث وتراث، وذلك بعد هضمها يمكن الانطلاق نحو التحقق من جديد". وكانت نتيجة هذه الرؤية كتب عديدة له منها "كتاب التجليات"، الذي يتعايش فيه الكاتب مع تجارب للصوفي المرسي في البرزخ - متون الأهرام - الذي نقدمه اليوم كنموذج علي قدرته علي طرح هذه الرؤية.
التعرف علي مسيرة العمل الروائي للكاتب جمال الغيطاني تتطلب رؤية متكاملة، ولحاجتنا إلي ذلك، سأحاول التعمق في بعض وجوهها الأكثر إشراقا.

ظهور رواية "الزيني بركات" الرواية الأولي للكاتب جمال الغيطاني يمكن اعتباره اليوم، كحدث كبير: اقتحام للرواية العربية التي نشعر بها كتعبير أدبي عن النهاية الفرعية لهذا القرن، تعبير أدبي، لا يرتبط بتقاليع أو طليعية مفترضة بل جاء كثمرة لامتزاج العناصر التي تشكل شيئا فشيئا العالم الهاجسي لرؤية قدرته الإبداعية المتسعة والحادة، فإذا كان المنهج البدائي للكاتب يجرب معارف مهضومة جيدا لجماليات متفرقة مكانية - زمنية ولأصوات روائية متعددة لبعض الكتاب الغربيين الرافضين للفرضيات المسبقة وقوانين أسواق النشر، فان روايته لاتعتمد علي الاشكال الأوروبية ولا الأمريكية اللاتينية - من كافكا إلي جارثيا ماركيز - كما هو معروف في هذه الحالة، بل يعتمد منهجا بنائيا نابعا من التراث العربي الثري في أدب الرحلات والروايات التاريخية كاشفة عن نضج وتناسق وبهجة مدهشة، وذلك علي خلاف العديد من الأعمال الروائية والشعرية المنتشرة في لغات أوروبية مختلفة جرت كتابتها لهدف نبيل لكنها تعتبر ممارسة عقيمة، لأنها ليست سوي إعادة ترجمة للمصادر التي استوحتها، فقراءة "الزيني بركات" في اللغة الأسبانية، من خلال الترجمة الدقيقة للمستشرقة "ميلاجروس نوين مونريال"، هذه القراءة لا تعدنا لخطاب مكرر تلعب فيه ألوان المكان: علي العكس من ذلك، تكشف لنا عن البحث عن تعبير جديد وخاص، يتغذي من الجذور العميقة الرائعة للأدب العربي.
وقائع "الزيني بركات" تحدث في مصر فيما بين 912 و 922 هجرية (1507 - 1517 ميلادية) والتي شهدت انحطاط الفترة المملوكية وهزيمتهم النهائية علي يد الغازي العثماني ومصادر الرواية التاريخية معروفة: بعضها سابق علي الفترة التي تقصها الأحداث، مثل تاريخ المقريزي، ومصادر أخري معاصرة للحدث، مثل "تاريخ مصر لابن اياس". ويمزج الغيطاني في الرواية شخصيات حقيقية، مثل الشخصية التي تحمل الرواية اسمها، بشخصيات أخري من وحي خياله، وأمانته في رواية
وقائع ذلك العصر لاتعيقه عن ممارسة حرية التخيل، وهكذا، نجد أن المقاطع التي يختارها من شخصيته المتخيلة للرحالة الفينيسي "جييانيتي" الذي زار القاهرة عدة مرات في ترحاله في العالم الأفريقي الآسيوي مع بدايات القرن السادس عشر تساعدنا علي فهم الواقع الاجتماعي والسياسي لمصر المملوكية، لكنها تزيد من صعوبة فهم القاريء للأحداث نظرا لعدم النسق المتعمد للوقائع حسب ترتيبها التاريخي (922، 914، 917، 922، 913 هجرية)، وطبقا لجماليات التشتت، فإن النصوص المتضمنة في الرواية مكتوبة بضمير المتكلم والراوي الذي يقص الحدث من الخارج، وهذا الجانب الأخير تدور حول الشخصيات الرئيسية عدا شخصية الزيني (الطالب سعيد الجهيني، زكريا ابن رياض، رئيس بصاصي السلطان، الشيخ أبوسعود، والبصاص عمرو ابن العدوي) الأجزاء الأولي تعتبر رسائل لزكريا من خلال أوامر سلطانية وإعلانات وتقارير سرية وأحكام قضائية للسلطة الدينية، وخطب منبرية، ورسائل مرسلة بالحمام الزاجل، ووثائق غاية في السرية، ووقائع خاصة بديوان زكريا الخاص عن النصر علي العثمانلية، الخ، وهذا المجموع من الأصوات والسجلات التي تحتويها الرواية تقدم شكلا سيمفونيا موسعا حيث نجد درجات صوت السلطة الرصين - مقدمو البوليس، ورسائل البصاصين، والرسائل الرسمية - تتبادل مع الأصوات الجميلة للأصوات الرقيقة لمعاني رسائل السلطة إلي العامة: تعدد النغمات طبقا لمعناها عند "باخ"، أنها لحن يداعب أذان القاريء ويدعوه لترديده بصوت مرتفع.
تجزيء الرواية يجبرنا علي العودة إلي الوراء: لاعادة القراءة الخصبة. وهذه القراءة وحدها تسمح لنا استعادة طريق الصعود الصعب إلي السلطة الذي ساره الزيني بركات، محتسب القاهرة، الذي استقبله الشعب استقبال الأبطال بعد سقوط المحتسب السابق عليه والتعذيب البشع الذي لم يسبق له مثيل الذي تعرض له، وذلك بعد صدور الأمر السلطاني لتعيينه وتصريحاته باسم العدالة التي أقلقت رئيس البصاصين في السلطنة زكريا ابن راضي. فالصراع بين الرجلين يسبق بشكل ما العمود الفقري للرواية، شيخ الجامع الأزهر أبوسعود وتلميذه سعيد الجهيني كانا يثقان في توجهات الزيني الطيبة، ولذلك كانوا محط أنظار البصاص عمرو ابن العدوي التلميذ الأزهري الذي اخترق المكان لحساب زكريا ابن رياض، وبعد كل هذا فإن الأحداث التالية تتولي الكشف شيئا فشيئا عن الطموح والغباء واللعب المزدوج للزيني، تحالفه الاستراتيجي مع رئيس بصاصي السلطنة وصعوده المتواصل إلي المراتب الهامة والحساسة في السلطة. حب السلطة الذي لايعرف أي نوع من أنواع الوفاء، وأشياء أخري كهزيمة السلطان الغوري علي يد العثمانلية، وتثبيت الزيني في موقعه من السلطة علي يد الغزاة، والعالم الذي وصفه الروائي هو عالم الزعزعة والتغيير الدائمين، يرافقهما كما يقول: في الهواء ذمته، أهو الدخان الذي يظهر قبل قيام الساعة؟
الجند الغرباء يغتصبون الأبكار علي باب جامع المؤيد، ما الذي بقي اذن؟
يطول الليل، يصحو القوم فلا يلقون إلا ظلاماً مستمراً عتيماً. أول خيوط الضوء تدير العقول، ما الذي بقي إذن؟، وهو المعادل الموضوعي المصري للضجيج والغضب الشكسبيريين.
اختيار بطلين علي شاكلة زكريا ابن راضي والزيني بركات يغرق قاريء الرواية في قاع السلطة: سلطة فاسدة ديكتاتورية لغتها و "ايدلوجيتها" الدينيتين تخفيان ركائزها الحقيقية، القمع المفروض علي عامة الشعب - هذه "الغوغاء" أو "القطيع الذي يتجه إلي حيث يقودونه" - وذلك من خلال التجسس، والخطف والتعذيب والسجن ونشر الرعب العام، وشخصية زكريا ابن راضي، الحذرة داخليا وخارجيا بفضل الرسائل والتقارير السرية، شخصية ذات ازدواجية ومراوغة، تتمتع بالمكر والدهاء والذكاء لها قدرة علي السيطرة علي الآخرين، وتتميز بقوة مغناطيسية تجذب القاريء لتشابهها بشخصيات تاريخية اكثر قربا منه: قيادات ومنظمو هيئات تتمتع بنفوذ واسع كما كان "كي . بي. جي" أو علي درجة أعلي من التميز كما كان الحال في "سي. أي. إيه" علي أيام فوستر دلاس. زكريا ابن راضي قبل لقائه الفاصل بالزيني كان يقيم سلطته علي ركيزة الرعب المليء بالتعذيب والسجون، العنف الملتصق بسلطته يسيطر علي حياته بالكامل. ومسكن ملذاته النيلية عبارة عن سجن كبير تحت الأرض.
"تقدمه المشاعل مبروك، لايذهبان إلي السجن إلا نادر مرات قليلة خطا فوق الممر المعتم الضيق، في نهايته تجاويف صغيرة في الجدران الرطبة المبللة اللزجة، تضيق الفجوة بقاعة الانسان، السجين يضطر إلي اضاء ظهره عند الوقوف حتي لايصطدم رأسه بالسقف غير المستوي".
و"الفلسفة" المهنية لزكريا، قائد هذا العش الصغير بحرسه الأخرس، والعقاب الجسدي والقتل المجاني، يرتكز في جملة يمكن أن تكون اكثر التصاقا بشخصيات كتلك التي حكمت أسبانيا من خلال محاكم التفتيش".
وهكذا بدلا من بتر الانسان حيا أحوله وهو يمشي علي نفس قدميه ويحرك ذراعيه ويتحدث بلسانه فيناديه الناس باسمه لكنه في الحقيقة شخص آخر وانسان ثان..
بعد ذلك، تزداد مناهج زكريا إحكاما باتباعه لنصائح الزيني صاحب أتباع الطرق الأكثر تقدما والأكثر نجاعة في التعذيب، وخلال خطابه أمام اجتماع البصاصين القادمين من جميع أنحاء العالم، سيلاحظ مثل بطل :الصفر واللانهاية" أن: لحظة الضرب أو التعذيب نفسها لاتؤلم يا ممثلي سير الكون، إنما ما يؤلم انتظار الانسان لهذه اللحظة بعينها.. عند تعذيب شخص ما الذي ينتظره اكثر من هذا؟ لكن المهم أن يعتبر في انتظار دائم هذه اللحظة..".
رغم أن رئيس البصاصين في السلطة يتراجع دائما أمام الضغوط العنيفة - اغتصاب وقتل شعبان غلام السلطان المقرب أو "وسيلة" عشيقته هو شخصيا - بسبب شكه فقط في انهم "عملاء مزدوجون" - فإن موهبته تدفعه إلي تخيل عالم مستقبلي متشابه بشكل كبير مع اليوتوبيا المرعبة لزماياتين واورويل. وبعودته إلي هذه الفترة الزمنية التي تزيد علي أربعة قرون، فان الغيطاني يكشف هدفه: استمرار الرعب والقمع الظلم، وقدرة الإنسان علي اكتشاف أشياء علمية وتقنيات فنية لكنها تتعارض مع مفاهيمه وقيمه، فالقمع الذي يفرضه الحكام المصريون علي الشعب المسلم المؤمن لايختلف كثيرا عن ما فرضته محاكم التفتيش الأسبانية علي أولئك الذين تم تنصيرهم بالقوة ولايختلف عن ما توصل إليه ستالين من فنون التعذيب والعقاب.
يتفاخر زكريا بأنه عين وأذن السلطان:
آلاف من الرجال والنساء والاطفال......
وباقي الجيران، فانه يعلم بها علي الفور".
إضافة إلي تشوقه إلي إقامة مدينته الفاضلة التي وصفها الفارابي وتوماس مور، تلك الأفكار تطارده وتحاصره وتسكن لياليه وتحرسه طوال يوم عمله، تماما كمنافيه الذين يحلمون بأدوات وتقنيات ما كان لها أن تتحقق لسوء حظنا إلا في القرن العشرين، إنها كابوس حقيقي:
.. إنني أري يوما يجيء فيمكن للبصاص الأعظم أن يرصد حياة كل انسان منذ لحظة ميلاده حتي مماته ليس الظاهر فحسب، إنما ما يبطنه من خواطر، ما يراه من احلام، لهذا نرصد كل شيء منذ مولده، نعرف اهواءه ومشاربه بحيث نتنبأ بما سيفعله في العام العشرين من عمره مثلا، فنستطيع منعه أو دعمه قبلها وإذا ما سئل انسان عن الحقيقة الأولية فانكرها يمكن للبصاص استعادة الموقف كاملاً من الزمن فيواجه به من أنكر، أري يوما يجيء فيمكن للبصاص استعادة الموقف كاملا من الزمن فيواجه به من أنكر..".
سنعمل جميعا للتوصل إلي تحويل الإنسانية جميعها إلي بصاصين".
إنها أحلام حققتها محاكم التفتيش تماما كالتي وصفها "جيلمان" عندما أعاد تشكيل المناخ العائلي المحيط ب كفرناندو روخاس" والتي كانت بمثابة العمل الروائي الكبير حول المجتمعات الشمولية التي قامت في قرننا - الذي يوشك علي الرحيل: رقابة إلكترونية للمواطنين يطلقون عليها اسم المجتمعات الديمقراطية - التي لاتتردد في استخدام تلك الأدوات الحيوية لتحقيق التجارب العلمية - ممارسة القمع تحت اسم تحقيق المساواة أو العنصرية - كما في الاتحاد السوفيتي أو ألمانيا النازية - واستخدام أشكال أكثر تطورا في التعذيب في الأنظمة الدكتاتورية، من أول تروخيو إلي العصبة الأرجنتينية إلي ماثياس نجيما وتيودور اوبيانج في غينيا الاستوائية، هذا علي سبيل ذكر القليل من الأمثلة - بينما كان الفارابي وتوماس مور تصورا المدينة الفاضلة من خلال الإيجابيات، وثقة حازمة لاتقبل الشك في تنمية وتنقية القدرات الأخلاقية للبشر، فإن جمال الغيطاني يبدو اكثر شكا في النيات الطيبة والجادة أو المفترض أنها جادة في هذا الاتجاه والتي تترك مكانها للممارسة الواقعية التي تؤكد عكس ذلك وهو ما يكشف عنه تطور حياة الزيني بركات البشرية عندما تتمرد ضد القمع المسيطر عليها، تفعل ذلك من خلال تطلعات نبيلة، لكن حركتها سرعان ما تنجب أنظمة قمعية وخانقة جديدة، هذا التشاؤم في رؤية توجهاتنا يعبر عنها تشومسكي بقوله: "أنها برمجة جينية"، والتي لامهرب منها كما سنري فيما بعد إلا بالتصوف، الذي يجمع بيننا وبين "حديقة الحيوانات" وبين مؤلف "القوادة".
إن لقاء وتمازج تطلعات رئيس بصاصي السلطنة بتطلعات محتسب القاهرة يعتبر تحالفا قاتلا للآمال التي علقها الشعب والطبقة الشريفة علي المحتسب، وتوثر بشكل عكسي يتعلق رئيس البصاصين بأشكال جديدة ومتطورة من القمع والسيطرة.
يقول الزيني: "أساس عملنا إرساء الأمن.. والعدل في ربوع السلطنة وسأقصر حديثي الآن علي دائرة اختصاص (القاهرة والوجه البحري الذي أضافه السلطان إلي نظارة حسبتي أخيراً، أما فيما يخص ربوع الشعر فهذا أمر أنت عليم به، خبير فيه، ولا أقر عليه، وحتي يستقر العدل في ربوع مصر لابد من اقامة اسس قوية ودعائم متينة... سواء عن طريق العامة أو رجال الدين".
بينما كان الزيني ينمي وبإحكام صورته كرجل صالح ومتواضع لا يخاف إلا الله، كان يحرك بمهارة احترام نائبه زكريا عبر الاعلانات العامة والبصاصين وعبر صخب المؤمنين بالمسجد: "زيني، زكريا قواكما الله وحماكما" وحقيقة هذا التحالف غير المقدس نجدها في جملة علي لسان زيني في اليوم الذي يكتشف فيه اللعبة ويوقع الاتفاق مع غريمه:
"أنت، كنائب للحسبة ولي في جميع ما أتولاه من مناصب (قررت هذا أخيراً.. ومما يلحق بي اليوم يلحق بك غداً وما يمسني يمسك".
هذا اللعب بالمصالح في "في المياه الباردة للحساب الأناني لايعرف الوفاء علي الإطلاق، ورع وغيرة الزيني وزكريا في خدمة السلطان الغوري والأمراء المماليك
تكاسلت عن العمل، وكان ما يحركني فكرة الاحترام العميق الذي أكنه له. بالطبع أحب عملي، وأريد دائماً الإجادة فيه، بالطبع لا أريد لأحد أن "يُعلِّم عليَّ"، ولكن فيما يتعلق بجمال تحديداً كنت أحزن فعلاً لو كان متضايقاً مني، لأنه تعامل معي باحترام كبير، وآزرني، كان أباً حقيقياً يعرف ما يشعر به ابنه، أب قاس أحياناً، ولكنه أبوك الذي لن يطعنك لأي سبب من الأسباب أو يتخلي عنك، مهما كان جنونك، أو طيشك، أو تكاسلك.
"مجلس حرب"، كان هذا يعني أن هناك أمراً خطيراً يريد أن يناقشه، يقتصر علي الكبار في الجريدة، لكنه في لحظة أخري سيشعرك بأنك الأهم في المكان حتي ولو لم تكن تحضر تلك الاجتماعات، في البدايات، يسأل عنك بالاسم، ويعرف مزاجك جيداً، ويعمل حساباً لغضبك أحياناً، ويمتصه، ويقبل العتاب، بل ويبرر، لكنه لا يعتذر أبداً.
أمام الضيوف كان يتحدث عنا باحترام شديد، لم أكن مُعيَّناً بعد، وكان يقول لأحد الضيوف مثلاً: "ده زميلي فلان، نائب رئيس التحرير". كان هذا ما أحببته فيه، نظرته إلي نفسه ومعرفته لمقداره الكبير ما جعل ذلك ينعكس علي تعامله مع الآخرين، كان من عينة رؤساء التحرير النادرين الذين يقدرون من يعمل معهم. ألسنا عائلة؟ بكل تأكيد.
12
كانت علاقته بجيله معقدة للغاية، لكنني أشهد أنه كان يحبهم ويقدرهم فرداً فرداً. صحيح أن هناك مناوشات كانت تحدث، مثلما تحدث بين الأخوة، لأسباب لا أعرف كثيراً منها، وأسباب أخري لا أرغب في الحديث عنها، كانت الأمور تسوء بينه وبين بعضهم، لكنها تعود سريعاً. في إحدي المرات قال لي إبراهيم أصلان: "هو جمال ماله؟ فيه حاجة مزعلاه؟"، فسألته: "لماذا تسأل.. هل حدث شيء ما"، قال: "أصل كنت بكلمه من شوية بقوله ازيك يا جيمي، قال لي: ازيك يا استاذ إبراهيم"!! ، وبالمناسبة حينما كان ينطق باسمي وقبله كلمة أستاذ في مرات نادرة كنت أضع يدي علي قلبي، كان هذا يعني أن كارثة ستحل.
في كل المرات التي عملت فيها خارج الجريدة شجعني، شجعني بحماس منقطع النظير، لكن كان يأتي إليَّ من يقول لي في نفس الوقت: "الأستاذ جمال زعلان منك، ويري أن البيت أولي بما تنشره في الأماكن الأخري". كان ذلك يشكل ضغطاً نفسياً هائلاً عليَّ، ومع هذا لم أشعر بالضيق منه أبداً.
كان البساطي هو الأقرب إليه من ذلك الجيل، وكانت بينهما مكالمة أسبوعية يوم الجمعة، يتصل بي البساطي بعدها ويبدأ المكالمة قائلاً: "لسه قافل مع عمك جمال، أو الواد جمال"، بحسب رضاه أو عدم رضاه عنه.
كان جمال ينصت إلي أراء السباطي جيداً فيما يتعلق بأمور الجريدة، وحينما يقول إن هناك كثيرين اتصلوا بي ليقولوا لي إن هناك مشكلة في الجريدة هي كذا"، كنت أعلم يقيناً أن هؤلاء الكثيرين في الأغلب هم البساطي. كان جمال يقدر بهاء طاهر، وإبراهيم أصلان، وخيري شلبي، وصنع الله إبراهيم، وبالطبع صديقه يوسف القعيد، وهناك مواقف كثيرة حدثت أمامي تكشف نظرته إليهم، وهي قائمة بالأساس علي فكرة التقدير والاحترام، ولكن المناوشات التي كانت تحدث أحياناً بينه وبين أحدهم كانت واهية، وتزول سريعاً، بمجرد مقابلة.
لم يحمل جمال ضغينة لأحد، وحتي هؤلاء الذين كانوا يقسون عليه في النقد، الذي يصل إلي درجة التجريح، بمجرد موتهم صفح عنهم، وكان يسبق نطقه لأي شخص منهم كلمة "المرحوم". بالتأكيد كان جمال يخطئ، بالتأكيد كانت لديه حساباته الخاصة، بالتأكيد كان يحب نفسه، ألسنا نحب أنفسنا؟ بالتأكيد شعر بداخله أن إقدامه علي خطوة ما كان خياراً غير جيد، لكنه، بالنسبة لي قطعاً، كان شخصاً عظيماً، وكاتباً كبيراً، تعلمت منه الكثير، وأتمني أن يكون أول من أقابلهم في الحياة الأخري، لأنه بالتأكيد ينتظر بحكايات جديدة لا نعرفها بعد.
فالحكومة تقرر إجراءات رقابية صارمة علي النبأ وتحرك بحرص وكتمان كل ترسانتها الدفاعية المعتادة في حالات الطواريء: بفضل الراوي المجهول فان القاريء يطالع الوثائق السرية لإدارة البوليس العليا التي تثير الفزع تماما كما تثير السخرية. وكذلك وثائق الإدارة العامة للأمن، وقسم الأفكار المعادية للقمع التي تبحث عن أفكار التطرف الديني وتحاربها، وفي الوقت نفسه وبشكل موازي تسري الإشاعة بأن العجز سيصيب الصحفيين والعاملين في الإذاعة والتليفزيون إذا لم ينقلوا بشكل موضوعي حقائق العقاب الذي فرضه الشيخ وكذلك أوامره المنقذة من هذا العقاب. في مثل هذا المأزق وهذا الوضع الحرج، ما القرار الذي يجب أن يتخذ؟
الشر تحول مثل صندوق الطماطم: الصحافة الأجنبية بدأت تتحري الأمر وتتابع تطورات الإشاعة التي أصابت سكان القاهرة، وتحاول معرفة السحر الذي حرمهم من أكثر قواهم إلتصاقا بهم. وطبقا لما كتبه بعض المحللين والمراسلين هذا ليس إلا البداية لوباء جديد طبقا لما يتنبأ به الشيخ، الذي يتنبأ بعالم "متساو وأخوي".
أما هذا الوضع الكارثي الجديد، فان الإدارة العامة للرقابة والتنصت، ومركز جمع وتحليل الإشاعات والنكات يحركان قواهما الضاربة. والمجلس الأعلي للصحافة يذيع بيانا رسميا يكذب فيه الإشاعة بشكل قاطع: سكان حارة الزعفراني يتمتعون بصحة لاتقبل الشك، وما يقال عن سحر أصابهم ليس إلا من صنع خيال مريض لحفنة من الحاقدين والقوي المعادية، التي تحركها عناصر خارجية، وتهدف إلي الإساءة إلي سمعة البلاد الطيبة وتخريب صناعة السياحة.
التدوير الحتمي للرواية يبين مدي دناءة المؤامرات، فرغم الرقابة اللصيقة للشيوعي السابق "رمانة"، التي تقوم بها إدارة الأنشطة المعادية للدولة، وكذلك المعتوه "سلام" المتهم بالتردد علي الشيخ، وبالتطرف الديني، فإن نظريات الشيخ عطية تثير الرعب بين السلطات الحكومية: لأن توجهاته تركز علي الحب غير المحدود للجار، والقضاء علي الجوع والحروب، والقضاء علي الفوارق بين الطبقات، ووجود حقيقة واحدة خفية لابد من إظهارها لتغير وجه العالم كله. انه موسي جديد أو المهدي، فالشيخ يعد ضحاياه بغد مشرق، في انتظار تحقق الوعد الكبير، نجد أن سكان الحارة يبحثون عن مخرج لحياتهم المدمرة بالهرب أو الجنون، إلا انهم يخضعون بشكل أعمي لأوامره. وتنتهي الرواية إلي تحقق تنبؤاته بنهاية العالم: موجات من الأخبار التي تغرقنا بها وكالات الأنباء عن استمرار وباء بوينس ايريس، وباريس، وهولندا، حيث تتزايد مبيعات المقويات الجنسية وتواصل بث الأغاني والأفلام الجنسية في محاولة للتغطية علي الحدث، فمحاولة تطويق ما وقع لا تفلح فتعبر كل الحدود وتشمل البشرية جمعاء...
لنترك الحدث في هذه اللحظة ونركز علي البناء الروائي. الأصول المتفرقة ما بين شهادات وحكايات ونشرات وتقارير سرية وأخبار من وكالات الأنباء، الخ... تتحول كلها إلي مادة تخدم هدف الكاتب: السخرية اللاذعة من رسالة التهديد والإجابة المرتعبة التي قابلت بها السلطات هذا التهديد. فإذا كانت الشخصية الخفية للشيخ تمارس أفعالها في الظلام كغرير نبيل الهدف أو محرك خطر القاريء لايستطيع أن يتبين ذلك، لأنه لايحصل علي دلائل علي ذلك - واختيار "عويس" صبي الحمام ليحمل كلماته يضيف عنصرا جديدا من السخرية في نشر نظريته. ولو أردنا قول الحقيقة، فان هذه الرواية ليس لها أبطال إيجابيون ولا سلبيون: وشخوصها التي تغص بها صفحاتها شخوص هامشية، تتحرك لتحقيق أهداف عديمة الأهمية وعاجزة عن مواجهة الكارثة التي حطت عليها فجأة كطير جارح. وتعاسة سكان الحارة تبدو محاطة بحواشي مضحكة. ومجاز الغيطاني لاعلاقة له بكافكا ولابرواية كامي "الطاعون": ولاتدخل في إطار العبث الميتافيزيقي ولا محاولة وضع أخلاقيات جديدة للمسئولية فشخصيات الرواية تسعي بسلبية إلي مصيرها الذي يكاد يقضي عليها دون أن تحاول الخروج من الأزمة بنتائج إيجابية. العزلة المغلفة بالآمال التي يعيشون فيها كما لو كانوا معلبين، والتي تتحول إلي مجموعة من الهزائم الفظة ولا علاج لها. إحباطهم في مواجهة المجتمع وقوانينه القمعية تتحول بشكل ميتافيزيقي ولكنه واقعي، إلي عجز جنسي، وعندما يفقدون قدراتهم الجينية فإن عدم أهليتهم للتفكير والتحرك كبشر يفكرون، وكمواطنين يتحملون المسئولية يقودهم هذا إلي الخضوع الأعمي لأوامر مخلص البشرية المجنون. تماما كاليوتوبيا الدينية أو الفرضيات العلمية التي تضحي بالحاضر من أجل الحصول علي الجنة الأبدية. فالشيخ المتنبيء يجردهم من كنوزهم الثمينة مقابل الغد المشرق الذي لا يأتي أبدا.
سخرية، تصل أحيانا إلي حد المبالغة كما في خطط معركة المعتوه "حسن" أو السخرية من الممارسات البشرية المحكوم عليها بأن تمارس أخطاء اليوم غدا بسبب انعدام التفكير وفقدان القيم، رواية الغيطاني يمكن قراءتها كنقد للاستبداد السائد في اكثر المجتمعات العربية، ونقد أيضا للعنف والتطرف الذي تحول خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من الماركسية اللينينية إلي اليوتوبيا الإسلامية المتطرفة.
بالنسبة لكاتب من قامة جمال الغيطاني المحاصر بين همين يقلقانه - الظلم وقمع الحاضر، وما يمكن أن يحدث له باسم السعادة الوهمية - فانه لا يجد طريقا آخر غير السخرية والتهكم التي تسيطر علي الرواية بشكل محكم بكل ما تحمله من تشاؤم ورؤية سوداوية.

يتحرر الروائي من الخطاب المكرر لأشكال الكتابة المقدسة التي تدغدغ حواس القاريء المعتاد علي الكتابات سريعة الانتشار مما يجعله يواجه دائما صعوبات جمة ليفتح طريقه باتجاه التعرف علي العمل. قليلون وقليلون جدا الكتاب الذين يحافظون علي الصبر المطلوب للعمل ضد الأشكال العادية والمعروفة مسبقا، والاندفاع في مغامرة لخلق ابداع خاص: الجمهور عادة ما يبدي رفضا لبذل المجهود المطلوب منه لقراءة مثل هذه الأعمال، إضافة إلي جماعات القمع الأدبي ونقاد الأدب الذين يتحصنون خلف مبادئهم التي تعادي أي نوع من أنواع الخلق ويعتبرون الخروج عليها جريمة لاتغتفر.
إذا كانت مثل هذه العقبات تحبط في أوروبا عددا كبيرا من الروائيين الموهوبين وتقلل من قيمة أعمالهم - ما أسهل إتباع نصيحة "لوبي" عن "الكلام الغبي" رغم أن من يمارسونه يحاولون إقامة طقوسهم المتملقة حول سرفانتيس - كيف يمكن المطالبة بهذه البطولة الغبية التي تفوق طاقة البشر من مؤلفي الأدب المهمش في سوق العالم الكبير، من خلال اغبيائه بميدالياتهم الرابحة؟ لذلك. في مواجهة الابتذال المنتشر والحصار المقصود فإن الكتاب الحقيقيين يراهنون علي الأدب من خلال عشقهم الإبداعي واحترامهم للانتساب إلي الكتاب الذين يشكلون الشجرة التي تجمعهم معا.
أعمال جمال الغيطاني الكبيرة تشكل، تماما كما تشكل أعمال الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس في اللغة الأسبانية، عمارة جميلة معمارها وشكلها يمكن الإحساس به عبر مسافة طويلة: كل رواية تشكل جزءا من هذه العمارة وتسد فراغا وتشكل أقواسا وقبابا فريدة تثير الإعجاب، وتشكل جزءا أو وحدة من وحدة أكبر وأشمل وأكثر رقيا، تتنامي وتتداخل من خلال مكانتها في شكل أكثر اكتمالا ولاتبدو للعيان لأول وهلة. وما هو مرئي منها يغني بقوته المغناطيسية عن ما هو خفي. القاعدة الاجتماعية ونقده المستمر يعتمدان علي روحانية التجربة الشخصية، التي يبدو فيها الظاهر غلافا وكاشفا للباطن.
تعبر "متون الأهرام" بشكل مثالي عن تصميم الروائي، منطلقا من مسطح عادي تتداخل وجوهه المستطيلة متشكلة في قمة رأسية متعامدة علي وسطها تماما كالمعابد الفرعونية، يراكم الغيطاني نصوص كتابه واحدا فوق الآخر بادئنا من الأكبر إلي الأصغر لتصل إلي القمة أو الفراغ النهائي للاشيء. معمار خارجي تصطاده عين القاريء/ المتأمل، لكنها تظل نتيجة لفترة من الالتهام الذي يقطر اللغة ويختزلها إلي كلمات جوهرية.
النصوص، مستقلة فيما بينها، تجري كلها نحو البحث عن اللغز، سر الأهرام يجذب المغامرين القادمين من المغرب الأقصي، والسلاطين الفاتحين لمصر، والفتيان الباحثين عن أرض الأسرار والدخول في ضباب المجهول، وعشاق الكمال المرتجفين كلهب النار التي تحرقهم، والحالمين الذين يفقدون عقولهم في صمت الذهول.
جمال الغيطاني قاريء خصب بانصهاره مع "ابن عربي" يتوه بنا في سراب ومتاهات الأهرامات ودهشتها الأبدية علي مر القرون "الذين يبحثون عن الذهب يحفرون كثيرا ويعثرون علي القليل"، كما يقول هيرقيلطيس Hreclito. الباحثون عن سر خوفو وخفرع ومنقرع لن يجدوا شيئا غير الرغبة التي يحترقون بها، خبراتهم المتراكمة تبدو متراكمة وتتخذ شيئا فشيئا شكل الهرم الناقص، نص جديد مصغر يضاف إلي التراكم علي الرواية السابقة، الكلمات تنفد، تكرر تمتمة المتصوف في مواقف الحيرة. في الأعلي، في لا شيء اللاكينونة، تضيع الشكوك. الفناء الكاشف يختلط بالصمت: زوال السر النهائي.
أنه عمل جميل ومستفز، رواية الغيطاني تربط "الحداثة الحادة" التي دعا إليها أنطونيو ساورا بالينابيع الأكثر عمقا وصفاء لرسائل وأشعار المتصوفة. وبياض صفحته الأخيرة بياض كتاب لاينتهي، يظل يلقي بضوئه علينا حتي بعد رحلة الضيق والحصار: الدوار الفسيح لمكان الأمكنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.