خمسة مجلدات، ولا تزال غواية إبراء كارل أوفه كناوسجارد من خطيئة الغرور باقية- غواية العثور، في روايته السيريَّة متعددة الأجزاء »كفاحي«، علي شأن آخر خلاف حياة كارل أوفه، مسألة أخري بها من العمق ما يسوغ آلاف الصفحات تلك. في وقت مبكر هذا الشهر، ناقش ريو سباث في مقال عن الجزء الخامس، نُشر في النيو ريبابلك، أنّ رواية »كفاحي« ما هي في الواقع إلا: تعقيب علي الحياة المعاصرة في الغرب، رواية جارفة الأفكار تنتمي لتقاليد توماس مان وفيدور دوستوفسكي. بعض النقاد الآخرين ربطوا بين كناوسجارد وبروست، الّذي لم تكن روايته مجرّد قصة حياة بل استبصار فلسفي لفلسفة الجمال، والزمن، والفردية. ويُعتقد أنّ الجزء الأخير سيكشف عن التصميم المنطقي الرفيع للرواية. أتفهّم تلك القراءات للكتاب، لكن شيئاً ما داخلي يعارض. حين أعدد الملذات والمفاجآت التي منحتني إياها الرواية، أجد أنّها لم تضف الكثير بالنسبة للمسائل الفكرية. الكتاب لا يتعلّق حقّاً لا بالسياسة ولا بالجماليات ولا بطبيعة المجتمع، بل دفعتني رواية "كفاحي" للتفكير أكثر في حياتي الشخصيَّة، ولاسيما، انفعالاتي. لقد أعادت اطلاعي علي حيوية المشاعر. إنّها تعليم وجداني. يُغطّي الجزء الخامس من الرواية، وعنوانه "لابد أن يهطل بعض المطر"، في طبعة المملكة المتحدة، فترة عصيبة في حياة كارل أوفه- فترة العشرينيات، تقريباً. في البداية، يكون في التاسعة عشرة من عمره حيث يلتحق بأكاديمية الكتابة في برجن، وفي النهاية، يكون قد نشر رواية تلقي استحساناً. السنوات الفاصلة التي تفضي لذلك النجاح، علي أي حال، بائسة، وأحياناً مشوشة. يقضي كارل أوفه سنوات كادحاً ببعض الصفحات القليلة الشّاقة من رواية (يُعيد طباعتها كناوسجارد كاملة). يقع في الحبّ، ينكسر قلبه، يتزوج، يخون، ينتهي بالطلاق. يفرط بالشرب ويتحوّل إلي لصّ تافه ومُخرِّب. يعمل ساعات طويلة في مصحة عقليَّة وفوق منصّة تنقيب عن النفط في بحر الشمال. يرتكب أيضاً عملين عنيفين صادمين- مرّة ضد نفسه، ومرّة أخري ضد امرأة يحبها. هذان الصنيعان يلوحان كأنّهما نابعين عن شقاء لا يُحتمل درجة لا يُمكن مقارنته بهما.
في أجزاء سابقة، شهدنا كارل أوفه أصغر يناضل من أجل استيعاب طاقات أبيه السوداء. أمّا في الجزء الجديد، فلم يعد أبوه مؤذياً- إذْ أسس عائلة جديدة في رقعة أخري بالنرويج- لكنه يصير مدمناً للكحول حدّ الانتحار، وانقلبت قتامته إلي داخله. يوشك كارل أوفه الآن، والّذي طالما تمنّي رؤية أبيه ميتاً، علي الجنون بسبب الحقيقة الواضحة أنّ أبيه يحتضر. إنّه مزيج كارل أوفه القلق من الخوف، والكرب، والإحساس بالذنب، والغضب الّذي يجعل "كفاحي" تبدو، أحياناً، دوستوفسكيَّة: إذْ يحسّ، وأحياناً يتصرّف، مثل قاتل. (في بداية الكتاب، وحين يعرف أنّ جريمة قتل قد وقعت في حيه، يتخيَّل نفسه قاتلاً هارباً) مع ذلك، عند قراءتي هذا الجزء الأخير، راودني شعور أكثر حِدّة من المعتاد أنّني كنت أدعم كارل أوفه؛ فالرواية شجيَّة لا بسبب حزنه بل بسبب تصميمه، والّذي غالباً ما يُحبط، علي انتزاع سُمّ أبيه من حياته- رجاؤه الوحيد في تحقيق مظهر من مظاهر السعادة وسلامة العقل. صرّح كناوسجارد في لقاء صحافي مع أندرو أوهاجان عام 2014 : "كنت مضطراً للتخلّص منه، لقد كان هذا مشروع حياتي. التخلّص من حضوره داخلي." لا يتولد الألم النفسي بتجارب كارل أوفه بسبب الآخرين فقط، لكن بما يضفيه صدي وجودهم علي حياته وشخصيته. مثل تلك المعاناة قد تبدو هلامية مثل أجواء مُحيطة، لكنها مفيدة رغم ذلك لمنح تجربته شكلاً مجازياً. بالنسبة لكارل أوفه، الاستعارة سياج. ذلك أنّه يحسّ نفسه محتجزاً داخل قفص بصرف النظر عن مكان تواجده. ورُهاب الأماكن المغلقة، شأن كل المشاعر، له ايقاع. حين يكتشف كارل أوفه بعض الخبرات التي تمنحه متسعاً نفسياً- لما يتعثّر بمكان حيث ينفتح العالم، كما يصيغ حالته غالباً- يتلفت حوله في حيرة ويسأل نفسه، تُري كم يُمكنني البقاء؟ والإجابة دائماً، ليس لفترة طويلة. في الجزء الجديد، يواعد كارل أوفه شابة سعيدة رصينة اسمها جنفور. متزنة، واثقة، عميقة التفكير، متأنيَّة، مرتاحة، متصالحة مع عائلتها- من وجهة نظره، هي غالباً مخلوق غير أرضي. تتقاسم جنفور عالمها المنفتح مع كارل أوفه، ورغم ذلك يدرك أنّها لن تكون له، وفي النهاية يضع حدّاً لعلاقتهما. إنّ المرء حين يُمعن التفكير بالأجزاء الخمسة، تصيبه الدهشة إزاء الفترة التي قضاها كارل أوفه من حياته متتبعاً الطرقات التي تفضي إلي الحرية. جرّب الموسيقي والشرب والجنس، لكن تلك التجارب تنتهي سريعاً. في الجزء الأخير، تطرح البدائل التي تدوم طويلاً نفسها. في الجامعة، يدرس كارل أوفه الأدب ويبدأ بقراءة التاريخ والنقد، وحين يقرأ تلك الكتب يراوده الشعور أنّ: شيئاً يتكشّف. "إنّ عالمي بأكمله يتألف مِن كينونات اعتبرتها أموراً مسلماً بها، وكانت لا تتزعزع كأنّها حجارة وجبال العقل. الهولوكوست إحداها، عصر التنوير كينونة أخري. أستطيع شرحها، وكانت لديّ صورة واضحة عنها، شأن الجميع، علي أنّي لم أفكِّر أبداً فيها، ولا سألت نفسي عن الظروف التي جعلت تلك الكينونات ممكنة. بمجرّد أن قرأت كتاب هوركهايمر وأدورنو جدل التنوير، الّذي لم أفهم منه إلا القليل، تكشّف لي شيء ما بشأن تلك الأمور التي قد تتراءي بطريقة وكذا قد تتراءي بطريقة أخري، فقدت الكلمات قوتها، ولم يعد ثمّة شيء اسمه هولوكوست، ذلك أنّ ما كان المصطلح يُشير إليه كان معقداً لدرجة لا تُصدق، وصولاً إلي المشط في جيب السترة الموجودة داخل كومة السترات في المستودع، لقد كان يخصّ فتاة صغيرة، مجمل حياتها يتواجد في مصطلح الهولوكوست." المفاهيم الكبري الأخري، يواصل كارل أوفه- مثل الشر، اللامبالاة، الإثم والإثم الجماعي، المسئولية الفردية، المواطن العالمي، الانتاج الشامل، انقراض البشرية- تكشّفت هي الأخري عبر قراءته. يكتب: صار العالم نسبيَّاً، لكن أكثر واقعية أيضاً. تأصلت الأكاذيب أو سوء الفهم أو الخداع داخل مفاهيم الواقع، لا الحقيقة، التي تعذر وصول اللغة إليها. كان من الممكن، بايجاز، تبيّن وجود فجوة بين الأفكار التي نملكها بشأن الواقع، والواقع نفسه. هذا إدراك فكري، بالطبع، نوع من الشكّ. لكن كارل أوفه يرتاب أيضاً أنه ربما تكون له أهمية شخصيَّة. يُمضي أغلب الجزء الخامس في تعقّب حدس كتابي يتعلّق بالمسافة بين الأفكار والواقع. تبدو تلك الفجوة كأنّها تستطيع بوسيلة ما، أن تصبح سبيلاً خارج عالمه الموصد، لكن طريقة الهروب ذاتها تظل، لحدّ كبير، بعيدة المنال.
حين سأل أندرو أوهاجان كناوسجارد خلال لقاء عام 2014 الصحافي، هل كانت عملية كتابة "كفاحي" بمثابة علاج- أم أعانته علي قهر الخوف من أبيه- أجاب كناوسجارد بالنفي. وتابع: "أتصوّر أنّ الكتابة شيء مُغاير. تتعلق الكتابة بدرجة أكبر بالتحرر من كل شيء، التحرر مما تعرفه. فيما يتعلّق بأبي، كان لي رأي فيه، واضطررت لتحرير نفسي من ربقة هذا الرأي. تستطيع عمل ذلك في الكتابة إن تكتب عن نفسك- تعرف، لحظات النشوة هذه حين تنكر ذاتك... بعدها، تتحرر، بعدئذ تستطيع الكتابة عن أي شيء. لقد أردت التخلص من مفاهيم البشر في حياتي، مما جري بالفعل، من فهمي لحياتي. اضطررت للتخلص من كل ذلك، والسعي لإعادة اختلاقه، لكن بصورة هيوليَّة كطبيعته حقّاً." حين شاهدت هذا اللقاء أول مرّة، أصابتني الحيرة. كيف بالضبط تختلف عملية: التحرر مما تعرف، عن عملية العلاج؟ عقب قراءة الجزء الخامس، أتصوّر أنّني وعيت الاختلاف. لم ينتصر كناوسجارد بكتابته رواية "كفاحي" علي مخاوفه من أبيه، بل فعل النقيض وأعاد اختلاقها. جعلها أكثر واقعيَّة داخل ذهنه، أكثر هيوليَّة مما ظنها وسمح لها زمناً طويلاً. أثناء ذلك، أعاد نفسه مرّة أخري إلي الحياة، وذلك لأنّه فضلاً عن إعادة اختلاق هذا الخوف، أعاد اختلاق كل شيء آخر- الجمال، الحزن، الاحباط، القلق، البراءة، الوضوح- الّذي، رغم ثراءه، كان متوارياً أسفل، حجارة وجبال العقل. هذه طريقة مألوفة في التفكير. أغلب الأجزاء المؤلمة بحيواتنا يسهل التعاطي معها حين تنقلب إلي أفكار. أب كان مدمناً للكحوليات، يحتضر جراء الشرب، عاش تعيساً وأتعس الآخرين- تلك الصورة الجليَّة المحرومة من العفوية والعشوائية والتعقيد والالتباس، يمكنها أن تساعدنا علي الاستمرار في الحياة. لكن لها تكلفتها أيضاً: إذْ أن الحفاظ علي مثل تلك الفكرة يتطلب منا تبسيط ما نعرفه وتبسيط ماهيتنا. الألم يمكنه تجميدنا، لكن في النهاية نحتاج إلي كسر هذا الجمود. من هذا المنظور، تمثِّل رواية نضالي ذوباناً. نحنُ أسري لأنّنا نراقب شخصاً ذا حساسية وذكاء غير معتادين يُعيد التعارف علي حياته ونفسه، ويطرح النجاح الواسع للكتاب فكرة أنّ الكثيرين مِنّا- المجمدون كل بطريقته الخاصّة- يتلهفون بعمل الشيء نفسه.
غالباً ما وُصِفَ أسلوب الرواية بأنّه ذاتوي. وقيل أنّه يلتقط الانطباعات اليومية العادية والمبتذلة. ومع ذلك ربما كان الأدق وصف أسلوب كناوسجارد بالزهد واللامفاهيمي أو الحر. كتابته شخصيَّة لحدّ بعيد، لكنها أيضاً غيريَّة. يكتب عن نفسه، لكن دون اللجوء إلي الأفكار الجامدة التي تتألف منها النفوس. يكتب كناوسجارد بشكل جميل عن المناظر الطبيعية، ويصف حياته الداخلية بالطريقة ذاتها التي يصف بها مشهداً طبيعيَّاً، مسجلاً ببساطة ودقة ناعمة، ما يجري هناك. وسيصف، بنفس النبرة السلسة، سطح الجبل المنحدر الأخضر، الشّاي في الكوب، مشاعر الخوف. تتوحّد المشاهد الداخلية والخارجية، وقد ابتكر لها سرداً جديداً: يسجل تفاصيل لحظات وجوده، لكن ليس من منظوره الشخصي. إنّ الهدف من أسلوب كهذا هو التوحّد مع العالم. بالجزء الأخير من المجلّد الخامس، يجري كارل أوفه لقاءً صحافيَّاً مع شاعر وروائي نرويجي اسمه رون كريستيانسن. يمضي اللقاء بشكل جيد. يكتب كناوسجارد: "حين غادرت للحاق بالحافلة المتجهة إلي البلدة الريفية أحسست كأنّ كل شيء في متناول يدي. كنت وسط شيء هام، وكان كل ما عليّ هو أن أمدّ يدي إليه." كان هذا شعوراً ملتبساً، شيء لا يمكنك البناء عليه، لكن رغم ذلك علمت أنْ كان لي شيء هناك. في قلب الضباب، عتمة الغابات، داخل قطرات الندي التي تتساقط فوق إبر الصنوبر. داخل الحيتان التي تسبح في بطون البحار، داخل القلب الّذي يخفق في صدري. ضباب، قلب، دم، أشجار. لِمَ تبدو شديدة الجاذبيَّة؟ من أين لها تلك القوة التي تغريني بها؟ تلك التي غمرتني بمثل تلك الرغبة الهائلة؟ ضباب، قلب، دماء، غابات. آه، لو أنّني أستطيع الكتابة عنها، كلا، ليس الكتابة عنها لكن أن أجعلها كتابتي، عندئذٍ أصير سعيداً. عندئذٍ أنال راحة البال. تتخيّل الرواية نوعاً الحرية المطلقة- حرية روحيَّة قائمة علي الوضوح الجوهري. فسيحة ومجرّدة، مع ذلك لا تزال انسانيَّة. صلبة، ضد الايديولوجيا، وفوق كل شيء، عاطفية. ما وراء السعي إلي معرفة النفس، ربما جنباً إلي جنب معه، وربما داخله، ثمّة سعي لمعرفة الكون. عن النيويوركر أكد كناوسجارد أكثر من مرة علي التناص المقصود بين عنوان روايته وعنوان كتاب أدولف هتلر "كفاحي"، وأثار هذا التناص اهتمام وتساؤلات نقاد كثيرين، لذا ف"كفاحي" هو العنوان الأدق لروايته ذات الأجزاء الستة بالعربية.