تُري، ماذا يجري حين يُخطئ مؤلِّف يساوي ملايين الدولارات التقدير؟ تقريباً لا شيء. خُذ عندك مثلاً حالة هاروكي موراكامي وروايته الأخيرة "تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حَجِّه". فكرة الرواية مشوِّقة: ماذا تفعل حين يلفظك أعزّ أصدقائك من الشِّلة دون أدني تفسير؟ لكن السرد بليد وقد عكّره أسلوب موراكامي اللامبالي في تطعيم الرواية بشخصيات غريبة الأطوار- ناس بستة أصابع وقوي روحانيَّة ذ لا تسهم في النهاية بأي حظّ في التفسير بالغ البساطة لما جري حقّاً. لم يلق الكتاب سوي مراجعات بين المشوشة والغثّة من معجبين مُحرجين ونقّاد يتوقون للثأر، ومع ذلك، سرعان ما بيعت ملايين النسخ بكل أرجاء العالم ليظلّ اسم موراكامي علي قائمة المرشحين المحتملين للفوز بجائزة نوبل. تُري كم مرّة ينبغي علي موراكامي أنْ يُخفق فيها، يُخفق لأبعد حدّ، قبل أنْ يكفّ معجبوه وناشروه عن دعمه؟ عدد ليس بالقليل. في الحقيقة، بصرف النظر عمّا يكتبه موراكامي فمن المتعذِّر تقريباً تصوّر تدني مبيعاته للحدّ الذي يمكن اعتباره معها غير مُربح. وهكذا، يجد الروائي الياباني نفسه في مكانة يُحسد عليها (بالنسبة لفنّان) حُرّاً في المجازفة دون أن يخشي خطر فقدان دخله، أو حتّي منزلته. ليست هذه حال الكتّاب الأقل نجاحاً؛ فالروائيون الّذين يسعون إلي كسب لقمة عيشهم من كتاباتهم سيواجهون متاعب لا محالة، إذا ما أصاب الشكّ ناشر ما في نجاح هؤلاء الكتاب في تحقيق تقدّم مقبول، وإذا نُشر كتاب ما ولم يحقق المأمول منه، فإنّ تردد الناشرين سيزداد بالمرّة التالية مهما تكن جودة العمل المطروح. إنّ المؤلفين في هذا الموقف سيفكرون مرّتين قبل الإقدام علي أمرٍ مماثل، وسيميلون إلي منح الناشر ما يرغب فيه، أو سيسعون إلي ذلك. لقد زادت العراقيل التي تواجه الكتاب غير المتحققين جيداً بالسنوات الأخيرة حين قررت أغلب دور النشر الكُبري السماح لموظفي المبيعات لديهم بالإدلاء بآرائهم بشأن أي الروايات تُنشر وأيها لا. وقد نقل المحرر فيليب لانجسكوف بلقاء أخير جري في أكسفورد بعنوان الفاعليَّة الأدبيَّة، السؤال الّذي لا تفتأ فرق المبيعات تكرره دائماً عند تقديم رواية جديدة وهو: لكن ماذا عن الكتاب الآخر؟ وبالطبع من غير المرجّح أنْ تتغلّب أي رواية علي رفض موظفي المبيعات إلا إذا أثبتت شبهاً أكيداً برواية أخري حققت نجاحاً تجاريَّاً بالفعل. لكن حتّي إذا نحينا المسائل المالية جانباً، فإنّني أودّ بحث مسألة وجود ممانعة متزايدة بكل المستويات ضد المغامرة في كتابة الرواية، وهو جُنوح ينسجم مع الرغبة التوّاقة الشّائعة والمتناميَّة دوماً لتلقي ردّ فعل إيجابي، أو علي الأقل عدم تلقي ردّ فعل سلبي بشأن كل ما نفعله تقريباً، باستمرار وعلي الفور. وهي الوضعيَّة التي تفضي إلي شيء سأصفه ربما، للمفارقة، باستشراء الخضوع/ التكيف؛ حيثُ يفقد الناس اتزانهم لمجرّد الحصول علي الاعتراف الأدبي. كيف أدعم هذه البديهيَّة؟ لقد اندست عند نقطة ما إلي الحوار مسألة أنّ المبيعات المرتفعة مرادف للإنجاز في الكتابة. ربّما حقوق الملكيَّة الفكريَّة مسئولة جزئيَّاً؛ إذْ يتحدد المقابل المالي لعمل الروائي بناءً علي نسبة من المبيعات، وبالتالي تصطف مصالح الكاتب والناشر باتجاه واحد كي نعتاد علي التفكير في الكتب بناءً علي اعتبارات النسخ المبيعة منها. أضف إلي ذلك نظرة المساواة المفروضة الآن علي الجميع والقائلة بأنّ كافّة استجابات القراء علي نفس القدر من الأهميَّة، وأنّك تستطيع بكل بساطة التعوّد علي الحكم علي المنجز الأدبي بمعايير عدد القراء لا بمعايير الجودة. لذا، حين يقوم النقّاد بمدح رواية يحبونها، فإنّهم غالباً ما يعطوننا انطباعاً، أو لعلهم يسعون إلي إقناع أنفسهم، أنّ الكتاب حقق نجاحاً تجاريَّاً هائلاً، حتّي حين تكون الحقيقة خلاف ذلك. هكذا كان الحال مع كارل أوفه كناوسجارد، في الحقيقة يتعذّر علي المرء تصوّر الإعلان عن اسم تحفة أدبيَّة وقبول عدم تحقيقها مبيعات في آن. بالمقابل، تحدثت الكاتبة كريستي جنّ مؤخّراً (مرّة أخري في مؤتمر الفاعلية الأدبيَّة) عن لحظة كاشفة حين كانت هي وزوجها المحرر ديفيد جراهام وآخرون يحتفلون بحدث بارز آخر هو النجاح الفريد لرواية يان مارتل "حياة باي"، التي يُعدّ جراهام مسئولاً عن نشرها بالمملكة المتحدة. تقول جنّ في وصف لحظة ارتياع عارم: فجأة، اضطررت لمغادرة القاعة. وقد أدركت أنّنا قد بلغنا حدّاً نحكم فيه علي الكتب تبعاً لمبيعاتها. لقد ظلّت حقوق الملكيَّة الفكريَّة معنا ما يزيد علي المائتي سنة، لكن وسائط الميديا الإلكترونيَّة وردود الأفعال الفورية التي تقدمها فاقمت آثارها مؤخراً بدرجة مثيرة. أعلن مثلا عن مقال ( مثل هذا) علي الفيسبوك وستتمّكن من عدّ، علي مدار الساعة، كم شخصاً رآه، ونقره وأعجب به ...الخ. انشر رواية وستري علي الفور أين تنزل في تقديرات مبيعات أمازون (أذكر ناشراً أرسل لي الرّابط حين زحفت روايتي قَدَر، بشكل مُدهش إلي قائمة أعلي عشرين رواية مبيعاً بالمملكة المتحدة علي أمازون- لحوالي ساعة). خلافاً لذلك، تستطيع التعقّب من يوم لآخر عدد القراء الذين كتبوا مراجعات أو عدد النجمات اللائي منحوها لكتابك. إنّ كل ما حولنا يتواطأ لدفعنا للالتصاق بقوّة استحواذيَّة بردّ فعل العالم علي كل ما نفعل. يتحدّث جوناثان فرانزن عن هذه الظّاهرة في روايته الجديدة "نقاء"، ويطرح ببساطة مسألة أنّ الإنترنت حين يوفِّر لنا الفرصة لنتحقق باستمرار مما إذا كان الناس يتحدثون عنا أم لا، فإنّه يُشدد في الوقت ذاته علي الخوف من خسارة أيّما رواج حققناه: الخوف من ضياع الشعبيَّة وعدم الاكتراث لنا...الخوف مِن الاحتراق والنسيان. بالتالي يخضع الروائي الناجح لتشجيع مستمر كي ينتج المزيد المشابه لما حقق نجاحاً من قبل. يعلِّق موراكامي علي ذلك في أحد اللقاءات بأنّه أمر: غير معقول، أنا أكتب رواية كل ثلاث أو أربع سنوات، والناس في انتظار ما أكتب. لقد أجريت لقاءً مرّة مع جون إرفنج وقد كاشفني أنّ قراءة كتاب جيد إنجاز هام، متي أدمنه القراء، ظلوا في انتظار مثيله علي الدوام. طيب، هل الإدمان ما يتعيّن علي كتّاب الأدب طلبه من القراء؟ لو قبل كاتب بمثل هذا الإدمان، أو حتّي ابتهج به فقط، كما يبدو بالنسبة لموراكامي، ألا يمثّل هذا ضغطاً علي كاهليه، كقوّة دافعة، لتقديم المزيد من الشيء نفسه؟ في الحقيقة مِن المنطقي أكثر أن نعزو إخفاق (جمالياً لا تجاريَّاً) "تسوكورو تازاكي عديم اللون" و"نقاء" فرانزن حقّاً، لا إلي رغبة المؤلِّف في القيام بمغامرات مثيرة مع مواد جديدة (كرواية ايشيجورو العجيبة "العملاق المدفون" مثلاً)، لكن بالأحري إلي محاولة باهتة منهكة لإعادة إنتاج كتاب رائج آخر في السياق ذاته. كلا الكاتبين لجأ في الماضي إلي تشتيت لافت للاهتمام بعيداً عن عملهما الأصلي (أي كتابة الرواية)- فرانزن بكتابه مفرط الحساسيَّة "مشروع كراوس" (الإشارة هنا إلي ترجمة فرانزن لنماذج من كتابات المفكر النمساوي كارل كراوس عن الألمانية)، وموراكامي بكتابه الجذّاب عن الركض- لكن في ما يخص الرواية، يتقهقران إلي الصيغة القديمة ذاتها، لكن مع غياب ربما الطاقة أو الإلهام الأصليين. الحرية المالية ليست هي ذاتها الحرية النفسيَّة. مع ذلك يحتاج الكتّاب الجدد إلي التعرّض لخطر الإخفاق من أجل إبداع شيء أصيل، في الحقيقة إلي مغازلة هذا الإخفاق، جماليَّاً وتجاريَّاً، وإلي تكرار هذا الإخفاق المرّة تلو الأخري طوال حيواتهم، وهو الأمر الّذي يصعب التوافق معه في ظل النزوع المتنامي للنظر إلي كتابة الرواية بوصفها مهنة عاديَّة. سأل واحد من الحاضرين كريستي جنّ عقب كشفها عن رفضها المطلق للكتابة وفقاً لمفهوم الناشر عن الرواج: وكيف عشت ككاتبة طوال عشرين عاماً وأكثر؟ فكان ردّها المتحفِّز: من الوظيفة. هل هذا ممكن حقّاً، أن يحظي الكاتب بالحريَّة؟ الحرية من قيود الحاجة الملحة للمال، والحاجة للمديح، والقلق بشأن ردّ فعل المقربين منك علي ما تكتب، وقيود المضامين السياسيَّة، ولهفة ناشرك لكتاب يُشبه كتابك الأخير، أو الأسوأ، يُشبه أيّما صرعة رائجة. بصراحة، أشكّ في ذلك. ربّما يكون وجود مقياس للحريَّة، ينسجم مع ظروفك الشّخصيَّة، أقرب إلي الإنجاز. عموماً، هنا، وآمل أن تكون ذات جدوي، فكرتان مستلهمتان من تجربتي الشخصيَّة: طالما لا تتعارض مع انتظام عمليَّة الكتابة، لا ينبغي الاستخفاف بالوظيفة أبداً. ذلك أنّ وجود دخل ثابت يتيح لك الفرصة للمغامرة. لا ريب لم أكن لأكتب "أوروبا" و"علمنا القعود ساكنين"، لولا رسوخ الوظيفة الجامعيَّة. كنت أعرف أنّ أسلوب أوروبا الاستحواذي والصارم، ومحتوي علمنا القعود ساكنين بسرده المفصّل لكوابيس تتعلّق بالتبوّل، سيتسببان في عزوف الكثير من القراء، وقد حدث؛ إذْ رفض أحد المحررين البارزين التطرق إلي كتابي "علمنا....": »لأنّ كلمة بروستاتا تصيبني بالغثيان.« مع ذلك حظي الكتابان بجمهور متحمِّس ألهبته قراءة شيء مختلف. حين تسعي لكتابة شيء جديد بحقّ، إياك أنْ تعرضه علي أي أحد قبل الانتهاء منه، إياك والكلام عنه، أو السعي وراء استكشاف ردّ فعل الآخرين عليه. نمّ عزلة تامّة. كان الكاتب السويسري روبرت فالسرْ قد انتبه مرّة إلي أنّ: أي شيء عظيم وجريء لابد أن يولد في كتمان وصمت، وإلا فسد وذهب أدراج الرياح، فتنطفئ النّار التي اشتعلت. مِن الغريب أنّ تلك الظروف علي الأرجح لن تطالك إلا في بداية اشتغالك بالكتابة، في الوقت الّذي لا تنتظر فيه أن تجني مالاً من الكتابة، وحين لا يكون ثمّة من ينتظر ما تكتب، وهو ما يُفسِّر السبب وراء كون أكثر الروايات جرأة- "الطبل الصفيح" لجونتر جراس، "منزل الكذّابين" لإلسا موارنتي، و"جيم المحظوظ" لكينجسلي أميس، و"الحارس في حقل الشوفان" لجيروم ديفيد سالينجر، و"أعلنوا مولده فوق الجبل" لجيمس بالدوين، و"الطابق المسروق" لنيكلسون بيكر، V. لتوماس بينشون، "تدبير منزلي" لمارلين روبنسون- هي الروايات الأولي لأصحابها في الغالب. وهكذا، يبدو أنّ الشهرة تسبب الخضوع. عن: نيويورك ريفيو أوف بوكس