45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 17 مايو 2024    مدفعية الاحتلال تستهدف محيط مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    طائرات الاحتلال تطلق النيران بشكل مكثف على مناطق متفرقة في مخيم جباليا    قلق في إسرائيل بعد إعلان أمريكا التخلي عنها.. ماذا يحدث؟    غدا.. بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني للشهادة الإعدادية في البحر الأحمر    استئناف الرحلات والأنشطة البحرية والغطس في الغردقة بعد تحسن الأحوال الجوية    «الأرصاد» تكشف طقس الأيام المقبلة.. موجة حارة وارتفاع درجات الحرارة    الإثنين.. المركز القومي للسينما يقيم فعاليات نادي سينما المرأة    باسم سمرة يروج لفيلمه الجديد «اللعب مع العيال»: «انتظروني في عيد الاضحى»    دعاء تسهيل الامتحان.. «اللهم أجعل الصعب سهلا وافتح علينا فتوح العارفين»    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة.. نور بين الجمعتين    يوسف زيدان: «تكوين» امتداد لمسيرة الطهطاوي ومحفوظ في مواجهة «حراس التناحة»    موعد مباراة ضمك والفيحاء في الدوري السعودي    عاجل - حالة الطقس اليوم.. الأرصاد تعلن تفاصيل درجات الحرارة في محافظة أسيوط والصغرى تصل ل22 درجة    «قضايا اغتصاب واعتداء».. بسمة وهبة تفضح «أوبر» بالصوت والصورة (فيديو)    بسبب زيادة حوادث الطرق.. الأبرياء يدفعون ثمن جرائم جنون السرعة    بسبب عدم انتظام الدوري| «خناقة» الأندية المصرية على البطولات الإفريقية !    الاستخبارات العسكرية الروسية: الناتو قدم لأوكرانيا 800 دبابة وأكثر من 30 ألف مسيرة    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الجمعة 17 مايو 2024    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    لبلبة: عادل إمام أحلى إنسان في حياتي (فيديو)    بركات: الأهلي أفضل فنيا من الترجي.. والخطيب أسطورة    وقوع زلازل عنيفة بدءا من اليوم: تستمر حتى 23 مايو    أضرار السكريات،على الأطفال    بعد قفزة مفاجئة.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالصاغة    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    من أجل بطاقة السوبر.. ماذا يحتاج برشلونة لضمان وصافة الدوري الإسباني؟    هل يشارك لاعب الزمالك في نهائي الكونفدرالية بعد وفاة والده؟    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    محافظ جنوب سيناء ووزيرة البيئة يوقعان بروتوكول أعمال تطوير مدخل منطقة أبو جالوم بنويبع    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    فصائل عراقية تعلن استهدف موقع إسرائيلي حيوي في إيلات بواسطة الطيران المسير    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    في خدمتك| تعرف على موعد تشغيل قطارات العلاوة الخاصة بعيد الأضحى المبارك    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعيداً في لاروشيل
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 03 - 2016

كنت في حاجة إلي الابتعاد عن كل شئ حولي رغم أنه لاشئ حولي جديد في عبثيته، رغم أني علي المستوي الشخصي أشعر بكثير من الرضا. فلقد أنجزت في عامين روايتين حازتا علي إعجاب القراء والنقاد ووصلت إحداهما إلي القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد عام 2015 وهي رواية "هنا القاهرة "المنشورة في بداية عام 2014 وفازت الثانية بجائزة قطارا في نفس العام وهي رواية "أداجيو" المنشورة في نهاية عام 2014 كما أصدرت في أول عام 2014 أيضا كتابي " ماوراء الكتابة تجربتي في الإبداع " وكالعادة أكتب مقالاتي في الصحف السيارة، الأخبار مثلا، وغيرها. لم تكن آلامي الصحية سببا في ضيقي من أي شيء ولا رغبتي في الابتعاد عن أي شيء فهذا أمر أتقبله لأني أعرف معني التقدم في العمر. لكن ودون مواربة كنت أشعر بضيق كبير من الأحوال السياسية في البلاد التي تدور ولا زالت في دائرة خارج حدود العقل والتوقع. والتي يمكن إجمالها في كلمات قليلة وهي أنه بعد ثورة عظيمة مثل ثورة يناير ماكان للسجون أن تنفتح لمن قاموا بها وماكان للفضائيات أن تدخل بها في دائرة المؤامرة، لا لشيء إلا كي يعود النظام القديم في شراسة وانتقام. كنت ولا زلت مثل أي شخص عادي، لا أقول يفكر أو يتأمل، أري أن الإرهاب معركة لا تعني أبدا أن يستمر في سيناء ويتم القبض علي المسالمين داخل البلاد! ولا يجب أن يكون الإرهاب أبدا ذريعة للقضاء علي الروح الجديدة التي أشعلتها ثورة يناير. حديث طويل ليس هنا مجاله، وتفاصيله جاءت في مقالاتي التي كانت بمثابة مساعدة لروحي علي الاستمرار إذ يكون المقال بمثابة نفثة غضب تزيل عن القلب أثقاله وعن العقل اضطرابه وعدم قدرته علي تحمل الكذب الدائر حوله. لا تمثل لي المقالات أكثر من ذلك ولا تزال، فالرواية والإبداع هما عالمي الحقيقي الذي عشت وأعيش معه. وهي العالم الحقيقي حولي لكن الذي جري أني خرجت منه يوما علي أمل كبير تجسد في الميادين في عدل وحرية ومساواة بدأ يتراجع حتي كاد يختفي. لم يكن سهلا أن أسافر وقتا طويلا إلي أي مكان. بل تأتيني الدعوات إلي بلاد عربية وأجنبية لكنها كلها لا تزيد علي أسبوع أعود بعده إلي ما كنت فيه وما أحاول التخلص منه بالكتابة كما قلت لكنه صار من الثقل أنه لا ينتهي.
في روايتي " أداجيو" فصل صغير تسافر فيه البطلة إلي مدينة لاروشيل في فرنسا، وهي مدينة تقع في الجنوب الغربي علي المحيط الأطلنطي، والأهم أنها مدينة سافرت إليها يوما عام 2001 وأمضيت بها ثلاثة أشهر كاملة كتبت عنها مقالا كبيرا وقتها بعنوان" أين تذهب طيور المحيط "صار عنوانا لكتابي عن أدب الرحلات وهو عن بعض البلاد والمدن التي زرتها. تجسدت لاروشيل أمامي من جديد. هي المدينة التي يمكن أن تفصلني عما حولي كما سبق لي فيها من تجربة قديمة. هي مدينة صغيرة مبانيها الأوربية القديمة كلها فيها عراقة التاريخ، وموانيها الصغيرة ساحرة بما فيها من قوارب بحرية وطيور سابحة في فضائها وشمسها حانية في الشتاء وفي الصيف معرض للجمال من زوارها وسائحيها ومقاهيها علي المحيط. أليفة لي رغم أنها أجنبية وزوارها أجانب بالنسبة لي والحقيقة أني أنا الأجنبي هناك. ألفة مقاهيها ومطاعمها من عناوينها التي لا أنساها التي في أكثرها عناوين أعمال أدبية مثل الزورق السكران وجارجانتوا وبانتا جريل أو احداث سياسية مثل "كاتر سيرجانت ". وهي مدينة صغيرة يمكن أن يلفها الشخص في ساعة من الزمن ماشيا تحت بواكي مبانيها محتميا بها من الشمس صيفا ومن المطر شتاء داخلا أحد متاحفها الصغيرة الهامة مثل متحف الفن الطبيعي أو متحف الفنون الجميلة أو متحف الحرب العالمية الثانية أو المتحف البحري الكبير "الاكواريوم" الذي بني حديثا ولم يكن موجودا علي هذه الحالة العظيمة حين كنت هناك منذ خمسة عشر عاما. إنها مدينة أليفة سرعان ما يركن إليها القلب في دعة وترتاح لها الروح فتشعر بالحميمية في أسواقها وفي الحديث مع الباعة في أسواقها ومحلاتها وهي التي يمكن أن تخرج بي من حالة الحصار حول روحي. حصار سببه بلا تفاصيل كبيرة أن مايحدث في مصر كما قلت فاق قدرة العقل علي الاحتمال.
لم يكن صعبا السفر إلي لاروشيل. لقد جاءتني الدعوة من مركز ثقافي كبير هو "سنتر انترموند" وهو مركز ثقافي يستقبل الكتاب والفنانين من كل بلاد الدنيا يقيمون فيه للكتابة في حالة الأدباء أو الرسم في حالة الفنانين التشكيليين أو التمثيل في حالة ممثلي المسرح وتقديم عروض جديدة من بلادهم وهكذا. كان للصديق الكاتب الكبير جبار ياسين العراقي الذي يعيش قريبا من لاروشيل دور الاتصال بهم وحمل رغبتي في السفر إليهم. وطبعا لم يكن الأمر صعبا في حالتي فكتبي المترجمة إلي الفرنسية تسبقني هناك كذلك سفري إلي لاروشيل من قبل وكتابتي عنها. كنت أتوقع الزيارة صيفا فأنا رأيتها من قبل صيفا وخيل لي أن الزمن ليس إلا الصيف. لكن الدعوة جاءت شتاء والمدهش أنني كنت ابتعدت كثيرا عن مشاعري بالغضب أو اللاجدوي مما هو حولي وترددت في قبول الدعوة وفكرت أعتذر. يبدو أن روحي تأقلمت مع السائد في البلاد والكدر أيضا والظلم. ويبدو أن الأسفار القصيرة المتعددة فعلت فعلها في تجديد الروح دون أن أدري. أو إني استسلمت لحالة اللا أمل واعتبرتها الحالة الحقيقية للحياة، أو كل ذلك مجتمعا. إلا أني بعد تردد لعدة أيام وجدت نفسي في حاجة إلي السفر لسبب آخر. لقد مضت سنة كاملة لم أكتب فيها شيئا جديدا من الإبداع. كتب مقالات حقا لكني لم أبدأ في رواية جديدة ولم أكتب حتي قصة قصيرة. أداجيو الرواية الأخيرة صدرت في نهاية عام 2014 تقريبا. لا أذكر في أكتوبر أم في نوفمبر. لقد أخذت هذه الرواية كثيرا من الآلام عن روحي إلا أنها أيضا تركتني في حالة كبيرة من الأسي يحتاج وقتا طويلا ليبتعد. لم تعد الموسيقي وحدها التي أعيش معها ليل عمري كله كافية، بل تقلّب الأسي أكثر لأن الرواية عن الموسيقي وبطلتها عازفة بيانو عظيمة غادرت الدنيا في الرواية ولم تغادرها في روحي والموسيقي تذكرني بها. الموسيقي التي هي في حياتي العتبة التي أعبرها كل مساء لأنسي عذابات النهار والتي كتبت عنها يوما أيام حكم الرئيس مبارك أنها، الموسيقي، عبرت بي شابا هزيمة 1967 ثم عبرت بي عصر السادات وستعبر بي نظام مبارك أيضا! ودعوت الناس إلي الاستماع إليها كل مساء ليبدأوا صباحهم بروح وثابة قوية متفائلة. الرواية المؤسية عن الموسيقارة " ريم "جعلت الموسيقي طريقا للأسي أنا الذي كنت أهرب بها منه. لن يستمر الأمر كثيرا. أعرف ذلك. والإسراع فيه يعني الدخول في رواية أخري، وأنا تراودني الرغبة في كتابة رواية جديدة عن ثورة يناير. قلت وأعرف وعلي يقين أن الكتابة السريعة عن الأحداث الكبري تفتح الباب للعقل أكثر من الروح ومن ثم يتسرب إلي الرواية كثير من الآراء والأفكار الواضحة التي هي بدورها ثقل علي العمل الفني الذي ينتسب إلي الروح أكثر مما ينتسب إلي العقل. الكتابة المبكرة قد توقع، بل وتوقع إلا في استثناءات قليلة، الكاتب في المباشرة. الآن مضت خمس سنوات علي الثورة لكن لأني عشت أيامها كلها وجودا في الشوارع والميادين وليس متابعة من فوق الكنبة في البيت، لأني فعلت ذلك لم يبتعد الأمر عني بعد رغم أنه ابتعد عن البلاد كلها وكاد ينتهي. إذن الابتعاد في المكان قد يجعله حلما والكتابة عن الحلم هي الكتابة الحقيقية فلا ملامح واضحة. الإبتعاد هذه المرة لن يكون أسبوعا أو عشرة أيام لكن سيكون شهرين وهو ابتعاد حقيقي. وأين؟ في لاروشيل التي ألفتها من قبل والتي تأخذك عن الدنيا إلي شواطئها ومقاهيها وشوارعها العتيدة الكلاسيكية. وافقت بعد تردد قصير لم أعلنه لأحد. وتحدد موعد السفر في أول ديسمبر من العام الماضي 2015 .

كانت المفاجأة غير المتوقعة هي ماجري في باريس من أحداث إرهابية في منتصف شهر نوفمبر . إشاعات ترددت أنه سيحدث توقف عن إصدار تأشيرات السفر لكني كنت حصلت علي تأشيرة السفر، إِشاعات عن توقف التأشيرات التي صدرت ثم اتضح كذب هذه الإشاعات. المهم عقدت العزم علي السفر في اليوم الثالث من ديسمبر علي أن أبقي في باريس حتي اليوم التاسع ثم السفر إلي لاروشيل لمدة شهر ونصف وفي العودة البقاء مرة أخري أسبوعا في باريس التي لا تنتهي محبتي لها.
ذهبت كما قلت إلي فرنسا بدعوة من مؤسسة فنية ثقافية معنية بالفنون والآداب في العالم. مقر هذه المؤسسة هو مدينة لاروشيل الجميلة علي المحيط الأطلنطي. كنت علي يقين بما استقر في روحي وهو أنني أريد البدء جادا في رواية جديدة. مشكلتي في الكتابة هي أن أبدأ. ما أن أبدأ حتي أستمر. إذن لأنفض عن ذهني مشاكل القاهرة ومصر علي الإجمال علي الأقل حتي أبدأ. وأولها وأسهلها أني سأغلق التليفون المحمول فلن يكون لأحد أن يتصل بي إلا من لاروشيل وفرنسا علي تليفون آخر وسأعفي روحي من الإجابة علي الأسئلة التي تنهال عليّ كل ساعة من الصحف والمواقع عن رأيي فيما يحدث حولي مما لايستحق أصلا أي رأي. ذلك الذي لايجبرني عليه أحد في الإجابة أو الاستجابة لكني نادرا ما أرفض الإجابة ليس حبا في الظهور أبدا فلدي ما أكتبه من مقالات لكن معرفة بحال الصحفيين الشباب الذين يعملون في ظروف أقل مايقال عنها نوع من العبودية والاستعباد فرواتبهم لا قيمة لها وتعيناتهم دائما مؤجلة ومن ثم الالتحاق بنقابتهم حلم بعيد قياسا علي أعدادهم الهائلة التي تقذف بها كليات الإعلام كل عام. لكن هذا لايعني أني سأبتعد تماما عن كل ما في مصر. سيكون دخولي علي الفيس بوك كالعادة وتويتر لكن في وقت متأخر وقليل وسأتخلص شيئا ما من هذا الإدمان.
. كانت إجراءات التفتيش في مطار القاهرة دقيقة وكثيرة لكنها مرت بسهولة ساعد عليها قلة عدد المسافرين الي باريس علي الطائرة المصرية. بلاشك كان للأحداث الإرهابية الأخيرة أثر كبير وأساسي. قابلت علي الطائرة الكاتب والخبير الزراعي الدكتور محمود عمارة الذي أمضي ثلاثين عاما من حياته في باريس من قبل وصارت الزراعة أساسا والاقتصاد عموما وكتاباته السياسية في صحف مثل المصري اليوم والوطن وكانت له مقالات قبل زوال حكم الإخوان يتحدث فيها عن هذا الزوال وتنبأ بالسيناريو قبل حدوثه لكن كالعادة لم يدرك الإخوان المسلمون أو بالاصح لم يفكروا. كنت أتابع كعادتي مقالاته بعد ذلك وأفكاره عن التطوير والتطور في مجال الزراعة التي للأسف ذهبت تقريبا كلها أدراج الرياح مثل كتابات الكثيرين في الاقتصاد وغيره فلقد عاد النظام الجديد بكل ماحمله نظام مبارك وأعني بالذات فكرة نحن الذين نعرف ونفكر ونشكركم علي حسن كتاباتكم لكن لن نعترف بها ! لم تكن هناك فرصة للحديث في الطائرة فلقد كنت متعبا لم أنم الأمس غير ثلاث ساعات لأكون في المطار في السادسة صباحا ومن ثم اغتنمت فرصة خلو الطائرة تقريبا من الركاب وانتقلت من مكاني إلي الخلف حيث المقاعد الخالية كثيرة ونمت علي بعضها. نمت نوما عميقا من التعب. لا أكتمكم أني تخوفت لحظات من السفر ثم قلت لنفسي ضاحكا داعش أو الارهاب الذي فعل مافعله في الطائرة الروسية ثم في فرنسا نفسها سيشفق علي ركاب الطائرة المصرية وقد يدرك أن معظمهم عرب. قلت لنفسي ذلك ضاحكا وأنا أعرف أن الإرهاب لايفرق. قلت لنفسي ذلك حتي أنام.
اتفقنا أنا والدكتور محمود عمارة أن نلتقي بعد يومين في السان ميشيل. الحي القديم الذي أعشقه. لقاء ينضم للقاءاتنا السابقة في القاهرة في مقهي ريش علي أزمنة متباعدة بعد ثورة يناير. التقينا وتحدثنا مرغمين فيما يحدث في مصر لكن الجو حولنا جعل حديثنا حلوا رغم أن ما نتحدث فيه ليس كذلك. وأكملنا الحديث عن الذكريات الباريسية في جلسة مع السكندري" سمير" صاحب مطعم "استيريا" الصغير في السان ميشيل والذي أعرفه منذ عشرين سنة ويعرفه الدكتور عمارة قبلي. وهو الرجل السكندري ابن مدينتي من حي " بحري " الذي ترك الاسكندرية شابا منذ ثلاثين سنة أيضا كما عرفت منه وحين افتتح مطعمه الصغير في السان ميشيل اسماه باسم الكافتيريا الشهيرة بشارع صفية زعلول بالاسكندرية "استيريا" الأمر نفسه حدث مع الشباب المصريين الذين عرفوا بقدومي إلي باريس. الباحث في السينما شريف الرملي وزوجته الفرنسية. وداليا حسن، هيباتيا الاسكندرية التي كان لها دور كبير في إنقاذ الشاب المصري يوم الهجوم الإرهابي علي الاستاد والمسؤولة في ماراثون تولوز للثقافة. شاهيناز عبد السلام المهندسة المصرية والمدونة الشهيرة سنوات 2005 وبعدها، وطبيعي جدا أن التقي أصدقائي العرب من الكتاب والمفكرين. فالح مهدي وبدر الدين عرودكي وفاروق مردم وخليل النعيمي وانعام كججي وصديقنا الفلسطيني الجميل وهيب أبو واصل وغيرهم. كانت كل لقاءاتنا في الكافيهات والمطاعم. وبينها أترك نفسي لشوارع باريس ومتاحفها التي أعشقها. تزودت براحة وقوة فنية وحب للحياة تعودت عليه كلما زرت باريس. كل أحاديثنا كانت عما جري ويجري في المنطقة العربية، مصر والشام والعراق واليمن. وحدث صدفة جميلة في يوم أخر في السان ميشيل أن قابلت الكاتب اليمني الذي أحبه " علي المقري" الذي عرفت رواياته الطريق إلي اللغات الأجنبية. رأيت ابتسامته وسط الطريق حين رآني. الكاتبة الشابة السورية سمر يزبك والناشطة السياسية وقفت أمامي تبتسم ونحن بالمقهي. آخر مرة رأيتها كانت منذ ثماني سنوات. الأحداث في مصر بعد ثورة يناير والعمر طبعا أضاعا كثيرا جدا من الذاكرة لكنها هنا تعود ولو صدفة مع الأصدقاء. إنضمت سوريا إلي مصر واليمن علي "تراس " المقهي حيث يتاح التدخين. ليت ذلك يحدث في مصر فيمنع التدخين في أي مكان مغلق. لم أعد أدخن غير خمس أو ست سجائر في اليوم. لم نتأخر كثيرا لأنهم جميعا يعملون. ساعتان تقريبا مرتا بسرعة. تفرقنا فوجدت نفسي وحدي في شوارع باريس التي أحبها. بدا لي أن ما تحدثنا فيه ينتمي إلي التاريخ. قلت لن أضيع الفرصة أبدا، وها هي باريس كالعادة تساعدني في نسيان الآلام. بعد يومين من هذا اللقاء أخذت طريقي إلي لاروشيل. وجدت نفسي أفكر كيف حقا لم أجد أي مشقة في أي مكان باعتباري عربي الوجه. كيف كانت المعاملة في كل مكان في غاية الرقة رغم الأحداث الفظيعة التي مرت بباريس وانتهت برعب أن يفوز اليمين المتطرف في الانتخابات، لكنها فرنسا في النهاية لن تتخلي عن قيمها الإنسانية. ولم يصل اليمين المتطرف إلي الأغلبية المطلوبة.
الرحلة في القطار ال "تي جي في" كانت كالعادة رائعة وسهلة. رغم بعد المسافة عن باريس. حوالي الف كيلو متر فالقطار يقطعها في ثلاث ساعات. حاولت فيها أن اقرأ في رواية الصديق الكاتب الكبير خليل النعيمي الطبيب الكبير والسوري الأصل الذي يعيش في باريس وزوج الكاتبة الكبيرة سلوي النعيمي. وجدت الرواية تحتاج تركيزا أعلي مما يمنحه القطار قلت أرجئ القراءة حين أصل. كنت أخذت معي من القاهرة عدة أعمال قليلة. مذكرات زوجة دستويفسكي الذي أصدره المركز القومي للترجمة ورواية الدكتور مدحت طه الأولي " السير علي الأطراف " ورواية الكاتب والشاعر التونسي الكبير كمال العيادي " نادي العباقرة الأخيار " وكتاب مترجم عن الروسية للصديق أحمد صلاح الدين عن "أبناء تالستوي" كما ترجم هو، من الكتاب بعد عصره ومن ترك أثره فيهم في روسيا . قلت هذه الكتب تكفي لأني سأكتب أكثر مما أقرأ وسأتفرج علي الدنيا أكثر مما أقرأ وأكتب !

وصلت لاروشيل الساعة الثامنة مساء فوجدت علي المحطة استقبالا رائعا لأنه يضم أجمل الأصدقاء. الكاتب الكبير جبار ياسين وزوجته الجميلة سيلفيان ومعمهما الشاعرة الفرنسية الصديقة جوسيان دي جيسوس بيرجي ومعهم مندوب المركز الثقافي السيد إدوارد مورنو. من بهجة الاستقبال التي علي وجوه جبار وزوجته وجوسيان أدركت كم كان زمن الابتعاد عن لاروشيل طويلا. خمسة عشر عاما بدت علي وجوههم من لهفة الانتظار. وبسمة السيد إدوارد مورنو لاتفارق وجهه من هذا اللقاء كأنما لم نلتق حقا من زمان رغم أني التقيت جبار كثيرا في مصر وباريس والتقيت جوسيان مرة في القاهرة والانترنت والفيس بوك عموما يقرب بيننا. لم تكن هناك فرصة للذهاب إلي أي مكان غير المركز الثقافي فلاروشيل تغلق أبوابها بعد الثامنة. ليكن. ركبنا سيارة سيلفيان زوجة صديقي جبار ووصلنا. صحبوني وأمامهم ادوارد مورنو إلي غرفتي في الدور الثاني. كانت المفاجأة هي المكان الذي يعد مركزا ثقافيا. فهو قصر أثري قديم بني في القرن السادس عشر. بناه الأمير هنري الثاني وكان يوما ما مقر المحافظة " أوتيل دي فيل " مبني فخم من ثلاثة أضلاع بينها حديقة يرتفع إلي ثلاثة أدوار كلاسيكية يصل ارتفاع الدور فيها إلي حوالي أربعة أمتار. في الضلع الأيسر من المبني غرفتي في الدور الثاني وتحتها غرفة فيها ممثل مسرح شاب صيني بقيت له أيام قليلة ويعود إلي بلده وفي الدور الأعلي شاعر شاب أميركي اسمه سام بقيت له أيام قلية أيضا ويرحل. للقصر باب خارجي يفصله ويفصل الحديقة عن الشارع وباب داخلي علي الحديقة وللغرفة باب طبعا. وعليّ كما قال ادوارد مورنو إن أغلق كل مساء الباب الخارجي والباب الذي يطل علي الحديقة أما باب غرفتي فطبعا لي الحرية في إغلاقه من عدمه. إغلاق الباب الذي يطل علي الشارع هو الأهم لأن الشارع بالليل يشهد المتسولين أو من لا مكان لهم والذين يسمون بالكلوشار وعادة يحتلون الرصيف مع كلابهم وزجاجات خمورهم حتي الصباح فيختفون. هي ظاهرة أعرفها في فرنسا وغيرها من دول العالم الغربي التي زرتها. عادة لا يأتي الأذي من هؤلاء الكلوشار لكن الاحتياط واجب. أطلعني ادوارد علي بقية المبني وبالذات غرفة المطبخ الكبيرة التي لفت انتباهي بها وجود غسالة ملابس ومجفف للملابس فابتسمت. أحب عادة في السفر أن أغسل ثيابي في مغسلة عمومية حيث يكون انتظار غسلها وجفافها وقتا ممتعا في الحديث مع النساء اللاتي ينتظرن أو الرجال والذين عادة بينهم من يقرأون رواية او كتابا ما. كثير منهم غرباء وراءهم حكايات. لابأس هذه المرة أن يتم غسل ثيابي وتجفيفها هنا بينما أقرأ أنا أو أكتب أو أطبخ. في هذا المبني الضخم كله ممنوع التدخين ومن يشأ التدخين فلينزل إلي المنور حيث توجد منضدة وبعض المقاعد البلاستيك أو يخرج إلي الشارع. والغرفة الواسعة بها السرير طبعا وبها أيضا مقاعد قليلة للجلوس ومكتب كبير للقراءة والكتابة وراديو وشبكة انترنت مباشرة يمكن إيصالها باللاب توب. وفي كل دور حمام وتواليت مستقل. يعني باختصار أنت وحدك في الدور رغم وجود اثنين أعلي وأسفل. أما ماذا سأفعل فسيكون اللقاء صباحا في اليوم التالي في المكتب المخصص للقائمين علي المركز في الدور الأرضي.
بقي معي جبار ياسين وزوجته أكثر من ساعة وفارقتنا جوسيان التي ستكون في الصباح أيضا معنا ونحن نتحدث فيما سأفعل . لم يكن ممكنا الخروج إلي الشوارع فلا أحد ولا كافتيريات ولا محلات والساعة تتجاوز التاسعة واليوم وغدا ليسا من أيام الإجازات لتتأخر المحلات والمقاهي قليلا. وقفت وحدي أتطلع إلي الحديقة من خلف النافذة وكان مطر قد بدأ يسقط. لم يكن المطر غزيرا لكن مشهده من خلف الزجاج من هواياتي السكندرية القديمة. الذي أدهشني أن الجو في الطريق من محطة السكة الحديد إلي هنا كان أدفأ منه في باريس وأن المطر الهابط ليس بكثافة أمطار باريس التي تركتها خلفي التي بدورها أمطرت مرة واحدة في ليلتي الأخيرة فيها وأنا في طريقي لمقابلة خليل نعيمي في مقهي بميدان بلاس دي إيتالي حيث انزل في شقة الصديق الفلسطيني وهيب ابو واصل الذي تركها لي وهي قريبة من الميدان. أخذني الشتاء إلي لياليه التي حرمتني منها القاهرة وحياتي فيها حيث يصبح المطر لعنة علي المدينة وليس الأمر كما كان في الإسكندرية في سنوات طفولتي في الخمسينات وشبابي في الستينات حين كانت الإسكندرية لا تزال تحتفظ بملامحها العالمية. أعادني المشهد إلي انفرادي في غرفتي صغيرا أسمع صوت زخات المطر وأنا أقرأ روايات دوستويفسكي التي لليل فيها مساحات جبارة وللمطر والجليد. تذكرت أن معي مذكرات زوجته أنّا جريجوريفنا في ترجمة عن الروسية لابد تكون رائعة للدكتور أنور ابراهيم. تمددت فو ق السرير وشرعت في قراءة المذكرات.
في الصباح التقينا في المكتب. إدوارد مورنو ومعه شابة صغيرة جميلة تعمل في المركز هي "فلافي مونييه" ومدير المركز السيد "جي مارتينييه " والسيد ميشيل من جمعية نجمة الثقافية وهي جمعية أهلية تدير أنشطة ثقافية في لاروشيل سميت باسم نجمة بطلة رواية الجزائري العظيم كاتب ياسين وفتاة فرنسية أخري من مدرسة للأطفال. كان البرنامج غير غريب عليّ. لقد اتفقنا عليه أنا وادوارد مورنو من قبل في مراسلاتنا علي الإنترنت. ثلاثة لقاءات في مدارس الليسيه ولقاء عام بالجمهور في "الميدياتيك "وهو مركز ثقافي وإعلامي كبير لكن أضيف اليها لقاءات مع الاطفال في مدرسة وافقت عليها من باب التجريب وكانت فيما بعد من أجمل اللقاءات. تم تحديد الأيام والوقت وكانت كلها تبدأ في الواحدة ظهرا بمعدل لقاء كل اسبوع أو لقاءين علي الأكثر. بعد اللقاء وتحديد أيام البرنامج وساعاته انطلقت أنا إلي المدينة التي أعرفها وصار حنيني إليها جارفا.

شوارع لاروشيل متشابهة لا يختلف فيها شارع عن شارع كثيرا إلا إذا خرجت إلي شواطئ الميناء الواسعة. مهما كانت ضيقة أراها واسعة لأن العربات تقف في نظام في اتجاه واحد ويكفي ماتبقي من الشارع لأي سيارة تمر ويكون المرور عاة في اتجاه واحد والأرصفة واسعة للمارة. لم تكن المسافة من سنتر موند حيث أنزل إلي الشاطئ بعيدة. خمس دقائق مشيا تحت قباب العمارات التي تذكرك بقباب شارع الريفولي في باريس وتذكرك بالقباب الضائعة لشارعي كلوت بك ومحمد علي في القاهرة اللذين صمما علي غرار الريفولي لكن مديري الأحياء في مصر أضاعا كل جميل.
لم يكن الجو باردا كما توقعت. الحرارة تبلغ ثماني درجات لكنه بالنسبة لي دافئ فلا أثر للرطوبة في الجو. وصلت بسرعة إلي الشاطئ. تذكرت وأنا أمشي بعض المحلات التي كنت اشتري منها ما أريد حين كنت هنا منذ خمسة عشر عاما. كانت الشمس تبدأ في الظهور والساعة تقترب من الحادية عشرة صباحا. علي الميناء جلست أستقبل أشعة الشمس واستمتع بالاتساع الممتد أمامي. جلست علي مقهي أشعر بالألفة معه لكن تغير اسمها ولم احفظ الاسم الجديد. كنت أشعر أني جلست فيها كثيرا حين كنت هنا أول مرة وعرفت فعلا أنها هي مقهي " لا مارين " التي كنت أجلس فيها كل يوم في الصباح أكتب. كنت قبلها توقفت عند محل للكريب تناولت منه واحدا وأنا أجلس. في المقهي تناولت قهوتي بدون كافيين الذي منعني الأطباء منه. كان الجالسون علي المقهي والمقاهي المجاورة كالعادة يتكلمون لكن لا أسمع أصواتهم. فكرت كم سيكون اليوم طويلا هنا. وأن اللقاءات التي سأقوم بها ستشغل ساعة وبعض ساعة يوما أو يومين في الأسبوع. مهما أدور في لاروشيل وأدخل متاحفها فالوقت سيكون طويلا. إذن ستكون فرصة طيبة لأكتب. كان معي تليفون محمول تركته علي الاتصال الدولي لكني تركته في الغرفة مغلقا حتي إذا عدت أفتحه وأنظر فيه وأختار من أكلمه الذي لن يكون إلا زوجتي أو أبنائي رغم أني أعطيتهم رقم تليفوني الفرنسي الذي أحمله مع موبايل آخر. بعد ساعة نهضت أمشي متجها إلي السوق الذي سينتهي في الساعة الواحدة. أمامي ساعة والمسافة بيني وبينه لن تزيد أيضا عن بضع دقائق. لابد من شراء طعام أضعه في المطبخ أطهو منه عدة ايام. سيشغلني الطهو ساعة أو اكثر أيضا كل يوم وهذا وقت لا قيمة له. كانت الحركة في الشارع من الناس ليست كبيرة ولا صغيرة. ستزداد الحركة آخرالنهار كالعادة أو في ايام الإجازات. لاحظت ان النساء والفتيات في معظمهن يرتدين ملابس ثقيلة من أعلي ومن أسفل ميكروجيب تحته "كولون" غامق. لم أعرف كيف يمكن للكولون الشفاف أن يبعث الدفء إلي هذه الدرجة. يسأل عن ذلك جسد النساء الدافئ بلاشك. في السوق الصغير كان عدد كبير من باعة الخضر والفاكهة وجواره سوق كبير للسمك والدواجن واللحوم ومحاط بالمقاهي من كل جهة والمطاعم والمحلات أيضا. دون أي تردد اشتريت من الفاكهة ما يكون لينا مثل الكمثري والبلح. كمثري من أسبانيا وأكثر من دولة وبلح من تونس وفلسطين. وراعني الحجم الكبير "للكاكا " فاشتريت بعضها وكذلك الكيوي. أعداد قليلة من كل صنف كالعادة فالسوق قريب ويكفي أن اشتري مايكفي ثلاثة أو أربعة أيام. سيكون الذهاب إلي السوق متعة كما كان لي من قبل وأنا هنا. ثم دخلت سوق السمك أعرف ماذا سأشتري. شئ من السيمون- السلمون - والتونة والبربوني " الروجيه " وشرائح من الدجاج أو البط وعدت إلي المنزل نظمت ذلك كله في الثلاجة وخارجها. ثم أخذت طريقي مرة أخري إلي محل كارفور القريب من السوق لأشتري مياها معدنية وشايا وسكراً وأنواعاً مختلفة من الاجبان الفرنسية والمكرونة والكسكس المغربي والأرز وزيت الزيتون وغير ذلك مما سأحتاجه ومن كل نوع كميات بسيطة فأنا لم آت هنا للأكل كما أنني أحب المطاعم أيضا. قررت أن يكون نظام طعامي بسيطا جدا ففي الصباح كريب علي الشاطئ وقهوة وفي الظهيرة وجبة في البيت أو في مطعم وفي المساء الجبن والفاكهة.أو الفاكهة فقط.
في المنزل بعد أن عدت للمرة الثانية بالطعام الذي أريد كان لدي موعد مع السيد "مارتينييه "المدير العام للمركز وسيحضر معه السيد "مكسيم برونو "محافظ لاروشيل السابق حين كنت هنا عام 2001 كان لقاء رائعا ونحن نجلس في أحد المطاعم علي الشاطئ لتناول الغداء. ورحنا نتحدث عن زيارتي السابقة إلي المدينة. كانت سعادتي كبيرة أن السيد مكسيم برونو المحافظ السابق لايزال يذكرني. لقد قرأ روايتي لا أحد ينام في الاسكندرية بالفرنسية ذلك الوقت. وتحدثنا عن لاروشيل قبل ذلك حيث لم تكن هناك أوتوبيسات بهذا العدد ولاسيارات بهذا العدد. لقد اتسعت لاروشيل حول المدينة القديمة وأقيمت بها داران جديدتان للسينما بينما من قبل كانت واحدة فقط وتذكرنا بعض الأصدقاء مثل الكاتب ريموند بوزيير فأخبرني أنه كثير السفر خارج لاروشيل أو هذه الأيام وتحدثنا طبعا في الشأن المصري والعربي وحالة الأمة العربية الآن. هذا الحديث سيتكرر في كل اللقاءات ومع أي شخص كبيرا أو صغيرا. وعدت إلي المركز الثقافي لكني وجدت الرغبة في المشي في الميدان من جديد. أخذت طريقاً إلي بلاس فيردان القريب حيث موقف الأوتوبيسات. كنت أعرف اتساعه وأن الشمس لا تختفي منه إلا بالغيوم. كنت أريد الجلوس قليلا علي أحد مقاعده بين حركة الناس من حولي. هنا يمكن أيضا أن أدخن سيجارة كما أفعل علي المقاهي في تراسها الخارجي. لن أدخن في المركز حيث محظور التدخين. سأحاول أن أمتنع عن التدخين. أمل لم يتحقق حتي الآن وكل ماجري هو أنني لم أعد أدخن أكثر من خمس أو ست سجائر. شيطان التدخين لايزال أقوي. في المساء عدت إلي مذكرات دوستويفسكي. قابلت الشاعر الأميركي الشاب والممثل الصيني الشاب فعرفت أنهما سيغادران بسرعة فلقد مضي وقت طويل لهما وسيكون المكان كله لي وحدي. طبعا لن أدخل أي غرفة أخري. حركتي محدودة في المركز بين الحجرة والمطبخ والحمام. قلت ضاحكا سأكون دراكيولا في القصر الكلاسيكي القديم الرائع. وضحكت.

كان في اللقاء الذي تم في مكتب المركز مسيو ميشيل وهو أحد أعضاء إدارة جمعية نجمة. بل ترأسها زوجته الجزائرية الأصل التي حضرت اللقاء. ولقد أخذ معي موعدا لنخرج في رحلة بحرية بعد عدة أيام إلي المحيط. وافقت رغم أني لم أركب البحر منذ أكثر من أربعين سنة ولم أضع لدوار البحر أهمية.
بدأ علي الفور اللقاء الأول مع طلبة الليسيه. كان هذا في اليوم الحادي عشر. أي بعد وصولي بيومين. جاءت الشابة التي ستقلني في سيارتها إلي هناك، وعرفت أن من سيقوم بالترجمة هي نفسها . سأتحدث بالإنجليزية. اللقاء سيكون السعة الواحدة. طبعا لن أصف لكم المدرسة واتساعها وحدائقها ومشهد طلابها المتفرقين خارج الفصول في مودة بينهم ومحبة حيث تتناثر القبل بين الطلبة والطالبات في كثير من الأحيان.
كان حضور اللقاء عدد لا يقل عن خمسين طالبا وطالبة تتفرق أعوامهم تقريبا بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة. جلست في القاعة وإلي جواري المترجمة. كان حديثي في البداية عن أعمالي الأدبية وبالذات المترجمة الي الفرنسية والتي صارت متاحة لهم في المدرسة وسيكون هذا الحديث دائما في اللقاءات التالية ثم أترك لهم الأسئلة عما قلت وعما يريدون أن يسألوا فيه. وما كان دائما يريدون الحديث فيه هو الوضع السياسي للبلاد العربية ومصر خصوصا ومسألة الإخوان المسلمين والجماعات الجهادية داعش وطالبان وغيرها والإرهاب. طبعا فلم يمر شهر حتي الآن علي تفجيرات باريس.
حدث ذلك في كل اللقاءات التالية مع مدارس الليسيه. إلا أن الصدفة الجميلة كانت مع اللقاء الثاني حيث كان يترجم لي مدرس الطبيعيات الجزائري الذي التقيت به لأول مرة وهو الدكتور أحمد ظريف. كان لقائي معه في اللقاء الثاني بطلبة الليسيه بعد أسبوع من الأول. أي بعد وصولي بتسعة أيام إلي لاروشيل. أحمد ظريف حاصل علي الدكتوراة في الفيزياء. يعيش في فرنسا منذ أعوام طويلة. يقارب عمره من الستين. لديه ثلاث بنات وأبن يعمل طبيبا خارج لاروشيل وإحدي بناته ليلي - تدرس للدكتوراه في الإنثروبولوجي. أحمد شخص تسبقه ابتسامته المريحة. أخذتني إلي الليسيه في سيارتها الاستاذة "كاتيا" التي تقوم بالتدريس في الليسيه. وكالعادة كانت المحاضرة والأسئلة. أين نذهب من قدرنا مع الإرهاب والديكتاتورية في بلادنا. خرجنا لنتغدي في مطعم لبناني ماكاد صاحبه يعرف أني مصري حتي بدأ يتحدث عن الوضع الحالي في مصر وعن الاغتيالات والسجون المفتوحة للشباب والاختفاء القسري وغير ذلك. لاشئ يخفي علي أحد في الخارج. كنا نقترب من نهاية العام. ولقد بدأ النصف الثاني من ديسمبر. وبدأت الإجازات والوفود السياحية إلي لاروشيل. بدأت الزينات في الشوارع وطوابير الراقصين والمغنين من الشباب والأطفال احتفالا بأعياد الميلاد وأقنعة بابا نويل علي وجوه جميع المحتفلين في الطرقات وبدأت التخفيضات الكبيرة علي السلع المنزلية والملابس وغيرها فصار الزحام علي المحلات كبيرا. صارت البهجة في الشوارع فالبرد الشديد له ملابسه ومحتمل لأنه بلا رطوبة والمطر تقريبا لايسقط نهارا إلا دقائق ويسقط غالبا ليلا والناس في بيوتها. صارت الأسواق علي الشاطئ للتحف اليدوية والمشغولات من كل بلاد فرنسا وصار أحمد ظريف يأتيني كل يوم مع أخيه نور الدين الذي يعيش ويعمل في ايطاليا لكنه سيعود قريبا الي الجزائر. نور الدين أصغر منه وأطول منه لكنه لايزال يحتفظ بسمات الأطفال علي وجهه. أخذني في رحلات يومية لكل نواحي الميناء وصار اليوم بدونهما لا قيمة له. نجلس ونضحك ونتكلم نهارا. مشينا علي جسر مانديلا الجديد الذي أقيم وسط المحيط منذ ثلاثة أعوام وهو جسر رائع يمتد إلي ثلاثة كيلو مترات وسط المياه وصحبني نورالدين مع مسيو ميشيل في يخت المسيو ميشيل في رحلة إلي المحيط كانت رائعة إلا انه بعد ساعات بدأت أعاني من دوار البحر فعدنا نضحك. قلت لميشيل لقد كانت رحلة رائعة فقال ضاحكا لكن لعلك تقول في نفسك لا تطلب مني ذلك مرة أخري اميشيل. ضحكنا. كانت معنا الشاعرة جوسيان دي جيسوس .
كان نورالدين في كل لقاءاتنا لايكف عن الابتسام ونحن نتحدث عن أحوال العالم العربي وحين قلت لهما بعض النكت السياسية المصرية "مات من الضحك" وقال لي إنه سيعود إلي وهران يحدثهم عن هذه النكت. وحين عاد إلي وهران بعد أيام أرسل لي مع أحمد أن الناس في وهران كلها تضحك من النكت القليلة التي حفظها.
كان مشهد الاحتفالات اليومية في الشوارع رائعا والزحام يزداد علي الشاطئ من الزوار فلاروشيل مدينة جميلة وموانيها رائعة وفيها آلاف من القوارب وتعتبر أكبر مدينة أوربية بها قوارب تتفاوت أشكالها وأثمانها لتصل إلي أرقام فلكية. بالطبع صحبني أحمد ظريف إلي بيته واحتفلنا بليلة الميلاد وصحبني ميشيل إلي بيته وصحبني الصديق والكاتب الكبير جبار ياسين إلي بيته خارج لاروشيل أكثر من مرة وكان يزورني مع زوجته الجميلة سيلفيان التي صار سؤالها عني واهتمامها بي شفاء من أي تعب. عزمني الكثيرون لكني احب ان أتحدث عن دعوة السيد مكسيم برونو للعشاء في منزله انا وجبار ياسين وزوجته. رأيت بيتا جميلا وبسيطا وصغيرا. من المدخل تجد صالة صغيرة أمامها المطبخ المفتوح عليها وكلها تطل علي حديقة لاتزيد مساحتها علي أربعة أمتار في خمسة امتار. ومن الصالة الصغيرة الخارجية يرتفع سلم صغير إلي غرفة نوم في الدور الأعلي. المنزل صغير لكنه بتوزيع أثاثه وتحفه البسيطة التي في معظمها لوحات تشكيلية أو لوحات مصورة من إعلانات قديمة وأدوات قديمة يصبح متسعا جدا ورائعا. قلت لنفسي تعال شوف عندنا قصور الحكام من أموال الشعب.
ولا أنسي هنا مشهدا رائعا ليلة عيد الميلاد فلقد وجدت وأنا أمشي مع أحمد ظريف زحاما رهيبا علي الشاطئ أمام المقاهي والمطاعم ومناضد ومقاعد ممتدة في الشارع وعلي الأرصفة وفوقها يجلس الزوار وأبناء المدينة وعلي مسافات متباعدة مناضد عليها زجاجات النبيذ وقطع من الخبز الحاف يتناول الواحد كأسا من النبيذ وقطعة من الخبز ويجلس يأكل ويشرب وحين كتبت ذلك علي الفيس بوك ضاحكا قائلا إن المحافظة أقامت موائد الرحمن ليلة عيد الميلاد اخبرني الصديق الكاتب الشاب ياسر عبد الله أن ذلك تناول مدني فبدلا من خبز المسيح ودمه يكون الخبز والنبيذ. والحقيقة أن ياسر عبد الله شاب واسع الثقافة في السياسة والأدب والموسيقي وهو من أجمل من عرفت من الشباب.
استمرت اللقاءات في الليسيه واستمر الوقت طويلا لكنه ليس مملا أبدا ونسيت مصر بشكل كبير جدا رغم دخولي علي تويتر أحيانا وعلي الفيس بوك. ثم صحبني ميشيل مع أحمد ظريف إلي الأكواريوم الذي فتنتني مساحته ومخلوقاته البحرية وكان أحمد يلتقط لي الصور في كل مكان ويرسلها لي علي الإيميل لأنقلها بدوري الي الفيس بوك. واستمرت قراءتي لمذكرات زوجة دوستويفسكي ثم بقية الكتب التي معي روايات خليل النعيمي ومدحت طه وكمال العيادي وكتاب أبناء تولستوي التي أمتعتني كلها وعلقت عليها علي الفيسبوك. طلب مدرسو الليسيه حيث يعمل أحمد ظريف لقاء معي أيضا حضره بعض الطلبة وكنت أعرف أن الاسئلة لن تختلف. فالسياسة فوقنا بأعلامها السوداء دائما. ثم كانت الندوة الكبري مع عموم الناس في الميدياتيك وهو مبني عصري ضخم للثقافة وعلوم الاتصال. كانت الندوة في الساعة الرابعة وكانت التخفيضات قد وصلت إلي الذروة وصارت أحيانا سبعين بالمائة من الأسعار الأصلية. في هذه البلاد تكون التخفيضات حقيقية. ليس كما هو عندنا يرفعون السعر ثم يتحدثون عن التخفيضات. كثير من المحلات كادت تفرغ من بضاعتها الشتوية فلم تعد تري منها في الفتارين كثيرا. الغرض من التخفيضات أن ينتهوا من بضاعة الشتاء لتحل مكانها بضاعة الربيع والصيف بعد فبراير.
أخذت طريقا إلي الندوة مع جبار ياسين. ذهبنا مشيا. كان الزحام حولنا رهيبا في الشوارع والمحلات. والندوة في وقت غريب هو الرابعة مساء. ضحكت وسألت جبار هل سنجد أحدا في مثل هذا الجو من التخفيضات ؟ قال لي أخشي ألا نجد الكثيرين. ووصلنا واستقبلتنا السيدة مديرة الثقافة. وجدت اعلانات جميلة عن الندوة في كل مكان وصور لي في ميدان التحرير من فيلم تسجيلي أجرته معي من قبل قناة " آرتيه" الألمانية الفرنسية. وكانت هناك كتب لي للتوقيعات. وصلنا قبل الندوة بربع ساعة تقريبا. قلت لجبار سأدخل الي الصالة وحدي أنام دقيقتين واحدة علي أحد المقاعد لأني سهرت كثيرا ولم أنم. هذه عادتي إذا غلبني النوم. دقيقة أو اثنتين تكفي للمتابعة. دخلت. لم أر جمهوراً في الخارج. وطدت نفسي علي عدد قليل. بعد خمس دقائق دخل إليّ جبار يقول ضاحكا ابراهيم الطابور طويل جدا. ابتسمت. أين كان هؤلاء ؟ يأتون في الموعد تماما فالقاعة لا تنفتح إلا في موعدها. وبالفعل بعد دقائق انفتحت في الرابعة تماما فاندفع اليها الجمهور ملأ كل مقاعدها التي تزيد علي المائة والخمسين مقعدا. كان حاضرا أيضا من المركز السيد " مارتينييه " مدير المركز والسيد إدوارد مورنو والجميلة فلافي مونييه والكاتب ريموند بوزيير والشاعرة جوسيان دي جيسوس وزوجها والسيد ميشيل وعدد من الناس يعرفونني ولا ينسوني منذ كنت في لاروشيل من قبل وقراء لأعمالي وجمهور يحتفي بكاتب عربي معروف لديهم. وكانت قناة فرانس تروا قد أجرت معي حوارا أداره جبار ياسين واذاعته. كانت ندوة رائعة في الأسئلة والحضور والتوقيعات علي الكتب وصحبتنا بعدها بعدة ساعات مديرة الثقافة إلي مطعم جميل باسم " كاتر سيرجانت " وهم الجنود الشباب الأربعة الذين اتهموا عام 1821بالفوضي والتآمر علي الملك إذ رفضوا في باريس الهتاف " عاش الملك " فقبض عليهم ووجهت إليهم هذه التهم ونقلوا الي حصن في لاروشيل عام 1822 سجنوا به، موجود حتي الآن في الميناء وصار مزارا ثم اكتشفت براءتهم فسمي الحصن الذي سجنوا فيه باسمهم وهو بالميناء وسمي المطعم فيما بعد بأسمهم.
لم يكن الحوار مع قناة " فرانس 3 "هو الوحيد. عرفت قناة الجزيرة من الصديقة والشاعرة ومخرجة الأفلام التسجيلية المصرية صفاء فتحي بوجودي في لاروشيل فجاء الي الشاعر " جمال العرضاوي " مدير البرنامج وطاقم التصوير وأجرينا مقابلة في برنامج "المشّاء "كان جبار ياسين هو المحاور لي فيها سوف تذاع هذا الشهر مارس. انشغلنا يومين كاملين في هذا البرنامج طفنا فيهما بمعالم لاروشيل لكن كل هذه اللقاءات شئ ولقائي بالأطفال شئ آخر.

عندما سألوني في اللقاء الأول بالمكتب هل يمكن أن ألتقي بأطفال إحدي المدارس قلت يمكن. بعد ذلك سألت نفسي ماذا يمكن أن أتحدث فيه مع الاطفال. لكن لم يكن ممكنا العودة. قلت سأجد طريقة للحديث معهم. والأهم أنهم لن يتحدثوا معي في السياسة. وهذا سيكون جميلا. كما انني سبق لي من قبل وكتبت للأطفال عشر سنوات. أي خلال مرحلة السبعينات. وكان الذي شجعني علي ذلك صديق محمد المنسي قنديل الذي سبقنا جميعا في ذلك. كنت أكتب سيناريو كل شهر في مجلة العربي الصغير وكتبت أكثر من مرة في مجلة علاء الدين ثم انشغلت عن ذلك بعد عشر سنوات. هناك إمكانية إذن للحديث مع الاطفال.
كانت المفاجأة حين صحبتني الفتاة " كلميل "التي ستترجم حديثي من الانجليزية أنني وجدت من سأتحدث معهم ست فتيات صغيرات تتراوح أعمارهن بين السابعة والعاشرة. كان هناك مدرستان جزائريتان للترجمة من العربية لكن وجدت أنهما لا تستوعبان لهجتي المصرية بسهولة فآثرت الحديث بالانجليزية ووجدتها أسهل مع قليل جدا من الفرنسية. ست فيتات يكوّن فصلا واحدا في المدرسة الكبيرة ذات الحدائق والفصول العديدة. كانت دهشتي حين دخلت الفصل ووجدت عددهن. لفت انتباهي طفلة ترتدي نظارة وعرفت أن اسمها آنجيل. سألتني هل اللغة العربية تكتب من اليمين إلي اليسار فقط. أجبتها بالإيجاب. وحدثتها عن أن هناك لغات تكتب من اليمين مثل الفارسية والعبرية وهناك طبعا مايكتب من اليسار مثل الفرنسية وغيرها من اللغات الأوربية. وهناك مايكتب من أعلي لأسفل مثل الصينية . كتبت لها المدرسة الجزائرية كلمة بالعربية لا أذكرها الآن فانفردت بها آنجيل وكتبتها من اليمين إلي اليسار ثم من اليسار إلي اليمين بنفس الرسم كأن من كتبها كتبها من اليمن إلي اليسار ثم من أعلي إلي أسفل. أدركت ذكاءها. وتركت لهم الأسئلة عن مصر فسألوني عن الطعام وأنواعه والمباني والشوارع والموسيقي وغيرها من سبل الحياة في مصر. سألوني عن البلاد التي زرتها في العالم. وكان بالصدفة هناك كتاب عن الحضارة الفرعونية علي إحدي المناضد فأمسكت به وفتحته وأخذت أحدثهم عن الصور وما تمثل في الحضارة الفرعونية من آلهة وأعمال وغيره. كانت ثلاثة لقاءات جميلة بل كانت أجمل اللقاءات. وكان اللقاء الثالث مخصصا لأسمعهن يتحدثن عن آمالهن في الحياة وتمنياتهن لأنفسهن وطموحهن. وعليّ أن أكتب تعليقا علي كل واحدة تحتفظ به بلاشك وهي سعيدة. هنا استمعت إلي كلام رائع ويفوق الروعة. إحداهن قالت إنها تحلم أن تكون محامية تدافع عن الناس وتكافح من أجلهن فهي تثق في نفسها غاية الثقة وتعرف أنها قادرة علي ذلك. وإحداهن التي انضمت إليهن مؤخرا حين عرفت أني سأفعل ذلك قالت إنها تتمني أن تكون طاهية فوالدها طباخ كبير وهي تتمني أن تكون طاهية لكل أنواع الطهو في العالم. وإحداهن قالت جملة رائعة وهي أنها تعيش لتري يوما شيئا صادقا في هذا العالم. توقفت عندها كثيرا وقلت لها شكسبير لم يقل هذه الجملة العظيمة وتنبأت لها بكتابة الشعر. لكل واحدة تمنيت لها تحقيق ماتريد. أضفت إلي التي تريد العمل بالمحاماة انها ستكون سياسية قوية مدافعة عن الشعب كله. وجاء دور آنجيل التي تحدثت عن رغبتها أن تطوف العالم. كان قد سبق لها أن سألتني هل زرت نيويورك ولما أجبت بالإيجاب سألتني عنها. وقالت انجيل الصغيرة إنها تتمني أن تقرأ كثيرا وتتمني أن تكون راقصة يعرفها العالم. حدثتها عن الراقصة الأمريكية المثقفة إيزادورا دنكان في أول القرن العشرين التي تزوجت من الشاعر الروسي يسينين بعد الثورة البلشفية. وتمنيت لها أن تكون في شهرتها الفنية والثقافية. وجاء اليوم الأخير الذي سيقرأ فيه ما كتبته عنهن ومن يحضر من أسرهن وفوجئت بالقائمين علي الامر يعرضون فيلما تسجيليا قديما عن إيزادورا دنكان كان خلفية اللقاء كله، ايزادورا دنكان بنفسها كانت معنا. وكان الحضور كبارا أيضا فأضيف للحديث عن التلميذات حديث عني وعن مصر لم أشأ أن يطول كثيرا ثم حفلة توقيع للكبار. الذي لاحظته بين الأطفال هو فتاة جزائرية. هي أكبرهن سنا. في العاشرة. قالت إنها لا تري إلا أشباحا وخيالات في حياتها وأنها تخاف الأشباح. ولم يكن لديها إجابة عن أحلامها وأمنياتها. بدا لي أن أهلها ضاغطون عليها ضغطا شديدا. عرفت الفرق بين تربية عربية وتربية فرنيسة. أصابني الحزن لأجلها. تمنيت أن يعيد أهلها علاقتها بالحياة الواقعية حتي تتحول الأشباح المخيفة إلي قصص وروايات قد تكتبها يوما. للأسف الصور التي صوروني فيها معهن لم تصل إليّ لكنها معهن. معي فقط ورقة جميلة كتبت فيها آنجيل الصغيرة لي بضع جمل جميلة وأعطتها لي ولن تضيع مني.

لم يكن ممكنا لكل هذا الجمال أن يمر بلا ألم. كانت تأتيني أخبار مصر من تويتر والفيس بوك ولم تكن تدهشني، فمنذ وقت ليس بالقصير والأخبار كلها خارج حدود العقل والمنطق. الوفيات كانت تؤلمني كما حدث معي في وفاة المناضل محمد خليل الأخ الكبير للمناضل كمال خليل. هذا تاريخ من القوة والإنسانية والجمال. ثم وفاة الفنان الراقي الجميل ممدوح عبد العليم . كما غادرت القاهرة يوم العزاء في أستاذنا الكبير ادوار الخراط. لكني حاولت أن أبعد عن الآلام من ناحية والخبل في الأخبار السياسية من ناحية أخري بكتابة الرواية. قرأت في مذكرات زوجة دوستويفسكي أنها التقت به أول مرة حين طلب منها معلمها في مهنة "الاختزال " أن تقوم بمهمة الاختزال لدوستويفسكي الذي عليه أن ينجز رواية في عشرين يوما للناشر الذي وقع معه عقدا أن يفعل ذلك وفاء لسداد ديونه وإلا صارت كل أعماله السابقة ملكا للناشر. كان دوستويفسكي مديونا دائما وكان ماهو شائع عنه أنه مقامر. والحقيقة أن المقامرة لم تكن إدمانا عنده لكنها كانت طريقة يخرج بها من التوتر والارتباك وليس في كل وقت. كان ما هو سبب ديون دوستويفسكي هو أسرته. إخوته وابنه من زوجته السابقة وسلوكه الطيب كمسيحي شديد التدين. لن أحكي هنا ما قالته زوجته وهو عظيم ورائع لكن المهم أنها هي التي قرأت له من قبل رواية من رواياته كانت معجبة به. ذهبت وتفانت في العمل معه وأنجز رواية "المقامر "في ثمانية عشر يوما. قبل الموعد لكن هرب الناشر لتضيع الفرصة فسلم دوستويفسكي المخطوط إلي قسم بوليس وأخذ إيصالا فنجا من ضرر العقد الظالم. أحبها دوستويفسكي وأحبته هو المريض بالصرع. تزوجته وبعد ذلك قصة عظيمة لهذه المرأة التي عاشت معه وهو دائما مديون ولا بيت يملكه ولا حتي عفش بيت فدائما العفش مرهون لديونه حتي استطاعت في آخر عامين معه هو الذي يكبرها بعشرين عاما حين تزوجها. استطاعت أن تكون ناشرة أعماله وصار لهم بيت وأثاث بيت لكنه رحل. الكتاب لا تنتهي متعة قراءته. قررت أن أفعل مثل دوستويفسكي بلا ديون علي. أعني أن أكتب رواية في وقت قياسي. وبالفعل بدأت في الرواية التي تخايلني منذ وقت وانتهيت من أكثر من نصفها في عشرين يوما وتركتها كعادتي لأعود إليها بعد فترة بعيدا بروحي عنها لأراها رؤية نقدية بقدر الإمكان.
تركت لاروشيل في الأسبوع الأخير لأمضيه في باريس.
كانت خمسة أيام في الحقيقة. التقيت فيها من جديد بداليا حسن وشاهيناز عبد السلام وصفاء فتحي وشريف الرملي. سهرنا وضحكنا. وقابلت فيها الشاعر والمترجم كاظم جهاد وأكلت عند سمير في استيريا وزرت متحف الأورسيه الذي أحبه ووقفت أمام المسلة المصرية في ميدان الكونكورد وجلست مع الصديق العزيز باتريك زوج صفاء فتحي في ميدان الجمهورية جلسة رائعة ومشيت في باريس كثيرا ولم أتذكر القاهرة ومصر إلا في المطار. عدت منذ شهر الآن ولازلت أعيش هناك في الهدوء العظيم والروح الحلوة للأصدقاء والأدب الجم لكل من أتعامل معه وأندهش من كوني سافرت كثيرا لكني لم أنس مصر إلا هذه المرة. عدت لأجد كوميديا السياسة ومعارك أعضاء مجلس الشعب والألفاظ القبيحة في الفضائيات والطفل محمود محمد تنتهي مدة حبسه الاحتياطي لعامين ولا يفرج عنه ولم تحدد له قضية ومنع المحامي جمال عيد من السفر بعد منع المدون إسماعيل الإسكندراني من قبل وغيره والحكم بعامين حبس لأحمد ناجي عن روايته " استخدام الحياة ". حيث رأتها النيابة ستقلب كل القيم في مصر وستضيع مصر إلي الأبد ! حكم غير دستوري لكن منذ متي كان الدستور محترما. حكم أخلاقي بسبب رواية أنت حر في قراءتها والفضائيات عامرة بالألفاظ الخارجة وفي الطريق والميكروباصات وعلي المقاهي وفي الفيس بوك وتويتر وانستجرام والواتس أب وما تشاء من وسائل الاتصال. والتحرش قائم في الطرقات بنسبة تصل إلي ثمانية من كل عشرة رجال يتحرشون بالنساء. لا أريد أن أستطرد. كل ما أتمناه أن أنسي ما حولي قليلا وأكمل روايتي هنا في مكانها وزمانها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.