تفتحت مداركي علي احتفالية سنوية تشارك فيها الأسر المصرية سواء القادمة من داخل القاهرة الكبري أو خارجها، والتي عادة ما تتزامن مع إجازة نصف العام حتي يتسني لطلاب المدارس والجامعات أن يصطحبوا أباءهم إلي أرض المعارض للمشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولكن يبدو أن المعاناة وهدر الحق كُتب علي المواطن المصري حتي في الثقافة، فماذا ينقص هذه الفاعلية العريقة حتي تؤدي دورها شكلا ومضمونا؟ يثبت هذا المواطن أنه وبخلاف ما يقال عنه، يسعي إلي الثقافة والكتاب ويواجه الصعاب منذ كان الوصول إلي المعرض صعبا للغاية عبر المواصلات المعتادة وحتي أصبح أكثر يسرا بعد افتتاح خط مترو الأنفاق الثالث الذي خصصت إحدي محطاته للمعرض ولكنه ما يكاد يستبشر خيرا حتي يصاب بالإحباط الكبير ، فهو سنويا يتابع الأخبار التي تتحدث عن تطوير أرض المعارض وقروض بالملايين لأجل ذلك، وتحديدا منذ عام 2010؛ بلغت 200 مليون دولار عام 2012، لا يعرف أحد عنها شيئا، ولكن شيئا لم يتغير بداية من اليافطة المتآكلة عند بوابات الدخول. وما إن يلمح بوابة الدخول حتي يواجه الصدمة الأولي المتمثلة في طوابير من مئات الزائرين ينتظرون دورهم للدخول نتيجة سوء تنظيم واضح وضيق أفق ستجده يتعلق بأمور أخري كثيرة في بقية الرحلة التي يخوضها المواطن في المعرض، والأسوأ أن يلقي المسئول باللائمة علي الأمن وخلافه بما يعني أنه لا حيلة في الأمر، وأنه سيتكرر مستقبلا، بدلا من أن يبحث عن آليات للتيسير، وأن يقدر هذا المواطن الذي يتحمل مشقة الانتظار من أجل المشاركة في هذه التظاهرة الثقافية. بعد الدخول يواجه صدمة أخري؛ يدرك وللوهلة الأولي أنه لا جديد عما اعتاده في الأعوام السابقة حيث الخيم المتراصة علي الجانبين كما هي، إلا أن إدارة المعرض عاودت الخريطة التي كانت متوافرة قبل عدة سنوات علي لوحة مثبتة أمام المدخل إلي جانب أخري مطبوعة توزع بمبني التنمية؛ البناء الوحيد الذي يحظي بالاهتمام ويضم الأجنحة الرئيسية المختصة بعرض الكتب فقط دون بيعها وكذلك الفاعليات الرئيسية في القاعات الموزعة بالدور العلوي، ولكنها خرائط وهمية لا تزيل عنه الطلاسم بل ربما تجعله في متاهة أكبر مع غياب علامات الاتجاهات التي كانت متوافرة قبل عدة سنوات أيضا، واختفت. وإلي جانب مبني التنمية يوجد أيضا مبني سراي 19، والبقية لا تزيد عن كونها مجرد مجموعة خيم لإيواء الكتب يصعب معها عمل تنظيم جيد يتناسب مع معرض دولي ذي شأن وقيمة .. لنتساءل من جديد ولا مفر من ذلك "أين ذهبت ملايين التجديد؟"، والمعرض في هذه الحالة المزرية شكلا مما يؤثر سلبا في تحقيق الركن الأول وهو عرض الكتب حتي بالطرق المعتادة، ناهيك عن الغياب التام لأي تطوير تكنولوجي فيما يتعلق بوجود خدمة رقمية عن الكتب المعروضة وتداولها بإحصائيات، وقاعدة بيانات حتي فيما يخص كتب مؤسسات الدولة. ومن الركن الأول إلي الثاني فإن الكتب تعاني من الإهمال الشديد والقسوة في التعامل معها وخاصة في سور الأزبكية رغم ما تقدمه من خدمة لا بديل لها للجمهور، ولا فرق بين قديم وجديد، فجميعها ملقي علي الأرض حتي المصاحف، وكأنك في أحد أسواق الملابس المستعملة، وإن كنت تبحث عن كتاب بعينه فستعاني كثيرا حتي تعرف الدار أو الخيمة التي ستجده فيها، خاصة وأن الكثير من المشرفين عليها ليس لديهم حصر بأسماء الكتب التي لديهم ولن أقول عددها. وصولا إلي الركن الأخير المتعلق بصفة الدولية التي لا تجد أي مدلول يشير إليها، حيث تقلصت عدد الدول التي تشارك بأجنحة في المعرض دون سبب واضح، ربما لأن البعض منها لا يرغب في أن يشارك في جريمة ذبح الكتب بوضعها في خيم للإيواء، وللحق كنا في سنوات سابقة قد قطعنا أشواطا عدة نحو تحقيق صفة الدولية ولكننا تراجعنا بشدة، ويحتاج الأمر إلي وقفة ومراجعة بموضوعية وهدوء. تتغلب رغبة المواطن علي كل هذه الأمور الشكلية، فتجد الجمهور يتجول بحماس في مختلف أرجاء أرض المعرض من خيمة لأخري، ولكنه يصدم مجددا بأسعار الكتب المبالغ فيها إلي حد بعيد والتي تتراوح بين 30 إلي نحو 500 جنيها بحسب تخصص الكتاب وحجمه، وبينما تتجول هنا وهناك تجد نفسك أمام جناح "مكتبة الأسرة"، وما أن تتجاوزه حتي تعود إليه بنظرك مجددا، وتتساءل "مكتبة الأسرة..؟؟.. ألم تتوقف مطبوعاتها منذ أكثر من خمس سنوات، أم يوجد لديهم كتب قديمة لم يختطفها الجمهور بعدما كانت تفترش الأرصقة مع الصحف والمجلات؟؟". وبدافع الفضول تدلف إلي هناك، لتفاجأ بأن المشروع لم يتوقف وأن هناك مطبوعات إنتاج 2013، 2014، 2015 وبأسعار رخيصة للغاية، فمثلا؛ رواية للكاتب سليمان فياض تباع بسعر جنيهين ونصف، ونفسها بغلاف مختلف في إحدي خيم الدور الخاصة بسعر خمسة وعشرين جنيها أي عشرة أضعاف، وهنا ربما تستحضر الشيطان لرأسك ويساورك الشك حول اختفاء مطبوعات مكتبة الأسرة التي لن يوفرها الجمهور إن ظلت توزع كما في السابق، هل وراء ذلك شيء من الفساد الذي بات مستوطنا فينا وتظهر أعراضه يوما بعد الآخر أم أن الأمر يتعلق بضعف الامكانات المادية المتاحة لمكتبة الاسرة؟. وقبل أن يستنكر المسئولون ويرددون أنه لا علاقة لهم بأسعار الكتب الباهظة التي تعرضها الدور الخاصة، فإن مسئوليتهم تكمن في وضع معايير محددة لضبط أسعار المطبوعات المختلفة، وهناك دراسات عديدة في تسويق الصناعات الورقية والطباعة مع مراعاة مجال الكتاب ومؤلفه وغيره مما يدخل في القيمة التسويقية له. وصولا إلي بقية الأنشطة والفاعليات التي يستهدفها المعرض والتي أخذت في السنوات الأخيرة تحظي باهتمام يفوق ما يجب أن تلقاه الكتب وعرضها التي باتت عند إدارة المعرض هامشية، ورغم هذا فإن الفاعليات تعاني من أمراض عدة زادت هذا العام بسبب سوء التنظيم الواضح فيما يتعلق بكثرتها ومواعيدها المتداخلة وغير المنضبطة إلي جانب ما يتكرر من معرض لآخر ورغم الإشارة إليه فلا حياة لمن تنادي. تلاحظ في الفاعليات الخاصة بالندوات ولاسيما "كاتب وكتاب"، "المائدة المستديرة"، "المقهي الثقافي"، "ملتقي الإبداع" وغيره احتكار بعض المقدمين أو من يديرون الحوار وكذلك الضيوف بشكل غير مبرر ومع اختلاف موضوعاتها، بالإضافة إلي اعتذار العديد من الضيوف المفترض حضورهم، وفي المجمل فإن من التزموا بالحضور لا تتعدي نسبتهم 40٪، فهل يعود هذا إلي ضعف الحافز أم لعدم وجود عقوبة كالحرمان من الحضور في عدد من الدورات القادمة أو مزايا أخري تجعلهم لا يستخفون بالمعرض وجماهيره. وحتي تصبح الأمور أكثر وضوحا وتثري المعرض يجب وضع معايير واضحة وبشفافية لاختيار المحاورين والضيوف علي حد سواء وكذلك وضع لائحة تعد بمثابة عقد بين الأطراف كافة بما فيهم من يقدمون فقرات فنية مسرحية وسينمائية، والذين رغم برامجهم الجيدة والمتميزة في بعض فقراتها فإنها تعاني هي الأخري من سوء التنظيم والإهمال أيضا، ويجب اختيار موضوعات الندوات بعناية وخاصة ما يتعلق بالثقافة العامة. ومن ملامح سوء التنظيم كذلك تكرار إقامة أكثر من فاعلية في نفس الخيمة، أو إقامة أكثر من واحدة صاخبة في خيم قريبة من بعضها مما يتسبب في تداخل يؤثر سلبا علي الجانبين، ويزيد الطين بلة ما يحدثه عمال الصيانة، فأغلبها أعمال حفر وتكسير تصاحبها طرقات شديدة ومزعجة للغاية. بعد يوم أو اثنين من بدء فاعليات المعرض تتحول أرضه خارج الأجنحة والخيم إلي مرتع للقمامة التي تتراكم بأحجام كبيرة وتفوح رائحتها بشدة لتصل إلي ذروتها مع ختامه، ورغم تعلل البعض بأن سلوك الجمهور خارج السيطرة، ولكن في ذلك أيضا قصور شديد من جانب إدارة المعرض والمسئولين عن تنظيمه أيضا، بداية من الغياب المريب لصناديق القمامة. وفي هذا الشأن؛ من ناحية يجب إلزام دور النشر وغيرها التي تشغل الأجنحة والخيم إلي جانب المطاعم المؤقتة بتنظيف الأماكن حولها، ومن ناحية أخري فيمكن استغلال المناطق الخضراء التي يلجأ لها الجمهور للراحة وتناول الأطعمة بحيث تخصص أماكن بها لأكشاك بيع الطعام والتي تلتزم بتنظيفها إلي جانب التنبيه علي الجمهور بأنه لا يجوز مطلقا تناول الطعام خارج هذه الأماكن، ومن يخالف سيغرم بمبلغ مالي وغيرها من القواعد المطبقة في أماكن عدة مثل مترو الأنفاق ويلتزم بها الجمهور. وفي هذا المحفل الذي يتردد عليه الملايين في خمسة عشر يوما، تدفعك هذه الحشود للتساؤل عن غياب الرعاة والقاعدة التسويقية التي تقول" إذا وجد الجمهور، وجد الإعلان والمعلن"، ولكن الأمر يتطلب دراسة وإدارة واعية لديها إرادة يمكنها أن تجعل المشروع الثقافي الخدمي يرعي نفسه ذاتيا، بل ويدر ربحا يخدم مجالات الثقافة الأخري ويريح كاهل الدولة وميزانيتها قليلا. لا شك أن هناك جوانب إيجابية في المعرض تتعلق ببعض الأنشطة الواعدة مثل "ضيف الشرف"، "أنشطة الطفل" وبعض العروض السينمائية، ولكن نظيرتها السلبية الكثيرة جدا تطغي عليها، وحرصا منا نحاول إلقاء الضوء عليها لتلافيها، بل ونطلع لمزيد من التطور فيمكن مثلا وضع شاشة عرض في إحدي المناطق الخضراء وسط أرض المعرض التي تكرر عرض برامجه وربما تنقل مقتطفات مباشرة مما يقدم داخل القاعات لجذب الجمهور إليه عبر شبكة ترتبط بالكاميرات التي تتواجد بالفعل بداخلها وتقوم بتصوير الفاعليات المختلفة. ويبقي أن أذكر كلمة حق وشهادة أمام المولي عز وجل، فلا يمكن أن يتحمل المسئولون الحاليون وحدهم العبء والتقصير الذي أدي لكل هذه السلبيات، فباستثناء القليل من ملامح التطوير، فإن مظاهر المعرض لم تختلف منذ أكثر من 25 عاما وبعضها انحدرت، وهو ما يعد ركودا يؤدي إلي الملل والرتابة، ويحسب للجمهور أنه لم ينصرف عنه بعد، ولكن التاريخ لن يبخس حق هؤلاء المسئولين إن تلافوا الأخطاء وساهموا بحق في تطويره ليعود معرضا دوليا للكتاب ومحله القاهرة.