حالات الحصول على إجازة سنوية لمدة شهر في قانون العمل الجديد    طبق البيض يتراجع 60 جنيها ويسجل أدنى سعر منذ 7 أشهر    توريد 188 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    الإسكان: إطلاق التيار الكهربائي وتشغيل محطة الصرف الصحي بأراضي بيت الوطن في القاهرة الجديدة    مد فترة التقديم لوظائف القطار الكهربائي الخفيف.. اعرف آخر موعد    البحيرة: توريد 188 ألف طن قمح للشون والصوامع حتى الآن    16 مايو 2024.. أسعار الأسماك بسوق العبور للجملة اليوم    إطلاق 40 صاروخا من لبنان باتجاه الجولان المحتل    الرئيس العراقي: نتنياهو رفض كل القرارات والنداءات الدولية لوقف الحرب في غزة    عضو ب«النواب»: القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال القمة العربية    إعلام فلسطيني: شهيد ومصابون في قصف إسرائيلي استهدف وسط مدينة رفح الفلسطينية    الرئيس الصيني: بكين وموسكو تدافعان عن السلام والنظام العالمي والدور المركزي للأمم المتحدة    مراسل «القاهرة الإخبارية»: مستشفيات غزة قد تتوقف عن العمل خلال ساعات    تشكيل برشلونة المتوقع أمام ألميريا في الدوري الإسباني    موعد مباراة المصري والبنك الأهلي بالدوري الممتاز والقناة الناقلة    أصر على نزوله.. رئيس الترجي يفاجئ علي معلول لحظة وصول بعثة الأهلي (فيديو)    رضا عبد العال يهاجم ثنائي الأهلي والزمالك بسبب المنتخب    منتخب الغربية يقصي جنوب سيناء ويتأهل إلى دور ال16 من دوري مراكز الشباب    استبعاد رئيس لجنة بالشهادة الإعدادية بالمنوفية بعد تداول ورقة امتحان الجبر    انتظام حركة القطارات بمحطات الخطين الأول والثاني بعد إصلاح عطل فني    ختام فعاليات مهرجان المسرح بجامعة قناة السويس، اليوم    الأحد.. الفنان عمر الشناوي حفيد النجم كمال الشناوي ضيف برنامج واحد من الناس    مواعيد مباريات اليوم الخميس 16 مايو 2024 في الدوري المصري والبطولات العالمية    نجم الترجي السابق ل«أهل مصر»: الأهلي مع كولر اختلف عن الجيل الذهبي    استقرار اسعار صرف الدولار مقابل الجنيه المصرى في بداية تعاملات اليوم    تداول 10 آلاف طن و585 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    تطور جديد في قضية سائق أوبر المتهم بالتحرش بفتاة التجمع    بوتين يصل قاعة الشعب الكبرى في بكين استعدادا للقاء الرئيس الصيني    اليوم.. انطلاق الملتقى التوظيفي لزراعة عين شمس    ياسمين عبدالعزيز تنشر صورة مفاجئة: زوجي الجديد    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية بيكلموني قائمة الأكثر استماعا في مصر    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    تنظيف كبدة الفراخ بمكون سحري.. «هيودي الطعم في حتة تانية»    طريقة عمل دجاج ال«بينك صوص» في خطوات بسيطة.. «مكونات متوفرة»    «سلامتك في سرية بياناتك».. إطلاق حملة «شفرة» لتوعية المجتمع بخطورة الجرائم الإلكترونية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    غارات إسرائيلية على منطقة البقاع شرق لبنان    توقعات الأبراج وحظك اليوم 16 مايو 2024: تحذيرات ل«الأسد» ومكاسب مالية ل«الحمل»    إبراهيم عيسى: "في أي لحظة انفلات أو تسامح حكومي البلاعات السلفية هتطلع تاني"    محمود عاشور يسجل ظهوره الأول في الدوري السعودي    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    تراجع الوفيات بسبب جرعات المخدرات الزائدة لأول مرة في الولايات المتحدة منذ الجائحة    "في الخلاط" حضري أحلى جاتو    قدم الآن.. خطوات التقديم في مسابقة وزارة التربية والتعليم لتعيين 18 ألف معلم (رابط مباشر)    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟ أمين الفتوى بجيب    بعد 40 يوما من دفنها، شقيقان وراء مقتل والدتهما بالدقهلية، والسر الزواج العرفي    4 سيارات لإخماد النيران.. حريق هائل يلتهم عدة محال داخل عقار في الدقهلية    رسميا.. جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 thanwya جميع الشعب مباشر الآن في محافظة القليوبية    منها البتر والفشل الكلوي، 4 مضاعفات خطرة بسبب إهمال علاج مرض السكر    «فوزي» يناشد أطباء الإسكندرية: عند الاستدعاء للنيابة يجب أن تكون بحضور محامي النقابة    كم متبقي على عيد الأضحى 2024؟    مباشر الآن.. جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 thanwya في محافظة القليوبية    رئيس تعليم الكبار يشارك لقاء "كونفينتيا 7 إطار مراكش" بجامعة المنصورة    قصور الثقافة تطلق عددا من الأنشطة الصيفية لأطفال الغربية    هولندا تختار الأقصر لفعاليات احتفالات عيد ملكها    فرقة فاقوس تعرض "إيكادولي" على مسرح قصر ثقافة الزقازيق    حسن شاكوش يقترب من المليون بمهرجان "عن جيلو"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشفاهية الثانوية
الحديث وسيلة للتفاعل

وفي الحديث وحده يمكننا أن نتعلم أشياء عن زماننا وعن أنفسنا. باختصار، إن أول واجبات الإنسان أن يتكلم، ذلك هو عمله الرئيسي في هذا العالم، والحديث الذي هو كلام متناغم بين اثنين أو أكثر هو أقرب الملذات منالاً علي الإطلاق؛ فهو لا يتكلف شيئًا من المال، وكله أرباح، وهو يتمم ما تعلمناه، ينشئ صداقاتنا ويطورها، ويمكن الاستمتاع به في كل الأعمار، ومهما تكن الحالة الصحية.
روبرت لويس ستيفنسون: الحديث والمتحدثون
أطروحة هذا الكتاب تقول بأن الأدب، كغيره من المؤسسات، يقوم بصياغة أشكال متغيرة من التواصل، كما تقوم هذه الأشكال بصياغته. والتغير الكبير الذي وقع في القرن العشرين الذي انتهي الآن، تجسد في العبارة اليومية: "انفجار الأحاديث"talk explosion، وفي المصطلح المتحذلق " الشفاهية الثانوية" secondary orality. وأهم نتيجة لهذا الانبعاث للشفاهية في رأيي، كانت ذلك المكوِّن التفاعلي في التواصل، وهو المكوِّن الذي لم نتعرف بعد علي مكانته الحقيقية.
وقد طرحت في التصدير فكرة "قصص الحديث" بصفتها خاصية مميزة لأعمال الأدب السردي في القرن العشرين، أعطت إحساسًا بالعلاقة وبالتبادلية لدي القراء، وهو الإحساس الذي كان مرتبطًا من قبل بعملية التفاعل المباشر وجهًا لوجه. إنني أربط "النزوع إلي التبادلية" في هذه النصوص بتعريفات المختصين في علم اللغة الاجتماعي للحوار بأنه " منظومة لتبادل الأدوار" turn-taking system، حتي أؤكد ما أزعمه من أن بعض الأدب يتحدث، بمعني ما وبطريقة ما. وأنا أستخدم كلمة "قصص" في مفهومي الرئيس علي نحو إشاري محدد، لأشير إلي اقتصار دراستي علي القصص النثري، وأستخدمه أيضًا علي نحو إيحائي أوسع، لاستدعاء المزاعم المفيدة، عن "القصص"، التي تعتمد عليها الفكرة الأوسع عن الشفاهية الثانوية، والفكرة الأضيق عن قصص الحديث.
علي سطح هذه الفكرة تقف صيغ الحديث الأربع التي أدرسها هنا: الحكي، والشهادة، والمناجاة، والتفاعلية، كأنها أربع ظواهر مستقلة تمامًا. وفي هذا الفصل سأتتبع خيط "الحديث بصفته تفاعلاً"، وهو الخيط الذي يربط هذه الصيغ بعضها بالبعض الآخر من خلال:
أ- خلق سياق لتعريف علم اللغة الاجتماعي للحديث كما قدمته في التصدير، وأيضًا للتخلص من هذا التعريف.
ب- تحديد موقع فكرة التفاعل ضمن أفكار الشفاهية الثانوية.
ج- شرح الحديث بصفته تفاعلاً ضمن الأنواع الشفاهية الثانوية المألوفة.
د- بيان ما الذي قد تعنيه عبارة "الحديث بصفته تفاعلاً"، أي الحديث الذي أعنيه، داخل القصص النثري
"الحديث"
حديث رضع، حديث كبار، حديث بنات، حديث النفس، حديث شوارع، حديث تافه، حديث في الشغل، حديث أسود، حديث مستقيم، حديث مزدوج، حديث ساخن، حديث رديء، حديث رخيص، حديث المدينة، حديث الحفلة، حديث إلي، يرد الحديث بشكل غير مهذب، يتحدث للترويج، يتحدث للتحقير، يتحدث للتخليص،، يتحدث للتدارس، يتحدث مفاخرًا، يتحدث بقذارة، يتحدث بالعقل، يتحدث في الخلاصة، يتحدث للتعريض، يتحدث بوساخة، يتحدث بالقصة، يتحدث للمعالجة، كتاب يتحدث، رأس يتحدث، حديث أشخاص في الراديو، حديث أشخاص في التليفزيون، الكل يتحدث، انفجار الحديث. الحديث.. الحديث.. الحديث.
نحن نستخدم الكلمة في كل وقت، ولكن ماذا تعني هذه الكلمة؟
لأغراض هذه الدراسة، أتبع ما ذهب إليه روبرت لويس ستيفنسون وآخرون من فهم لمصطلح الحديث، باعتبار أنه يشير أولاً إلي الموقف المطلق لتبادل الكلمات في الدنيا بين اثنين من الناس أو أكثر. وباستدعائي لهذا النموذج أُبرزُ العنصر التفاعلي في اللغة، فضلاً عن عنصر الحضور فيها، وعنصر الآنية، والتبادلية. وأهدف من ذلك أيضًا إلي وضع نفسي في صف أولئك الدارسين الذين يؤمنون بأن المحادثة هي الأساس لأشكال الاتصال الأخري، وأن "المبدأ الحواري نفسه الذي يحكم العلاقات داخل الكلمات المكتوبة وبينها، يحكم العلاقات داخل التلفظات المنطوقة وبينها"هولكويست Holquist. 1985 - 83.
لقد تطور المفهوم التفاعلي للغة من طرق متعددة، عبر علوم مختلفة وبينها، علوم مثل علم النفس، والفلسفة، والأنثربولوجيا، وعلم الاجتماع، ومداخل بحثية معينة في اللغويات. وتستند دراستي بوضوح علي موروث يمكن أن يمتد من هارولد جارفينكل Harold Garfinkel ، وديل هايميس Dell Hymes ، وإرفنج جوفمان Erving Goffman، إلي هارفي ساكس Harvey Sacks، وإيمانويل شيجلوف Emanuel Schegloff، وجيل جيفرسون Gail Jefferson. لقد طور عالم الاجتماع جارفينكل مقاربة فكرية عرفت بالمقاربة الخطرة، غير أن اسمها التوصيفي " منهجية إثنية"، وكانت منهجية ملتزمة بفهم الحياة اليومية "من داخل" المواقف الاجتماعية الفعلية. آمن جارفينكل بأن تفاعلات الماضي والحاضر، وليس التفاعل بين كلمات اللغة، تكمن في قلب عملية الاتصال (1967). وارتبط هايميس بمركب هجين من الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع يشار إليه عادة باسم "إثنوجرافيا الكلام"، وضمن أشياء أخري كثيرة طرح تطور مجال بحثي يسمي "الكلام المقارن"، جبنًا إلي جنب مع علم الدين المقارن وعلم الحيوان المقارن (هايميس 1962، 1974-أ، 1974-ب، بومان وشيرزر Bauman and Scherzer 1974، تيدلوك Tedlock 1983، شيرزر 1992 ). كان جوفمان بالطبع هو الباحث الرئيسي في مسألة "التفاعل وجهًا لوجه"؛ فقد أوضح القواعد المسكوت عنها للسلوك العام. أما ساكس وشيجلوف (تلميذا جوفمان) فقد أسسا إلي جانب جيل جيفرسون "تحليل المحادثة"، وهو علم يمكن فيه لمحادثات مكتوبة وغير ممثلة علي المسرح، وكذلك محادثات غير مكتوبة، أن تحلل في التو واللحظة، لتحديد كيف يسبق التفاعل اللفظي في سياقات معينة. وترفض كل هذه المقاربات المواد التي تقوم عليها التحليلات اللغوية التقليدية، والمواد المصطنعة اصطناعًا، مثل عبارة "القطة علي الحصيرة". هذه المقاربات تستمع بدلاً من ذلك إلي الكلمة المنطوقة في موقف، يتم تجميع المادة في الأساس من مقابلات بين أشخاص لا يحذف منها الباحثون، ويتم تحليلها بحثًا عن تقاطعات المحادثة اليومية، والبناء الاجتماعي، والثقافة. لماذا؟لأن اللغة نفسها كما يقول الإثنوجرافي مويرمان في صيغة قد يستريح لها كثير من المشاركين في هذه العلوم لأن "اللغة نفسها صامتة، وأي شخص مهتم بكيف يصبح رأي في العالم مشتركًا، أو كيف يدرك، أو كيف يستمر، أو كيف يتخذ طابعًا اجتماعيًّا داخل جماعة ما، عليه أن يُعني باللغة وهي تمارس في العلن وتؤلف في مجتمع، عليه أن يُعني بالحديث"(1988- 103).
وبهذه العناية بالحديث غيَّر هؤلاء المختصون في علم اللغة الاجتماعي من أفكار المحادثة بحيث تتجه نحو التفاعل. وهناك ثلاثة جوانب في هذا التغيير تعود بالنفع علي مشروعي البحثي: أن الأحجار الأساسية التي ينبني منها الحديث ليست الكلمات أو الجمل، بل "الأدوار" أو "الانتقالات"، وأن الأدوار التي يلعبها المتكلم أو المستمع ينظر إليها باعتبار أنهما "شريكان" يكمل أحدهما الآخر، وأن النشاط نفسه لا يحدده ما أُنتجَ في النهاية (أي محتوي الكلام)، بل تصور المشاركين لما يحدث.
يأخذ المشاركون أدوارهم، بصراحة. ويركز تعريف للحديث أشد وضوحًا في أسلوب تحليل المحادثة خصوصًا علي عنصري التفاعلية والتبادلية: "فالحديث مصمم بحيث ينعكس من جديد علي الأدوار السابقة، وينصب مباشرة علي الأدوار الجديدة، ونحن نفسر الحديث كما ل كان - بشكل ما مقترنًا بالأدوار السابقة واللاحقة"(نوفسينجر Nofsinger 1991 3). وكان أول من لخص المبادئ الأساسية لمنظومة الأدوار، هم ساكس، وشيجلوف، وجيفرسون في مقالتهم التأسيسية عام 1974"أبسط نسق لمنظومة تبادل الأدوار في المحادثة:" فمحللو المحادثة يعرفون المحادثة "المعتادة"، "الطبيعية"، "الفورية" بأنه "نماذج من نظام تبادل الكلام، مع نظام مرن لتبادل الأدوار، وتبادل الأحجام، وتبادل المحتوي خصوصًا، وذلك بالنسبة لمناسبة معينة ولمن يشتركون فيها" (ويست وزيمرمان 1982 515) بل إن ساكس وشيجلوف طرحا مفهومًا مفيدًا هو مفهوم "الأزواج المترابطة"، حيث لاحظا أن "الفعل الحالي (الجانب الأول من الزوج، مثل التهنئة أو السؤال) يتطلب عند أول فرصة يكتمل فيها هذا الجانب الأول - إنتاج فعل للرد (أو "الجانب الثاني من الزوج") (هكذا لخص جودوين وهيرتيج المفهوم في 1990 287). إن الإحساس بغياب الجانب الثاني من الزوج، يؤكد أن وجوده أمر متوقع، ويقول تحليل المحادثة بأن منظومة الزوج المترابط هي "إطار أولي، لا شك أن المشاركين في المحادثة، سيكشفون من خلاله عن جانب من تحليل كل منهما لفعل الآخر"(جودوين وهيرتيج 288). ومن هذا المنظور فإن الدور الأول يرتبط دائمًا ، ليس فقط بالوجود التقليدي لما يسمي "المتلقي" في عقولنا، بل أيضًا بوجود فكرة تقول بأن المتلقي سرعان ما سيأخذ دور "المتكلم". ومصطلحات "المشارك" و"الشريك" التي يستخدمها ساكس، ت}دي إلي النظر من جديد في دوري "المتكلم المرسل" و "المستمع المتلقي"، خصوصًا فيما يتعلق بال"استقلالية" و "النشاط". المتكلمون في رأي محللي المحادثة، ليسوا مهيمنين يفرضون ما يريدون قوله علي مستمعين سلبيين، بل "إن المستمعين مشاركون فاعلون في عملية صناعة الدور في الحديث، ويمكن لفعلهم أو عدم فعلهم، أن يؤدي إلي تعديلات جوهرية في الجملة التي يكون المتكلم بصدد إنتاجها"(جودوين وهيرتيج 293).
يستخرج جوفمان الأفكار المتناغمة عن الحديث من مفاهيم "الألعاب" عند فيتجنشتاين؛ فمكونات هذه الألعاب عبارة عن" انتقالات" قد "توازي أحيانًا جملةً، وقد توازي أحيانًا دورًا في الحديث، لكنها لا تحتاج إلي فعل هذا أو ذاك"(جوفمان 1981 24) أو فلنقل إن الحديث بالنسبة لجوفمان ليس معتمدًا علي الكلمات اعتمادًا كاملاً. إنه يبتعد أكثر حتي مما كان يفعل محللو المحادثة عن الأفكار اللغوية المعيارية الخاصة بالسؤال والجواب، أو العروض والردود، يبتعد حتي عن التلفظات اللغوية وبشكل حصري. إنه يستعير من اللغويات مصطلحي "العرض" و"الرد" ويعيد تكييفهما، بحيث يخدمان أغراضه. يعرف جوفمان "العرض" بأنه "انتقالة تتميز بتوجهها نحو نوع من الإجابة علي ما سيأتي" والرد بأنه "انتقالة تتميز بأنه ينظر إليها وكأنها إجابة من نوع ما علي مسألة كانت قد طرحت في السابق"(24). وهذه التعريفات، مثل التعريفات التي استشهدت بها من قبل، تعرف الحديث عن طريق ما يتميز به من تركيز علي التبادلية، أي بتوجه المشاركين فيه نحو التبادل، أو بعبارة أخري عن طريق فهم تصور المشاركين فيه أنهم في حالة تفاعل بعضهم مع البعض الآخر. وفهم جوفمان لموقف المشاركين في الحديث، هو فهم حيوي بالنسبة لعملي هنا؛ إذ يتألف الرد لا من "كونه" إجابة، بل من "كونه منظورًا إليه"من قبل المشاركين علي اعتبار أنه إجابة. وكما في فكرة ساكس وشيجلوف عن الأزواج المترابطة، فإن الجانب الثاني من الزوج قد لا يتخذ شكلاً ملموسًا أبدًا، غير أن هذا لا يغير من حقيقة أن العرض بالمعني الموجود عند جوفمان، يكشف عن توجه إلي استجابة لها ما يسبقها.
يكشف جوفمان علي نحو متكرر وواضح، عن أن الأفعال غير اللغوية هي في الغالب ردود تلائم العروض أكثر مما تلائمها التلفظات اللغوية؛ فلسوف يصدنا شخص يرد ب"نعم" عن السؤال:"هل عندك الوقت" ثم يتركنا ويمضي. وبالصورة نفسها، من المفضل علي المائدة أن نتلقي الملح، أكثر من أن يقال لنا" نعم، يمكنني أن أمرره لك" ثم لا نتلقي شيئًا. إن الاستجابة الشفاهية ردًّا علي تعبير "علي نقطة البداية، خذ مكانك، انطلق" أو " يبدأ الامتحان الآن"، ستكون الهزيمة الذاتية (جوفمان 36-40، وانظر أيضًا جودوين وهيرتيج 298). في هذه الأمثلة كلها، يمكن لتوليفة من من الأفعال اللفظية والأفعال غير اللفظية، أو للأفعال غير اللفظية وحدها، أن تؤدي بنجاح دور الجانب الثاني من الزوج المترابط. إن فعل الإشارة إلي الوقت (بأن ينظر المرء في الساعة، ثم يعلن عن الوقت، أو بإظهار المرء لساعة يده، أو بالإشارة إلي البحث عنها"، أو فعل تمرير الملح، أو بدء سباق أو امتحان، كل هذا يكشف عن نزوع من يقومون بالاستجابة نحو "مسألة طرحها" المتكلم.
ورغم أن دارسي علم اللغة الاجتماعي كثيرًا ما يستخدمون مصطلحي"حديث" و "محادثة" بالتبادل، فإنني اخترت مصطلح "حديث" للتعبير عن مفهومي الأساسي؛ وذلك حتي أتجنب بحسم الإيحاءات اللفظية لكلمة "محادثة"، وأبرز الاهتمام بفكرة التفاعل. ولقد اتبعت في هذا فكرة جوفمان القائلة بأن "الأمر الأساسي بالنسبة للحديث الطبيعي، قد لايكون هو التكوين الوحدة التكوينية القائمة علي المحادثة، بل الوحدة التكوينية القائمة علي التفاعل"(ص 48). قد تضم الوحدة القائمة علي التفاعل عددًا من العناصر الأصغر(أو حتي "الأدوار" بالمعني الموجود في تحليل المحادثة)، غير أن طول الوحدة القائمة علي التفاعل، سيعتمد علي توجه ملائم نحو المسألة التي تم طرحها، وليس علي وحدة من الكلام مجردة من قبيل الجملة، ولا علي تغير المتكلم. وتوضيح جوفمان لهذه النقطة خصوصًا، له صلة وثيقة بدراستي. ويشير جوفمان أنه في حالة الحكي الشفاهي، كما في حالة عرض مسرحية، ستتخذ عملية "الإجابة" شكل تثمين" لا للجملة الأخيرة المتلفظ بها، بل للقصة كلها وطريقة حكيها"(42). ويشير هذا المثال إلي خاصية أخري إضافية لنموذج جوفمان، وهي خاصية مفيدة بالنسبة لمشروعي، الذي أري فيه بعض الأدب وكأنه حديث. لا ينبغي التفكير في المشاركين في الحديث باعتبار أنهم " متكلم" و"مستجيب"، ما لم نضع في اعتبارنا أن هذا يشير، لا إلي الأفراد علي إطلاقهم، بل إلي قدرات في حالة فعل (جوفمان 46). في حالة الحكي، وفي حالة المسرح التي أشير إليها منذ قليل، ربما تكون قدرة "المتكلم" المفعلة، متعلقة بشخص أو أكثر ممن يتصلون بالقصة أو أداء المسرحية. والقدرة المتممة المفعلة ل"من يقوم بالاستجابة" قد تكون مجرد مستمع مفرد، أو مجموعة لها - كجمهور - رنزوعات متفاوتة نحو "العرض"(أي القصة أو المسرحية). وتكشف حالة الحديث إلي النفس أكثر من غيرها عن هذا المفهوم الأشد ارتباطًا بالقدرة لدي المشاركين؛ ذلك أن دور "المتكلم" و"المسجيب" كليهما مفعلان، غير أن فردًا واحدًا هو من يقوم بالدورين(جوفمان 80).
لقد أبعدتني هذه التعريفات والأمثلة عن الخط الأساسي لمفهوم الحديث، باعتباره تبادلاً للكلمات خلال المحادثات اليومية، بين شخصين من الناس أو أكثر. ومهما يكن من أمر، فإن التبادل - أو فلنقل الآن بشكل أكثر دقة: النزوع إلي التبادل يظل أمرًا محوريًّا. من الواضح أنني جهزت نفسي للتدليل علي أن الوحدة التفاعلية في قصص الحديث، ستكون هي إنتاج (كتابة) النص الأدبي، واستهلاكه (قراءته). وأنا فعلاً أعني هذا، رغم أن هذا ينطبق علي كل القصص، وفي الحقيقة أنه ينطبق علي كل الكتابة. وأود أن أعرف قصص الحديث بأنه شيء محدد أكثر من هذا. لقد أنفق جوفمان ومن يقومون بتحليل المحادثة، أكثر جهدهم في تعيين التعديلات التي تجري، عند الانتقال من المحادثة المباشرة إلي أنواع أخري من أنظمة تبادل الكلام، مثل زيارات الطبيب، أو المكالمات التليفونية، أو الحوارات التليفزيونية الإخبارية. وأنا أقوم بمشروعي هذا لأحدد كيف أن النزوع إلي التبادل، يتم التعبير عنه بطريقة مشابهة في بعض الأدب القصصي هلال القرن العشرين. ولكن قبل أن أمضي إلي وصف قصص الحديث، بأنه منظومة لتبادل الأدوار، في سياق تاريخي وثقافي محدد، أحتاج إلي طرح سؤال حول ذلك السياق؛ فلماذا يكون فهم الحديث بصفته تفاعلاً، كذلك الذي استمعنا إليه منذ قليل، أمرًا غريبًا علي ثقافتنا، لدرجة أننا نحتاج إلي متخصصين ليطرحوا ويشرحوا طريقة لفهمه؟ تكمن الإجابة في قضيتين تمضيان جنبًا إلي جنب: قضيتين خاصتين بالوسيط وبعصر الاتصال.
الكلمات (والعوالم) المنطوقة-المكتوبة، وفقًا لعصر الشفاهية الثانوية
لقد عرَّفتُ "الشفاهية الثانوية" حتي الآن مصطلحًا لوصف عصرنا، عصر الابتكار التكنولوجي، الذي مكن الكلمة المنطوقة من العودة إلي الظهور شكلاً مهيمنًا من أشكال التواصل. ولنؤكد أكثر، كان الكلام الشفاهي علي الدوام هو الطريقة المهيمنة للتواصل، إذا نظرنا إلي عدد الدقائق التي يقضيها عدد من الناس يوميًا في الكلام الشفاهي. غير أن مصطلح"الشفاهية الثانوية" يشير (من بين أشياء أخري) إلي تكاثر صيغ إنتاج الكلام الشفاهي، فضلاً عما يتم من إزاحة وعبر هذه الصيغ - لأشكال التواصل المكتوب والمطبوع . من ذلك مثلاً تقلص كتابة الخطابات الشخصية لصالح استخدام التليفون.
ولمزيد من تدقيق المصطلح، فإن الشفاهية الثانوية تستمد من المقاربات الدياكرونية لدراسة التواصل الإنساني؛ حيث يفترض أن تتقدم المجتمعات، من الصيغة الشفاهية الشاملة في التواصل (الشفاهية الأولية)، إلي صيغة قائمة علي الكتابة (صيغة "كتابية"أو "نصية" أو"معتمدة علي حسن الخط"). أما العصر الشفاهي اللاحق، الذي يعلي من قيمة الكلام، فيبدو كأنه ملحق بهذا النموذج. ببساطة نحن نستمع اليوم إلي كلام، وخلال ساعات يقظتنا، أكثر مما كان يستمع آباؤنا وأجدادنا، وأجداد أجدادنا. ولكن كيف لهذا الغرق في الكلام أن يؤثر فينا؟ وإلي أي مدي تكون "الكلمة" "عالمًا" كاملاً؟ وإذا كان وسيط الاتصال يشكل عقلية من يستخدمونه عبر الزمن، فما العقليات التي نتجت عن طريقتنا الهجينة في التواصل؟ ولأصوغ سؤالي بعبارة مختلفة عما سبق: إذا كنا قد صرنا "شفاهيين" مرة أخري، وإذا كان التفاعل مكونًا أساسيًّا من مكونات تواصلنا الشفاهي، فلمَ لا يكون مفهومًا بالنسبة لنا أن ننظر إلي الحديث بصفته تفاعلاً؟
الإجابة الموجزة عن هذا السؤال الأخير، هي أننا لسنا "شفاهيين" مرة أخري، وإنما نحن "شفاهيون ثانويون" للمرة الأولي؛ فمؤخرًا جدًّا "استيقظنا علي وجود الشفاهية حقيقةً معاصرةً بين ظهرانينا" (هافلوك Havelock 1986، 118). وفي إطار النسق الدياكروني للشفاهية-الكتابية، تشير الصفة "الثانوية" لا إلي المعني التعاقبي فقط، أي مجيء شيء بعد شيء آخر(أي مجيء الشفاهية الثانوية بعد شفاهية أولية وبعد مرحلة كتابية) بل أيضًا إلي فكرة أنها "مساعدة" أو "تابعة". أو فلنقل إن الشفاهية الثانوية لا يمكن أن توجد قبل وجود الكلمة المكتوبة؛ ذلك أن التكنولوجيات التي تفعل إعادة استخدام الكلمة المنطوقة، تعتمد علي وجود الكلمة المكتولة في التطور وفي بعض مستويات التشغيل، وأيضًا لأن تغيرات العقلية ترتبط بالكتابية، العقلية الفردية مثلاً، الواعية بنفسها، والإحساس بالاتصال بصفته عملية نقل للمعلومات، هذه العقلية تقوي في عصرنا هذا، عصر الاتصال. علي هذا المستوي يكون مصطلح "الشفاهية الثانوية" غامضًا؛ فهو لا يشير إلي المكون الكتابي في الظاهرة إلا علي نحو غير مباشر. وهذا الجهل عن قصد أو عن غير قصد باعتماد الشفاهية الثانوية علي الكتابية والعقلية الكتابية، الجهل الذي ظل يشكل المجتمعات المعاصرة، يؤلف ما أسميته أنا في افتتاحية هذا الفصل ب"القصص" fiction. ورغم رهافة المصطلح، فإن تعبير "منطوقة-مكتوبة" spoken-written، قد يكون هو الأدق في وصف عصرنا.
وحتي نخطو خطوة أخري نحو تأثيرات العلاقة بين التكنولوجيا وانفجارات الحديث، أود أن أنظر بإيجاز في أفكار والاس شافي Wallace Chafe؛ إذ يكشف رغم أنه لم يهتم اهتمامًا خاصًّا بالنسق الدياكروني الذي تحدثت عنه منذ قليل عن الفروق التي يمكن للوسيط أن يؤدي إليها. يبدأ شافي تحليلاته من ملاحظة أن اعتماد الكلام علي الصوت واعتماد الكتابة علي النظر كان له نتائج متنوعة (1994، 42). وإحدي أقوي هذه النتائج، كانت الفروق في توقيت إنتاج اللغة واستهلاكها؛ إذ "بينما يسير الكلام والاستماع معًا بالضرورة، وبالسرعة نفسها، فإن الكتابة والقراءة يفترقان عن الأساس الذي تقوم عليه اللغة المنطوقة، ويعملان في اتجاه معاكس، كون الكتابة أبطأ والقراءة أسرع"(1982، 37، وأيضًا 1994، 42-43) يسهم شافي وآخرون في تبيان الطابع التزامني للكلام، والطابع المتأني للكتابة، بالنظر إلي تلك التوقيتات المتفاوتة؛ فبينما تميل الأفكار إلي التنامي وهي تُنطَق، فإن الكتاب عادة ما يعدلون الجمل عدة مرات قبل أن يقرأها شخص آخر (شافي 1994، 43). إن الصوت من أي نوع سرعان ما يتلاشي، والصوت الإنساني دون مكبرات لا ينتقل في الفضاء إلي مكان بعيد. أما الكتابة، وباعتمادها علي استخدام مواد معينة، فيمكن أن تنتقل وتستمر في بعض الحالات ربما لآلاف السنين. وفي النهاية، ومن حيث الوسيط، فإن الحديث - في شكله القائم علي المحادثة - ليس له طولٌ مقرر. النَفَس له مصدر يتجدد علي الفور، والكلام كما يلاحظ شافي يبدو كأنه أمر طبيعي بالنسبة للتطور الإنساني. ومن ناحية أخري، فإن الكتابة والقراءة يتحتم تعلمها في المعامل، وتعتمد بقوة علي مصادر من خارج الحدود الجسدية للكُتَّاب والقراء(1994، 43-44)
هذه الحقائق الفيزيقية - علي الأقل حتي اختراع الميكروفون وما تلاه من تكنولوجيات مشابهة تلتقط الصوت، الأمر الذي سأعود إليه فيما بعد تركت أثرها علي عملية التفاعل. يشترك المتكلمون والمستمعون في زمان ومكان واحد، بينما لا يشترك الكتاب والقراء في ذلك غالبًا. يمكن القول إن المتكلمين والمستمعين يتعاونون علي إنتاج الكلام، لا لأن المتكلمين واعون بهوية الجمهور فقط، بل أيضًا لأنهم واعون بتطور رد فعل هذا الجمهور إزاء الكلام. وبطبيعة الحال، فإن الكتاب، في حالة التواصل المكتوب، يجب أيضًا أن يكون لهم جمهور في أذهانهم (أونجOng1982،177). غير أن هناك افتقارًا نمطيًّا للتبادل الفوري بين الكاتب والقارئ، ومن ثم فإن من المرجح أن يكون تأثر القارئ بما هو مكتوب، أقل من تأثر المستمع بما هو منطوق. ورغم أن المتكلمين والكتاب علي السواء، قد يقصدون إلي متلقين محددين، نظرًا لوجود ما يقول عنه شافي "سرعة التلاشي" بالنسبة للكلام، و"إمكانية التناقل" بالنسبة للكتابة(1992، 42) فإن احتمال أن يكون للمتكلم مستمعون مجهولون، أقل من احتمال يكون للكاتب قراء مجهولون. إن الوعي بوجود مستهلكين من القراء المجهولين، قد يلعب بالنسبة للكتاب، دورًا أوسع بكثير من الدور الذي قد يلعبه المستمعون المجهولون بالنسبة للمتكلمين (هل هذا مصدر من مصادر الجذب في استراق السمع؟) وحيث إن المتكلمين يشتركون في البيئة الفيزيقية نفسها عند إنتاج اللغة، فإن تلك اللغة نفسها تنغلق عمومًا علي الموقف الفيزيقي والاجتماعي الحالي، وهذا ما يسميه شافي: "الموقفية". وعلي الجانب الآخر، فإن اللغة المكتوبة تكون غير موقفية، لأن بيئة وظروف إنتاجها واستهلاكها، لهما أدني تأثير علي اللغة والوعي نفسه(44-45).
للوهلة الأولي، تبدو تشخيصات شافي تشخيصات دالة، ولكن لأنني شعرت بالفعل أنني مضطر إلي التدخل، فإننا لا ندرك هذه التشخيصات ما لم نحصر التكنولوجيات التي غيرت من سرعة الكتابة، ومن سرعة تلاشي الكلام. وعلي سبيل المثال، وبينما يكتب أكثر الناس بأيديهم أبطأ بكثير مما يتكلمون، مساهمين بذلك في الطبيعة "المتأنية" للنص المنتَج، فإن كثيرًا من الكتاب يستخدمون المختزنات الاحترافية للوحات المفاتيح للوصول إلي الكتابة بنفس سرعة الكلام. ومن بين تلاميذي سريعي الجمع علي لوحة المفاتيح، من يكتبون واجباتهم المقروءة بسرعة أقل مما يبدو في مساهماتهم اللفظية داخل الفصل، خصوصًا حين لا تتاح لهم الفرصة، لاستخدام إمكانات الجمع الإلكتروني للكلمات، لتحقيق مراجعة سهلة. وبالمثل، فإن الافتقار المفترض للزمان والمكان المشترك (ومن ثم الافتقار للحس المشترك) بين الكتاب والقراء، عرضة للتحدي، ليس فقط من قبل السبورات (القديمة)، بل أكثر من قبل غرف الشات الإلكتروني التي تعطي "سطحًا" للكتابة المتبادلة، يقوم باستهلاكه فورًا فردٌ ما، أو مجموعةٌ من الأفراد. وفي المقابل، تسمح الميكروفونات، ومكبرات الصوت، والتليفونات، وأجهزة الراديو ثنائية الاتجاه، وأجهزة تسجيل الصوت ونحن نشير هنا إلي عدد قليل من تكنولوجيات الصوت تسمح هذه التكنولوجيات ب"انفصال" فيزيقي وتعاقبي بين المتكلمين والمستمعين. والمبرر الذي يسوقه شافي لاستبعاد تأثير التكنولوجيات من توصيفاته التي يصوغها، هو أن "ما تملكه اللغة المنطوقة كان لابد أن يصل مرحلته الحالية، قبل أن يتم التفكير في التليفون بزمن طويل"(44) هذا المبرر يبدو وكأن لا أمل في الدفاع عنه، حين نري إلي أي مدي من السرعة والكفاءة، تساعد التكنولوجيا في تطوير مهارات حركية جديدة.
لا توجد ثقافة معاصرة، شفاهيةٌ خالصة أو كتابيةٌ خالصة. وأنا أتفق مع ديميتريس تزيوفاس Dimitris Tziovas في أن "العلاقة بين الشفاهية والنصية ليست علاقة تعارض صارم، بل علاقة تراكب واشتمال"(1989، 321، وانظر أيضًا تانين Tannen 1982أ، 3). وأفضل طريقة للتعرف علي ما في عصرنا من علاقات"تراكب" و"اشتمال"، أن ننتقل إلي والتر أونج، واحد من دارسين قلائل اهتموا بالآثار التي تتركها علي العقل الإنساني أنماطٌ معينةٌ من "إضفاء الطابع التكنولوجي علي الكلمة"، وأكثرها وضوحًا الطابع التكنولوجي الآن للكتابة اليدوية، والطباعة، والجمع الإلكتروني للكلمات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.