فى المنمنمة السابقة عرضنا إلى أطروحة مفادها استخدام التحليل اللغوى باعتباره منهجا لدراسة التغيير الاجتماعى من خلال مدخل الباحث «نورمان فيركليف» الذى قدمه تفصيليا فى كتابه «الخطاب والتغيير الاجتماعى»، حيث أشار إلى أن هدفه الوصول إلى مدخل يجمع بين الكفاءة النظرية وإمكانية تطبيقه عمليا للتحليل اللغوي، ويستفيد من مناهج التحليل اللغوى التى وضعت فى إطار علم اللغة ودراساته وبين الفكر الاجتماعى والسياسى المرتبط ببناء نظرية اجتماعية للغة. فى هذا السياق قدم الباحث قراءة نقدية لأشهر وأهم الأطروحات التى تصدت للمشكلة، موضحا سلبيات وايجابيات كل منها، مشيرا إلى أن عزلة الدراسات اللغوية عن العلوم الاجتماعية وهيمنة النماذج الشكلية على علم اللغة وعدم اهتمام العلوم الاجتماعية باللغة حال دون الوصول للمنهج المناسب فى هذه الدراسات. وفيما يضع الباحث أسس مدخله يشير إلى أنه يرتكز إضافة لنتائج الدراسات السابقة على مفهوم الخطاب وتحليل الخطاب نفسه. فيبدأ بالإشارة لحقيقة تعدد وتضارب تعريفات الخطاب ويضرب أمثلة من قبيل استخدام مصطلح الخطاب للإشارة إلى عينات من الحوار المنطوق، وهو ما يختلف عن النصوص المكتوبة موضحا أن تحليل النصوص وتحليل الخطاب بهذا المعنى يركز على الخصائص التنظيمية للحوار مثل بناء أنواع افتتاح المحادثة واختتامها أوعلى النصوص المكتوبة بما يقصر التحليل اللغوى على الجمل والوحدات النحوية. ثم يوضح الباحث أن الخطاب يستخدم للإشارة إلى شتى الأنماط اللغوية المستخدمة فى مختلف المواقف الاجتماعية-مثل الخطاب الصحفى و الخطاب الإعلانى وخطاب قاعة الدرس وخطاب الاستشارات الطبية وأن عمليات إنتاج وتفسير الكلام والكتابة تتم فى سياق الحال الخاص باستعمال اللغة بهدف تحقيق التفاعل بين المتكلم والمستمع وبين الكاتب و القارئ. ويشير إلى أن مصطلح الخطاب يستخدم فى التحليل الاجتماعى كما هو الحال مثلا فى أطروحة «ميشيل فوكوه» للإشارة إلى طرق بناء مجالات العلاقة والممارسة الاجتماعية. ثم يفسر الباحث المرتكزات التى يتبناها موضحا أنه يعتمد على الجمع بين المعنى الاجتماعى النظرى للخطاب وبين معنى النص والتفاعل فى تحليل الخطاب ذى التوجه اللغوي،وان هذا التوجه له ثلاثة أبعاد فأى حالة من حالات الخطاب ينظر لها باعتبارها قطعة نصية وحالة ممارسة خطابية وحالة ممارسة اجتماعية. أما البعد النصى فيتبدى فى التحليل اللغوى للنص، وأما بعد الممارسة الخطابية فمثله التفاعل فى صورة الخطاب باعتباره نصا وتفاعلا، وهو يحدد طبيعة عملية إنتاج النص وتفسيره من خلال تحديد أنواع الخطاب التى يستمد منها وكيف تجتمع فيه. أما بعد الممارسة الاجتماعية فيعالج القضايا المهمة فى التحليل الاجتماعى مثل الظروف المؤسسية التنظيمية للحادثة الخطابية، وكيف يشكل ذلك طبيعة الممارسة الخطابية والآثار البنائية للخطاب المشار إليه. ويُلاحظ أن الكاتب يستخدم مصطلح النص إشارة إلى أى منتج مكتوب او منطوق بحيث تطلق صفة النص على تسجيل مقابلة شخصية أو محادثة مع التأكيد على أن اهتمامه منصب على اللغة وعلى النصوص اللغوية والأشكال الرمزية مثل الصور البصرية والنصوص كما هو الحال فى الإعلانات. ويقترح الباحث إدراج منهج الوعى النقدى باللغة فى تعليم اللغات لجميع التلاميذ لمنحهم المعرفة اللازمة لإحداث التغيير بداية من ممارساتهم الخطابية أكاديميا وفى مجتمعاتهم المحلية باعتبارهم منتجين للنصوص ومستهلكين لها،ولاستعادة الوعى بالقوى والمصالح الاجتماعية التى تشكل هذه النصوص وبعلاقات السلطة والأيديولوجيات التى تصطبغ بها وبآثارها فى الهويات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والمعارف والمعتقدات وبالدور الذى ينهض به الخطاب فى عمليات التغيير الثقافى والاجتماعي. والحقيقة أن فكرة إدراج الوعى النقدى باللغة تستدعى للذاكرة دعوة منظمة اليونسكو بإدخال منهج للتربية الإعلامية لشحذ ملكة نقد وتحليل الرسائل الإعلامية لتفادى إشكالية تحول الجمهور لمجرد «ماصة» للدعايات المغرضة والرسائل الإعلانية التى تبثها وسائل الإعلام التقليدي،منها أو المستحدث،إضافة لنتائج دراسة «ثقافة الشباب العربى» التى خلص فيها د. على صلاح محمود إلى أن طبيعة الإنترنت كوسيلة اتصال سريعة واكبها ظهور مفردات سريعة ومختصرة للتعامل بين الشباب، ودراسة المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة التى حذرت من «لغة موازية» يستخدمها الشباب ولا يستطيع غيرهم فك رموزها، تلقى بظلال سلبية على ثقافتهم وسلوكياتهم، بما يُعتبر تمردا على النظام الاجتماعي، الأمر الذى يضفى مزيدا من الأهمية على أطروحة الباحث نورمان فيركليف.. وللحديث بقية. http://[email protected]