في منتصف القرن التاسع عشر بُني منزل ساكنة باشا أو بالأحري قصرها المنيف الذي يبلغ مساحته أكثر من 800 متر في حي الخليفة بجوار درب الكحالة. هذا القصر يعود إلي عام 1846م إذ أهداه الوالي محمد علي لابنه الخديوي إسماعيل، الذي أهداه بدوره لساكنة باشا. لكن، من هي ساكنة باشا؟ مطربة اشتهرت في القرن التاسع عشر، حيث كان الغناء في مصر منقسماً لثلاثة أنواع؛ الموالد والأفراح والتواشيح. والمولد فن فطري نابع من الروح المصرية، وهناك الغناء الأوروبي الذي توج به الخديوي إسماعيل دار الأوبرا، وكان له جمهوره من الأجانب المقيمين في مصر وصفوة المصريين والطبقة الراقية التي كانت تستمع لفنون الأوبرا والباليه والغناء الكلاسيكي. أما النوع الثالث من الغناء فكان نتيجة للاحتلال التركي للبلاد العربية ومنها مصر، حيث حدث انتشار للنموذج التركي من الغناء، وكان ينسجم معه أيضاً غناء الموشحات المغربية. إلي أن ظهر الشيخ عبد الرحيم المسلوب الذي ساهم في خلق موسيقي مصرية مُغايرة، إذ كان دارساً جيداً للموسيقي التركية والموشحات الأندلسية (المغربية). تضاربت الأقوال حول ميلاد ووفاة المسلوب، فبينما يقول المُوسيقي عبد الحليم نويرة إنه وُلد عام 1786 وتوفي عام 1926، يقول الناقد كمال النجمي إن المسلوب وُلد عام 1798 (عام الحملة الفرنسية علي مصر) وتوفي عام 1928، في كلا الحالتين يقدر عُمر المسلوب بحوالي 130 عام، وأنه عاصر ثلاثة قرون. وقد عُرف باسم محمد عبد الرحيم المسلوب لكونه ضريراً، وهو من مواليد مدينة قنا، وقد أحب الغناء في سن مبكرة، ودرس في الأزهر، ويكفي أن نعرف أنه مُلحن موشح (لما بدا يتثني). يقول المايسترو سليم سحاب في دراسته القيمة عن الغناء المصري في القرن التاسع عشر: "كان هناك مدرستان في الغناء المصري؛ مدرسة الصهبجية وفيها يظل المغني مغنياً حتي يكتفي السميعة، والأخري هي المدرسة الفنية التي انبثقت من أساليب الشيخ عبد الرحيم المسلوب والشيخ محمد الشلشموني وعبده الحامولي الذي تتلمذ علي يد المسلوب". في هذه الفترة كانت المطربة ساكنة باشا قد وصلت لنضجها الفني، إذ صارت مطربة الشعب والملوك. ولدت ساكنة باشا عام 1801، واشتهرت بجمالها وقوة صوتها وعذوبته، فكانت تتقن كل أشكال الغناء المختلفة من المديح وأغاني الأفراح والموال والموشحات وأغاني السلطنة والصهبجية. وكان لغنائها بالعامية الدافع الرئيسي في حب المصريين لها، والأتراك أيضاً. مع تقدم ساكنة باشا في السن، توقفت عن الغناء، والتزمت قصر الخليفة الذي أهداه لها الخديوي إسماعيل، الذي منحها أيضاً لقب البكوية، لتصبح بذلك أول مطربة تحصل علي اللقب. كان لساكنة باشا تلميذة، تبنتها في صغرها، اسمها سكينة، وعُرفت فيما بعد بألمظ، التي تزوجت من عبده الحامولي. صارت ألمظ بديلة لساكنة باشا، التي عاشت نهاية مأساوية بعد أن أنفقت أموالها علي القصر، وعلي أسرتها وأسر شارع الخليفة. منزل ساكنة باشا قصر ساكنة باشا، هو في الأساس منزل، جمع بين الطراز العثماني التركي والأوروبي. يتكون من عشرين غرفة. وفي مدخل القصر يوجد باب يؤدي إلي كل من غرفة الخدم وإسطبل الخيل. والمنزل مكون من عدة أجنحة حيث يوجد علي الجانب الأيمن قاعة الاحتفالات وساحة البروفات وإقامة الليالي وجلسات الغناء. أما الجناح الأيسر يضم الحرملك، وبه أيضاً حمام عربي كبير مزخرف، سقفه به فراغات مليئة بالزجاج الملون الذي يشكل حالة من البهجة في ضوء الشمس. مستوي الإتقان في بناء القصر، يتضح في أي جانب منه، فقد تم استخدام الخشب كوحدة بنائية، وتم التركيز علي ميزة معمارية وهي القاعات المرتفعة عن الأرضيات بما يسمح بمرور الهواء وتجديده في ليالي الصيف. وتوجد منافذ في الأسقف مصممة بشكل زخرفي مميز. حتي مقابض الأبواب اختيرت بحس فني رفيع. أما الأسقف كلها مزخرفة ومرسومة بماء الذهب كي تتناسب مع لون الأرضيات المصنوعة من الرخام الفاخر، والذي تعرض للكسر وإزالة بعضه. يتوسط القصر نافورة رخامية، دُمرت تماماً، كما يوجد أسفل مدخل الحرملك لوحة تأسيسية بها بيتين من الشعر التركي، مكتوبين بماء الذهب، كان الخديوي إسماعيل قد أهداهما أيضاً إلي ساكنة باشا. المؤسف أن القصر الآن، مُهمل، يمتلكه مجموعة من المستثمرين، الذين اشتروه من ورثة ساكنة باشا. لا نعرف كيف حدث ذلك، رغم أن جهاز التنسيق الحضاري سجل القصر كطراز معماري فريد، كما أنه يُعد أثرا وفق قانون الآثار، فيتجاوز عمر القصر 160 عاما. نسأل: هل إزالة الرخام والبلاط واللوحة التأسيسية يصب في مصلحة تاريخ مصر أم في مصلحة المستثمرين؟ ولماذا لم يتم ترميمه حتي الآن؟ وهل يمكن أن تتدخل الدولة لإنقاذه كأن تحوله مثلاً إلي مركز ثقافي يهتم بالأغاني الشعبية وأغاني الموالد والذكر والتصوف؟