"فضاء لجناح" ديوان جديد للشاعرة أمل جمال صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحاول فيه الكاتبة أن تقدم تجليات مختلفة للذات الشاعرة. وكأنها تجعل من القصيدة مرايا متكسرة، كل طبقة من هذه المرايا تعكس صورة للذات مختلفة باختلاف زاوية الرؤية لدي الشاعرة. تفتتح الكاتبة ديوانها بمقطع من قصيدة للوركا يصلح أن يكون عتبة مهمة من عتبات قراءة النص: "أنا سأمضي بعيدا، عبر الجبال/ حتي أصبح قريبا من النجوم/ فأسأل الرب مولاي أن يرد لي/ روحي القديمة، يوم أن كنت طفلا. هذا المقطع يتردد صداه عبر الديوان، فالذات الشاعرة تبحث عن روحها، ويتجلي هذا البحث عن روحها القديمة في تضاعيف الديوان من الإهداء الأول الذي أهدته لصديقتين لها، تري فيهما روحها تلك التي تبحث عنها: "إلي فائزة سلطان وسامنتا كيلي، وردتان تتأنقان في حديقة روحي". إن خطاب الذات الذي توجهه في وجه العالم يبدأ ب "فضاء المواجيد" تبدأه الشاعرة بقصيدة "بوح" فهي تحمل بين حناياها حنينا لوردة تشممتها قديما وإلي عصفور استمعت إليه قديما، إنها تشبه أرنبة تقف علي ساقيها الخلفيتين متطلعة إلي الآتي الذي تتمناه الذات الشاعرة: "يا قروني المتكسرة/ أنا أرنبة، في سهول الحنين/ تقف علي قدميها الخلفيتين/ ترقب خطوهُ من بعيد/ أرنبة، لن تهرع للاختباء/ عندما يقترب". وهذا التشوف لما هو آت حتي أن الذات الشاعرة تصير كأرنبة تقف علي قدمين خلفيتين ما تزال تبحث عن هذا الآتي، ما تزال روحها التي هناك هشة كحلوي غزل البنات: " يا روحي التي هناك/ أنا كرة جوفاء/ هشة كحلوي غزل البنات/ كزهرة هندباء./ خذيني حيثما سار/و حيثما ترقرق صوته/ في الهواء و حيثما أدفأ وسادته/أنا خفيفة يا روحي/لن أثقل أجنحتك فقط،أريد أن أغفو قليلا/ في جسدي". تقف الذات الشاعرة علي مسافة بعيدة من روحها، تخاطب هذه الروح القديمة التي هناك،فهي خفيفة لن تثقل جناح تلك الروح. إن خطاب الذات يبرز صراعا نفسيا لذات مبعثرة تعمل علي إعادة ترتيب شتاتها، حتي لا تقع فريسة للغياب والانشطار والتشظي، في قصيدة "غياب" تتمرد الذات في خطابها علي الغياب، فهي تبحث عن الصعود بروحها المتشظية في محاولة للالتئام والتوحد: "أسب الغياب/ أسب القلب المحترق/ بنار حناياي/ أسب الحنين الثقيل/ كلما صعدت إلي قمة الدمع/ سقط الحنين/ فأصعد ثانية/ لا قمة تصل إليها الروح لترتاح/ لا سفح/ فقط ،غابة تورق/ولا زهور". تعتمد الشاعرة علي التكثيف في تقديم نصوص واخزة تختزل العالم في جمل دالة، وتستخدم الاستعارة، فتصير الزهرة وجه الحبيب، ويصير الحنين حضنا للذات، في قصيدة "زهرة" تصير القصيدة استعارة كبري للحنين: "زهرة تتفتح في الصباح/ وتنام في حضن حنيني ليلا/ ثم تعود، و تتفتح في الصباح/ وتنام في حضن حنيني ليلا/ وجه حبيبي." تتحول الذات الشاعرة إلي لؤلؤة تعكس ظلال نفسيتها التواقة للارتواء، كما في قصيدة "توق" وهو ما جعل من عامل الأنسنة أساسيا للكشف عن رمزية الأشياء، ودلالتها داخل قصيدة تدثرت فيها الذات بالاستعارة ، والمجاز، لتمرير خطاب البوح الصادق للآخر، ما عري شوقها، وتمزقها، وألمها ورغبتها، المفعمة بالانشطار، تقول أمل جمال: "يا أنت/ يا مفردة الروح الضائعة/ وتوق العطشي/ وسمو الصوفيين/ في رقصاتهم، كي يُروا النور/ يا نوري الذي يضيء عذابي/ يا البعيد الذي يسكنني./ هناك، / علي حافة الدمع/ أقطر روحي،/ لؤلؤة لؤلؤة/ أطرز بها شغفي/ علي منديل غيابك". تتوزع الذات بين الحلم والواقع، بين التحقق والإخفاق، بين . إنها ذات ممزقة موزعة تبين أحلام اليقظة، وكوابيس الحلم، تعاني الصراع، والتوتر، والقلق، والغضب. في حين ستبلغ الذات الممزقة درجة عالية من التماهي بين روحين، ونفسين، في قصيدة "موت" حيث نشعر بنوع من الانصهار اللا إرادي في ذات الآخر، لحظة شوق جارف، سيجرد الذات الشاعرة تمن هويتها، وكنهها ، وسيتحول الآخر إلي رداء وحيد، يلف تذلك الكيان. وهو ما حقق نوعا من الامتلاء الروحي الذي وصل درجة عالية من الحلول، جراء سكبة لا إرادية ستجردها من هويتها، في قصيدة "مراوغة" نراها ترفض ذلك التشظي، وتسعي للتوحد: " الخراب الذي يلف الشوارع/ و يغلفها بالصرخات يلفني و أنا أبتسم لسكين الوقت/ أصدقها، و أنا أعرف/ أن الشارع القادم / لن أري فيه وجهك/ يا شوارع:احتفظي بخطاه/ بظله، لفتاته/ و ابتسامة تركها/ عند بائعة الجرائد العجوز/ في الليلة الباردة/: يا شوارع/: يا شوارع/ لم تكذبين عليَّ؟". ثم يأتي القسم الثاني من الديوان، وهو قصائد قصيرة جدا، وتتناص فيه مع مقولة لابن عربي: "الحب موت صغير". وتشير بهذا المقتبس إلي ذلك الحس الصوفي الذي يغلف هذا القسم، وكأنه ارتقاء نحو تصوف جارف، سيجرد الذات الفانية من أرضيتها، لتنخرط في سكر روحي عاشق، ثمل بالوجد، والشوق ، والآهات. كأنه بحث عن ولادة جديدة، تعيد نوعا من التوازن للذات الحائرة: " يا نور يا نور/ أية غيمة /خبأتْ شمسك /في منديلها؟ منديلها المخضب / بدمي". ثم يأتي القسم الثالث" فضاء الذات" وتتناص فيه مع بعض الأساطير العالمية التي تحضر في النصوص بخلفياتها الثقافية، ففي قصيدة " فنتازيا" يحضر جوبيتر بخلفيته المعرفية، كما تصير هيرا معادلا للذات المتمردة، فجوبيتر الذي تحارب من أجله هيرا/ الذات الشاعرة لا يستحق العناء. ثم يأتي القسم الرابع من الديوان "فضاء الدم والنار" ليكشف اشتباك الذات مع العالم، ليكشف عن الوعي الجمعي، وما هو مجتمعي داخل الديوان، وتبدأه بقصيدة "شوارع" التي تشي بانتصار الذات لما هو مهمش، ما هو مقصي، تحاول أن تنتصر له:/ "لفقراء بلادي/ أن ينتظروا في العراء/ لا جدار يسندون عليه / أنينهم في المساء، / و لا موائد تهبط / من سماء أحلامهم/ حتي الأحلام يا رب/ تحتاج إلي غفوة في سرير و لا سرير في غرفة أيامهم". وهكذا تقدم لنا أمل جمال تجليات مختلفة للذات في فضاءاتها المتعددة، سواء فضاء المواجيد حيث التحنان والحنين لشغف قديم، وروح تكاد تتواري خلف التغييب، أو فضاء الذات في علاقتها مع الآخر وثقافته أو فضاء الذات في علاقتها بما هو مجتمعي. وتفيد الشاعرة من طاقات اللغة وبلاغاتها الكامنة في علاقة المفردة بسياقها التشكلي والموضوعاتي.