موعد مباراة نابولي ضد أودينيزي اليوم الإثنين 6-5-2024 والقنوات الناقلة    ترامب يتهم بايدن بقيادة "إدارة من الجستابو"    خبير تحكيمي: حزين على مستوى محمود البنا    محمد صلاح: هزيمة الزمالك أمام سموحة لن تؤثر على مباراة نهضة بركان    حالة الطقس اليوم.. تحذيرات من نزول البحر فى شم النسيم وسقوط أمطار    بسعر مش حتصدقه وإمكانيات هتبهرك.. تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo    نجل هبة مجدي ومحمد محسن يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الدراما في أعماله الأدبية
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 12 - 2015

المسرح ونجيب محفوظ علاقة أعمق وأبعد من المسرحيات الثمانية التي كتبها في ثلاث مجموعات أو من أعماله التي تحولت إلي عروض علي خشبة المسرح، لكن ثمة ظواهر مسرحية عديدة في أعماله الروائية والقصصية، منها استخدامه للحوار الدرامي في عدد كبير من أعماله، والحوارات المدهشة التي تشي بالقلق والصراع الدائمين بين الشخصيات بالإضافة إلي اللغة البسيطة والعميقة في آنٍ والتي تحمل في طياتها لغة التكثيف الشعري ببراعة لا يتقنها سواه، ولن يستطيع القارئ أن يهمل عنصر الزمن ولعبة الأقدار في رواياته، والنموذج الأمثل رواية الحرافيش الملحمة التي يطرح من خلالها عناصر التراجيديا وصراع الإنسان مع الموت والزمن، بالإضافة إلي أمثلة لا تحصي منها»اللص والكلاب« و»بداية ونهاية« و»زقاق المدق« فنحن أمام شخصيات تلعب بها الأقدار، بالإضافة إلي الفضاء المسرحي الذي كان يؤسسه بإتقان كي يمارس فيه أبطاله حياتهم، وتصميمه علي اختيار المكان / فضاء الحدث مسرحاً لهذه الشخصيات مثل زقاق المدق ، السكرية ، قصر الشوق ، بين القصرين ، خان الخليلي ، ميرامار، قشتمر وغيرها، ناهيك عن الشخصيات التي تمارس التنكر وتلعب أدواراً تختلف عن جوهرها الحقيقي، وكأنها تؤدي دوراً في مسرحية ، أي أنها تمارس فن التحايل بإتقان، بالإضافة إلي أنه كان مولعاً بروايات الأصوات، التي تحكيها أكثر من شخصية والتي تجسد علاقة جدلية بين هذه الشخصيات مثل ميرامار والمرايا و أفراح القبة ، والأخيرة تدور أحدثها في المسرح، والنص المسرحي يلعب دور البطولة في هذه الرواية بل ويأتي بمثابة القوة الفاعلة التي تحرك الأحداث! وكأنه في هذه الرواية يعلن عن علاقته الوطيدة بالمسرح عام 1981 . ما أقصده أنه في أعمال نجيب محفوظ تجليات مختلفة للمسرح من خلال عناصر متعدده أهمها الحوار الدرامي مما دفعه بعد ذلك إلي كتابة حواريات، أثارت جدلاً كبيراً حول طبيعتها الدرامية .
عصر المسرح
كتب نجيب محفوظ ثماني حواريات أو مسرحيات قصيرة ذات الفصل الواحد خلال عشر سنوات، إذ بدأ الكتابة المباشرة للمسرح بعد نكسة 1967 ولا يخلو التاريخ من دلالة إجتماعية وسياسية ، وجاءت هذه الأعمال في ثلاث مجموعات قصصية هي " تحت المظلة69، الجريمة 73، الشيطان يعظ79 " فماالذي دفعه لكتابة المسرح في تلك الفترة، ولماذا توقف بعد ذلك، وإلي أي تيار مسرحي تنتمي هذه النصوص ؟ وربما الشائع هو تحويل رواياته وقصصه القصيرة إلي عروض مسرحية ، حيث جاءت رواية "بداية ونهاية" الأكثر حظاً وتم تقديمها علي خشبة المسرح ثلاث مرات من خلال ثلاثة مخرجين ، عبد الرحيم الزرقاني، فتحي الحكيم،عبد الغفار عودة ، بالإضافة إلي" قصر الشوق، بين القصرين، زقاق المدق، خان الخليلي، ميرامار" وأغلب هذه الأعمال تم تقديمها في الفترة من 1960 وحتي 1969 بإستثناء القاهرة 80 من إخراج سمير العصفوري وأيضاً ثرثرة فوق النيل لنفس المخرج ، وحارة العشاق من إخراج سعد أردش وتم تقديمهما علي خشبة المسرح عام 1989 ، وأعمال أخري بعد ذلك ، أهمها حارة عم نجيب التي قدمها أحمد حلاة في مسرح الطليعة .
دلالة البداية في نهاية حقبة الستينيات قوية وهي التي تقود القارئ لعالم نجيب محفوظ المسرحي الذي قال عنه في إحدي حواراته بعد ذلك إنه كتب هذه المسرحيات تحت إلحاح اللحظة التاريخية التي نعيشها الآن، وأنه لجأ إلي الحوار والنقاش ليشارك فيما يحدث "ولا أقصد أن أقول رأياً صريحاً ، كنت أرغب في مواكبة الأحداث السريعة المتغيرة" ولابد أن نقف أمام تصريحاته عام 1970 حول المسرح بعد أن نشر مجموعة " تحت المظلة و قال" إننا نعيش عصر المسرح بلاجدال ، فهذه اللحظة المزدحمة بالكثير من الأفكار والمشكلات لا يمكن مناقشتها إلا عن طريق المسرح ، الرواية تحتاج إلي هدوء وروية لأوضاع مستقرة، ولهذا لابد أن تتواري الآن ليصبح المسرح هو سيد الموقف " وربما يبدو هذا الكلام غريباً الآن ، ولكن في حقبة الستينيات حيث إزدهار المسرح المصري والعلاقة الوثيقة بين المسرح والجمهور، حين كان المسرح يلعب دور البطولة في الحياة الثقافية ، بل أطلقوا علي تلك الحقبة عصر المسرح ، لهذا لجأ إليه نجيب محفوظ ناهيك عن فني الحوار والمحاججة الذي برع فيهما وأصبحا ملمحاً أساسياً في أعماله وهذا نابع من علاقته الوطيدة بالفلسفة اليونانية .
إذن ليس غريباً أن يلجأ إلي المسرح كأسلوب للتعبير عن نفسه ، فكما ذكرت عناصر المسرح تتردد في أعماله بأساليب مختلفة ، بالإضافة إلي إزدهار المسرح المصري في تلك الفترة ، والأهم هو تأثير نكسة 1967 علي المثقفين، حيث الصدمة العنيفة وسقوط الحلم، والرؤية الضبابية للحاضر والمستقبل معاً، وفقدان اليقين فقد فرضت هذه الحالة ليس فقط الشكل المسرحي في التعبير ولكن نوع المسرح وهو مسرح العبث، لأنه كان الشكل الأمثل للهزيمة، كان الإحساس الصادق والحقيقي للجميع بعبثية كل شيء، وبالتالي لابد من التعبير عن هذه اللحظة بما يناسبها وهو مسرح العبث الذي يعبّر عن إحساس بالصدمة نتجة لغياب القيمة وفقدان اليقين ،وغياب الأسس التي تقول أن للعالم معني وأن الحقيقة ثابتة وراسخة، فلا معني، ولا حقيقة ولا رسوخ، وأن الأعمال المُحكمة الصنع وليدة المعتقدات الواضحة المطمئنة، والقناعات الراسخة، وهذا ما سقط ولو بشكل مؤقت بعد الهزيمة، فكتب نجيب محفوظ بذكائه المعهود نصوصاً تعبّر عن هذه المرحلة نصوصاً تهزأ بجميع المعايير ليس فقط الفكرية بل والفنية، وتسخر أيضاً من تقنيات الكتابة الراسخة وهذا من ملامح مسرح العبث ، حيث النصوص الخالية من الكائنات البشرية التي تُقدم علي أفعال خالية من الدوافع ، بل وفي أحيان كثيرة ينحدر الحوار فيها إلي الثرثرة التي لا معني لها، لتشترك المسرحيات الثمانية في الجنوح نحو الغرابة رغم اختلاف أفكارها وشخصياتها وأسلوب البناء، جنوح إلي الغرابة إلي حد الدهشة والاضحاك ، بل وخلق الشعور بالتشاؤم ، ناهيك عن غياب الرابطة المنطقية بين شخصيات هذه المسرحيات وخاصة في مجموعتي " تحت المظلة والجريمة" ومرجعيتها في العالم لتتسم هذه النصوص بإضطراب المعني وصعوبة التفسير العقلاني ، وربما هذا ماجعل مؤلفها يقول : كتبت مسرحياتي الخمس التي ظهرت في مجموعة تحت المظلة مستهدفاً بها القراءة أولاً وأخيراً " وقد حدث هذا ، وحتي الآن لم تصعد شخصياته المسرحية إلي خشبة المسرح بينما صعدت شخصياته الروائية ! وبالفعل كانت رغبة صادقة من نجيب محفوظ كي يلتقي بالجماهيرمباشرة، خاصة بعد ما خلّفته هزيمة 67 من آثار حزينة ليشارك في اللحظة الراهنة ولكن من خلال القراءة ، فقد لجأ إلي هذا الشكل ليشارك من خلال حواريات أو مسرحيات ذات فصل واحد سمها ما شئت فيما يخص الشكل" فقد اختلف البعض حول نوعها الأدبي" لكنها تعتمد في بنائها العميق علي الصراع الفكري وليس الصراع الدرامي وإن كان بناؤها السطحي ينتسب إلي المسرح، وقد وصفها مؤلفها بأنها كانت انفعالاً بأفكار أكثر منها عرضاً لحياة واقعية " من الناحية الفكرية بدأ المسرح حين انتهت الرواية "فجاءت رؤية عميقة تقرأ المجتمع في تلك اللحظة وقبل أن نقرأ الحواريات التي ضمتها مجموعة »تحت المظلة« التي نشرت عام 1969 نلقي نظرة علي مجموعة "خمارة القط الأسود" التي نشرت في نفس العام وقد سبق هاتين المجموعتين رواية ميرامار عامي 67 ،68 ودلالة الفترة قوية ولا يمكن إغفالها أثناء قراءة هذه النصوص .
شكل القصة وجوهر المسرح
مجموعة خمارة القط الأسود تقدم للقارئ شخصيات ذات ملامح عبثية في قالب قصصي ، شخصيات تعاني من القلق الوجودي وتبدأ المجموعة بقصة عنوانها يدل القارئ علي رؤية نجيب محفوظ للعالم وقتذاك " كلمة غير مفهومة" إذ يبدأ الحدث الدرامي حين يتثاءب المعلم حندس الفتوة وهو يستيقظ ثم يحكي لزوجته عن حلم رأي فيه حسونة الطرابيشي الذي قتله يهدده " سأقتلك ياحندس وأنا في القبر " تحاول الزوجة أن تخففّ من وقع الحلم وكذلك رجال حندس مبررين ذلك بقوته وسيادته علي الحارة وأنه لا يجرؤ ابن حسونة أو غيره علي النيل منه ، اختار محفوظ أسماء وأماكن غرائبية ، حندس الفتوة يعيش في درب الأعور، ويجلس في مقهي حلمبوحة ورجاله هم عنارة وسمكة وطمبورة ! ولا يخلو اختيار هذه الأسماء من دلالة ساخرة، ويداهم حندس المقابر وفقاً لبلاغ الشيخ درديري الأعمي حيث أنه سمع بوجود ابن الطرابيشي هناك ، وفي المداهمة والعتمة الحالكة يسقط حندس قتيلاً ويقول لرجاله قُتلت وأنا بينكم ، فالحدث الدرامي يبدأ بحلم وتهديد من ميت والمعرفة تأتي من أعمي فيلقي حندس مصرعه الغامض أمام دهشة رجاله ودهشة القارئ أيضا ، إنها رؤية عبثية أصيلة لهذا العالم ! وشخصيات تلعب بها الأقدار وتمارس أفعالاً غير مبررة ، أقرب إلي الجنون. وفي قصة " السكران يغني " يسخر نجيب محفوظ من العالم علي لسان عربجي اسمه أحمد عنبة والمكان حانة مانولي ، وذلك حين يختبئ العربجي في البار وبعد أن يذهب الجميع وتغلق الحانة أبوابها يسكر ويلهو فيستمع إليه عسكري الدورية ويدور بينه وبين العسكري، ثم مع الضابط ومانولي حوارات عبثية .
عنبة : عندي كل ما أريد.
مانولي: ألاتريد أن تخرج؟
عنبة: ولا أن يدخل أحد !
واستيقظ أصحاب المحلات المجاورة والجميع يستعطف عنبة العربجي حتي لا يحرق البار وبالتالي
يستعطف عنبة العربجي حتي لا يحرق البار وبالتالي ماحوله ، ثم يسخر من الجميع بعد أن يبلغهم أنه رش الجاز في كل أنحاء البار وفي يده عود كبريت وفي لحظات سوف يشعل البار، وبعد أن احتشد الناس يكون عنبة قد وصل إلي الزجاجة السادسة، فيشترط أن يقول الضابط "أنا مرة" ثم صاح بلهجة آمرة : اهتفوا بحياتي ، فهتف الجميع في الخارج ليحيا أحمد عنبة ، وحين اقتحمت الشرطة البار في غفلة منه ، يصفه نجيب محفوظ " ألقي علي الجميع نظرة سلطنة متعاظمة كأنما هي هابطة من السماء وقال بنبرة ثقيلة نائمة كأنها مصورة بالتسجيل البطئ : ليس معي عود كبريت واحد ! وتقريباً يسخر نجيب محفوظ من العالم من خلال هذه الشخصيات الغريبة التي تفقد كل يقين ولا تعترف بشيء ! والأهم أننا أمام قصة أقرب إلي الحوارية في بنائها ، وهذا ما سوف نجده في القصص التي ضمتها المجموعات الثلاثة بعد ذلك ، حيث يطغي الحوار علي السرد بصورة واضحة ، ولا يستخدم الحوار كإحدي وسائل الإيصال ، بل كعامل مساعد من عوامل رسم الشخصيات وسرد القصة وتدعيم الجو العام للحكاية ، حيث يتم استخدامه بصفة رئيسية لتحقيق كل هذه الأهداف ، وهذا ما نجده واضحاً في قصة " كلمة غير مفهومة " وأغلب قصص المجموعات الثلاثة التي ضمت الحواريات وعلي سبيل المثال قصة " أهلاً" من مجموعة الجريمة ، حوارية ينقصها الشكل المسرحي رغم أن الطابع المشهدي في بنائها العميق . ليجد القارئ كما ذكرت مفردات المسرح تطغي علي المجموعات الثلاثة بأساليب متعددة، وسوف يلاحظ أيضاً أن قصص هذه المجموعات تجمع بين شكل القصة وجوهر المسرح ، والحواريات المسرحية غالباً ما تجمع بين شكل المسرح وجوهر القصة !
مسرح الهزيمة تحت المظلة
خمس حواريات في مجموعة تحت المظلة " يميت ويحيي، التركة، النجاة، مشروع للمناقشة، المهمة" تخلو تماماً من الأسماء، فقط هناك مجموعة من الصفات أطلقها محفوظ علي الشخصيات ، فمسرحية " يميت ويحيي" شخصياتها.. الفتي، الفتاة، الصوت الصدي، الطبيب، العملاق.. وهي نموذج للحوارية الفلسفية، نموذج للصراع الفكري من خلال شاب يتعرض لاعتداء ما ويحاول الدفاع عن نفسه وعن أرضه مستعيناً بالأجداد ، وثمة من يحاول أن يثنيه عن هذه الفكرة ، من خلال صراع فكري قوامه الحديث حول الموت والحياة ، فإذا كان الفتي يلعب دور البطولة فهناك الفتاة والشحاذ والعملاق والطبيب، وكل هؤلاء يطرحون أفكارهم التي تتصارع، وثمة لعنة تطارد الأحياء والأموات، والشحاذ يملك عالم الظلام الذي لا نهاية له ويعلن أنه ملك الظلام وضد النظام ، والعملاق يتحكم في ميزان العدالة ، ويشير الفتي إلي مصطبة ويقول إنها مقام أجدادي ، والعملاق يحذره " لا تعط الأموات أهمية أكثر مما يستحقون.
الفتي : هذا رأيك في الأجداد ؟
العملاق : إن باطن الأرض ملئ بالعظام وهيهات أن تعرف عظام أجدادك بينها.
الفتي : هذا رأي من لا أصل له .
وربما تدل هذه السطور القارئ علي شيء في هذه الحوارية المجردة ، والتي تبدأ بنقاش بين فتي وفتاة حول الموت ولعنة متوارثة! حيث يري الفتي أنه إذا مات الأموات أدرك الفناء كل شيء / وأنه لايمكن أن يدله علي حقيقة الحياة سوي من أدركه الموت ! ومن ناحية أخري يحذر الطبيب الفتي من وباء هو بمثابة ملكية عامة يصيب المجتمع ، والفتي لا يعرف عنه شيئاً ، بل يري أن الطبيب لا يشخّص مرضاً يقدر ما يحاول إثبات وجود الوباء ، وكما بدأ الحوار ينتهي وتظل الشحصيات تثرثر حول الموت و الوباء والظلام والعدل والفتي يتشبث بالأجداد ويعلن أنه سوف يصون كرامته حتي الموت، وبالطبع يغيب عنها المنطق، سواء الدرامي أوالإنساني ، في بنية مسرحية لا ترجع إلي شيء في الحياة ، ويفقد فعل الشخصيات فيها كل معني ! من خلال حوار لا يمثل وسيلة تواصل بين طرفين أو بين مجموعة من الشخصيات، بل يمثل صعوبة تواصل، وهذا ما سوف يتكرر في أغلب الحواريات ، إذ يفقد الحوار وظيفته كتواصل وإبلاغ ، لأنه غالباً لا يعقد صلة بين المتحاورين ولا يبلغ القارئ بأية معلومات ،وكان نجيب محفوظ كتب مجموعة تحت المظلة في ثلاثة أشهر " أكتوبر ، نوفمبر ، ديسمبر 1967" بعد النكسة مباشرة . وقد رفض البعض اعتبار هذه الحواريات مسرحاً ، وعللوا ذلك بأن المسرح كأدب بناء درامي خاص ، حيث تتصاعد الأحداث حتي الذروة من خلال حوار درامي يتصاعد بالفعل المسرحي لا بالفكر والمناقشة المجردة كما في هذه الحواريات، ولا يختلف الأمر في مسرحية " التركة "حيث تستمر الصفات دون أسماء فهناك الفتي، الفتاة ، الغلام ،المهندس، الضابط، وتدور أحداثها في أجواء عبثية غامضة، في بيت ولي من أولياء الله حيث يبدأ الحدث الدرامي بذهاب ابن هذا الولي وهو الفتي المارق صاحب الخمّارة ، وقد جاء ليتسلم تركة الأب الولي الذي طرده منذ سنوات وتدور الأحداث في غرفة صامتة كقبر كما يصفها الابن، وفي هذه الأجواء المبهمة يدور حوار بين الابن وفتاة جاءت معه لتؤدي دور الزوجة وما هي إلا ساقطة ، يؤكد هذا الحوار الذي لايخلو من السفالة الطبيعة الشريرة للرجل والمرأة ، وبينما ينتظر الابن صاحب الخمارة الأب الولي ليمنحه التركة، يدخل غلام ويخبره بأن الولي ذهب للقاء ربه وترك له مفتاح الخزانة وقال علي لسان الغلام " دنا الأجل ، آن لي أن أدعو ابني الضال لعله يصلح لأن يرث التركة " ثم غادر البيت بعد صلاة الفجر وذهب للقاء ربه ، والتركة مجموعة من الكتب والنقود واشترط الولي علي أن يستوعب الابن مافي الكتب قبل أن ينفق مليماً واحداً من النقود ! ولكن الابن المارق ضرب عرض الحائط بالوصية، وألقي بالكتب وفرح بالنقود، وفجأة يدخل رجل يدعي أنه مخبر ، ويتهم الابن بقتل أبيه حيث أخبر الولي هذا الرجل " إني مت مطعوناً بيد ابني الوحيد" وتوجه إليه تهمة قتل الأب وسرقة أموال الدولة ، ثم يقيده المخبر مع الفتاة في هذه الغرفة الصامتة كقبر ويتركه ويذهب ، وتتوالي الأحداث الغرائبية ويهذي الابن في عتمته عن أبيه الذي كان دجالاً ، وبالطبع ليس الغلام غلاماً ولا المخبر مخبراً وسوف تقع كوارث ليست في الحسبان " ودون مبرر أيضاً يعود المخبر في دور المهندس مع ضابط لشراء البيت ، وعبثاً يحاول الابن اتهام المخبر / المهندس بسرقة أمواله ، بل يخبره بعلاقته الوطيدة مع الولي .
المهندس : كان الولي يقول لي : الطمأنينة هي هدف النفس البشرية، فأقول له : بل التقدم يامولانا ولو بالجهد والقلق . وبعد هذه الأحداث الغامضة والأفعال الغير مبررة درامياً تنتهي الحوارية والمهندس الوهمي يخاطب الفتي ضاحكاً:" لست مقطوع الصلة بأبيك، فالناس يقصدون الخمارة طلباً للطمأنينة أيضاً " ليسخر نجيب محفوظ من العالم في هذه الحوارية ، وما التركة إلا عقاب الأب للابن ! من
خلال أحداث أقرب إلي الكابوس، ففي هذه الغرفة المعتمة كقبر تدخل مجموعة من الشخصيات تؤدي أدواراً غامضة ، وصاحب الخمارة المارق لا يفهم شيئاً، وتقريباً هذا المارق هو الوحيد الذي لايرتدي قناعاً ويؤدي دوره الحقيقي .
في مسرحية "النجاة" يتأكد اتجاه العبث في مسرح نجيب محفوظ حين تقتحم امرأة شقة رجل يعيش بمفرده وتطلب الحماية في الوقت الذي تحاصر فيه الشرطة المكان للبحث عنها ، وتدور الأحداث العبثية بين القلق والتوتر والغموض حيث يمارس الرجل المغامر والمرأة الضائعة الحب في هذه الأجواء الغامضة المخيفة، وبعد كل هذه الأحداث ينجو الرجل الذي نعرف منه أثناء سكره أنه كان يتمني أن يكون بائع كسكسي! وتفارق المرأة الحياة بلا مبررات درامية من خلال حدث درامي يبدأ وينتهي في جمود دون تطور سوي الهلع والخوف ، حين ألقت المرأة بيأسها فوق رأس هذا الرجل ، فالمرأة تعتبر نفسها منتهية وهي راضية وتتخيل أن الرجل يماثلها ، ليدخل البوليس في النهاية الشقة ويتبادل إطلاق الرصاص مع آخرين في الشرفة المقابلة ،ويتجاهل وجود المرأة ، فهل كان كل هذا الهلع سببه لا شيء ، مجرد وهم ؟
أما "مشروع للمناقشة " يناقش نجيب محفوظ قضية المسرح نفسه بين مخرج وممثل وممثلة ومؤلف في فضاء من الصراعات الغامضة وهنا يصرح بقوة أنه يقدم مجموعة أفكار للمناقشة ، صراع أفكار واضح ولكن هذه المرة حول الكتابة للمسرح ، والسؤال الذي يفتتح المناقشة أو يبدأ به الحدث الدرامي مغزاه هل يجب أن يحقق المؤلف رغبات الممثلين ، أم يتحقق هؤلاء الممثلين حين يفكر فيهم المؤلف ؟ أي منْ خلق من ْ؟ المؤلف خلق الممثلين والمخرج أم العكس ؟
المؤلف: الحق أقول لكم أنه لا وجود لكم قبل أن توجد الفكرة التي تنجزونها .
الممثل : بل نحن موجودون قبل أي فكرة.
المؤلف : إذا لم توجد القصة فأنتم أشخاص لا معني فني لهم.
الناقد: ألا يؤثر في خيالك وأنت تؤلف أشخاص الممثلين مثلاً؟
المؤلف: كلا ، إني أستغرق في عملية الخلق فحسب، ثم يختار العمل بعد ذلك ممثليه ومخرجه!
الناقد : هذا فرض مثالي ، ولكن الواقع أم المؤلف إنما يتعامل مع زمان ومكان وجمهور وممثلين وممثلات ومخرجين ونقاد أيضاً!
المؤلف : " ضاحكاً في سخرية" يالها من أفكار غريبة عن عملية الخلق ! وهكذا مناقشة أقرب إلي ملامح شخصيات الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيراندللو التي تبحث عن مؤلف، ولكن هذه المرة لا تخرج الشخصيات من النص المكتوب وتعترض علي مؤلفها، لكن الممثلون أنفسهم يعترضون علي المؤلف ! قبل أن تولد الفكرة ، بل والتمرد يصيب الجميع المؤلف والممثل والمخرج والناقد، فالممثل يريد دوراً تقليدياً يصارع فيه الأقدار، يصارع فيه المجتمع، والمؤلف يري أن القدر لم يعد سوي موضة بالية، والبطولة الخرافية مراهقة! وهل يتمخض المجتمع إلا عن لعبة يعبث بها أطفال شريرون لم تحسن تربيتهم ؟! ويصرخ في وجوههم ويستخدم كلمة الخلق مرات عديدة " من يدري بمتاعب الخلق غيري" في حكاية ذات بنية دائرية تعبّر تماماً عن الجمود لأنها تنفي الانتقال من حالة إلي أخري ، فالبداية لا تختلف عن النهاية ، حيث يغيب المنطق عن الحوار والحدث في نص لا يلتفت إلي دور الإنسان ليقدم نجيب محفوظ حوارية عبثية تعبر عن إحساس الكاتب بالصدمة نتيجة لغياب وفقدان الأسس التي تقول بأنه ليس للعالم معني وأنه لا حقيقة ، وما رفض المؤلف لدور الممثل أو المخرج أو الناقد إلا رفض لدور الانسان في المجتمع ، ودون شك تأخذ الحوارية أبعاداً ميتافيزيقية حول الخلق ، ويمكن قراءتها أبعد من المسرح ، أبعد من رؤيه فنية مختلفة ومتمردة علي القواعد التقليدية ، فالمسرح هو الدنيا في هذا النص، وحين يصرخ الناقد أكثر من مرة " لقد حلت اللعنة بمسرحنا " لقد حلت بالدنيا ، إنه عالم نجيب محفوظ في قصصه ورواياته ، مشاكل الخلق وعبث الوجود !
وأخيراً تأتي "المهمة " فنتازيا يغلب عليها الطابع الميتافيزيقي لرجل يهيم علي وجهه من مطلع الصبح ثم يتبع أول من يصادفه، وكأنها مهمة الإنسان في الدنيا حين يتبع رجلاً شاباً كظله ويفسد عليه حياته، ومبرره أنه لا يقصد الشاب، وفجأة تخرج جماعة من الشباب يريدون قتله، ليقول له أحدهم" إذا أردت الرحمة قتلناك بلا تحقيق، وإن أردت العدل قتلناك بعد تحقيق، وإن أردت الحرية فأقتل نفسك بالوسيلة التي تفضلها" فلا مفر من الموت إذن، فمن هذا الرجل الذي يتبع الشاب ، ولماذا لم يغفر له ، ولماذا لم يساعده ، وهل هو الذي أرسل له من يعذبه ويحاسبه علي عدم أداء المهمة، وأي مهمة هذه؟ الأحداث كلها تدور في الخلاء ، الذي دائماً ما يتوجه إليه هذا الرجل الغامض بالكلام ويقول له : بنوايا طيبة أسير ولكني أتلقي اللطمات ، لماذا؟ لماذا يصرّ الناس علي الوهم والحماقة ، لماذا لا يقفون علي أرض الواقع ، كيف لا يفرقون بين العدو والصديق؟ وحين يصف نفسه يقول : اعتدت أن يقال لي أذهب عندما أرغب في البقاء ، وأن يقال لي لا تذهب عندما لا يجب البقاء ، فمن هذا الرجل ؟ بالطبع هو ليس مجرد رجل أنه رمز لقوة خفية ، فمن هذا الذي يتبع الإنسان ويحاسبه ويمنحه كل الخيارات التي تنتهي بالموت ؟وحتي بعد أن يتم تقييد الفتي في الخلاء لا يعرف من هذا الرجل ؟ لقد أدرك محفوظ في تلك الفترة أن قوانين المسرح الواقعي لم تعد تنطبق علي ما يحدث، ولم يعد يؤمن بالحلول الواقعية وهذا هو نفس فكره القصصي ، ولكنه يسير بنهج جدلي لا يخلو من فلسفة عميقة تعكس حالة فقدان اليقين بعد هزيمة 67، ليلتقط سؤال اللحظة، السؤال المعقد الذي لم يجد له إجابة،هو أوغيره، لذلك لجأ إلي دراما اللامعقول لتجسيد الواقع اللامعقول، من خلال شخصيات لا تحمل أسماء ، فقط تحمل صفات ومهن و كلها من فصل واحد، وتدور أحداثها في مشهد لا يتغير تقريباً وتستعير لغة الصورة الشعرية من خلال أفكار مجردة ورؤي فلسفية . وبعد قراءة هذه النصوص سألت نفسي لماذا لم يكتب نجيب محفوظ هذه الحورايات في قالب قصصي، وماالفرق بينها وبين أغلب القصص التي ضمتها هذه المجموعات ؟ وبالطبع علي المستوي الفكري لا فرق ، بالإضافة إلي فلسفة العبث التي تعتمد عليها القصص و أيضاً الحواريات ، ولكنها الرغبة في الحوار والجدل حول أحداث تلك الفترة والاستفادة من فن المسرح ، وربما التجريب الذي كان محفوظ مولعاً به ، حيث يبحث عن أساليب وأشكال أدبية جديدة في كل عمل .
المطاردة والزمن
ولا يختلف الأمر كثيراً في العمل الثاني " الجريمة" 1973 والتي كتب فيها مسرحية واحدة من فصل واحدة "المطاردة" من خلال أربع شخصيات أطلق عليها الأحمر والأبيض والعروس والشخصية الوهمية التي تطاردهم، حيث يقرر الأبيض والأحمر الزواج من امرأة واحدة من خلال حوار فلسفي يجمع بين العمق والبساطة وفكرة غير منطقية ، ليس فقط لزواج رجلين بامرأة واحدة، ولكن في عودتهما للشباب مرة أخري وتكرار التجربة ، ليتذكر قارئ نجيب محفوظ يوجين يونسكو ، وصامويل بيكت بقوة، ولكن إذا كان محفوظ قد استعار إطار مسرح العبث، إلا أنه وضع أفكاره وعالمه ، والمطاردة حول رجل صامت لا يتكلم ،فقط يتحرك تزداد سرعته في كل مشهد ويحمل سوطا في يده يراقب ويطارد الأحمر والأبيض وزوجتهما بعد ذلك ، الأحمر والأبيض والزوجة يمارسون عملية التنكر في كل مشهد من خلال الملابس وعمليات التجميل ولكن الرجل لا يتأثر،
ليتعرف عليهما في كل الأحوال ، تتغير الدنيا والرجل كما هو، تدخل العروس في البداية مع شرطي ومأذون ، وفي النهاية مع أمين شرطة يحمل لاسلكي ومأذون عصري في إشارة للتطور الظاهري الذي أصاب المجتمع ، ومهما تنكروا الرجل يعرفهم وفي النهاية يهرب الأحمر والأبيض ويتركان العروس ترقص أمام الرجل الذي مازال يعدو ولكن هذه المرة في مكانه ، فمن هذا الرجل الذي تزداد سرعته هل هو الزمن أم الموت ؟ فليس هناك صراع درامي كما ذكرت سلفاً هناك أفكار تتصارع حول فكرة الزمن أو الموت، هناك صراع ميتافيزيقي حول الوجود يجسد أفكار الكاتب حول الزمن في حوار يغلب عليه الطابع الفلسفي حيث يخاطب الأبيض الرجل أو الزمن" لكننا في الواقع نحترمك ، صدقني فأنت تشغل من وقتنا أكثر مما تتصور، وأنا مقتنع بأنك لاتتعرض لنا وأننا في الواقع مسئولون عن كل شيء ، فنحن الذين نعمل ونحن الذين نتغير، ونحن الذين نكبر، ولاحق في أن نعلق عليك الأخطاء والمتاعب وأري أنك تقبل دعوتي للشرب"! أما الأحمر فعلاقته بالرجل سيئة ويخاطبه ساخر " اجر، لا يهم ، سيدور رأسك ، وتقع جثة هامدة" والرجل / الزمن لا يكف عن ضرب الهواء بالسوط ، فقط يتباطأ إيقاع الرجل، وظني أنه يتباطأ فقط بالنسبة للأبيض والأحمر ! ليختفي نجيب محفوظ في هذه الحواريات وراء شخصياته .. ويطرح القضايا ويناقش الأفكار التي تؤرقه بعيداً عن عناصر الدراما ، ونص المطاردة نموذجاً .
الشيطان يعظ والخطأ التراجيدي
أختلف الأمر قليلاً في مجموعة "الشيطان يعظ" 1979 ربما باختلاف اللحظة التاريخية ،فقدم فيها مسرحيتي "الجبل والشيطان يعظ " وهنا لجأ إلي الأسماء الواقعية للشخصيات، ولكن مازالت الأفكار المجردة والرؤي العبثية تتسيد الموقف،ففي مسرحية " الجبل " تجاوز مجموعة من الشباب دورهم في الحياة ونصّبوا أنفسهم قضاةً وحاكموا الناس ونفذوا الحكم في الجبل من خلال حبكة قوامها الرغبة في تحقيق العدل ورفع الظلم عن البشر، وتتطور الأحداث ويتحول هؤلاء إلي قتلة، وبالطبع رغبة تحقيق العدل رغبة نبيلة ولكن هل يمكن لأي شخص تطبيق العدل ؟ لقد لعب هؤلاء دوراً ليس لهم رغم نبل الفكرة ، وحين تجاوزوا دورهم في الحياة كان الخطأ المأساوي وتحولوا إلي قتلة! ولا يخفي علي القارئ الرموز الواضحة ، الحارة / الدنيا ، وكما يحدث في التراجيديات الكبري يموت جميع الأبطال ولايبقي سوي واحد يروي المصائر المأساوية ، وكما ذكرت ، ثمة اختلاف في البناء وليس في الفكر ، فالجبل أقرب إلي تراجيديا قصيرة إذا جاز التعبير ! يحمل في نهايتها عساف الناجي الوحيد جثة حبيبته هبة في مشهد مأساوي وقد أصابته لوثة وتمني لو رقص وغني " الوداع لكل شيء طيب أو قبيح . ولتسعفني سعادتي علي دفن الحبيبة والزملاء والأمل ، وأقول لأي هاتف أنني لن أعترف أو أنتحر . في سطح الجبل الغائص في الظلام متسع للتخبط الجنوني الثمل."
أما " الشيطان يعظ" فقد أطلق عليها مؤلفها أيضاً مسرحية من فصل واحد مثل المطاردة، وأضاف في العنوان أنها مستوحاه من حكاية "مدينة النحاس " ألف ليلة وليلة ، وتقريباً احتفظ بأبطال الحكاية ، موسي بن النصير، الخليفة عبد المللك بن مروان، طالب رسول الخليفة ، والشيخ عبد الصمد، الملكة ترمزين من خلال حبكة تخالف منطق ألف ليلة وليلة وهو اللامنطق و يطرح من خلالها تساؤلاً مغزاه ، هل يستطيع الحاضر تغيير الماضي ، أم هل يحكم الماضي الحاضر ؟ ويجيب النص ، لا هذا ولا ذاك وهذه هي موعظة الشيطان التي استلهمها الكاتب من الحكاية ، حيث يستطيع العفريت إقناع رسل الخليفة بالعدول عن حمل القمقم الذي يسكنه العفريت إلي بغداد .
العفريت : قل لمولاك من يحكم بالإيمان فلاحاجة له بالشيطان.
عبد الصمد : انطلق أيها العفريت فلقد نطقت بالحق .
وكان الخليفة قد طلب قمقماً يسكنه عفريت من مدينة النحاس وأرسل إلي موسي بن النصير لأن المدينة تقع بالقرب من الأندلس، ومن خلال هذه الحكاية يقيم نجيب محفوظ حواراً بين الماضي والحاضر وذلك بعد أن يصلوا المدينة المسحورة ومن باب الفضول وبعد أن تثيرهم الحكاية ومشاهد البشر / التماثيل يطلبون من العفريت أن يعيد المدينة إلي الحياة في يومها الأخير، وبالفعل تدب فيها الحياة ، فيعيد الموتي تمثيل الأحداث! فبعد أن طغت الملكة ترمزين وطلبت من الناس أن يعبدونها بعد أن أدعت الألوهية ، واغترت بقوتها التي تستمدها من العفريت! ويصف نجيب محفوظ المدينة وصفاً لا يبتعد كثيراً عن أجواء ألف ليلة الفنتازي ، مدينة متخيلة يقوم فيها الرجال مقام النساء في كل شيء والعكس ، فقرر العفريت إهلاك الظالمين بظلمهم والآخرين بنفاقهم وجبنهم ، لقد تجاوزت الملكة حدودها الإنسانية وأدعت الألوهية وكان هذا الفعل الخطأ التراجيدي الذي أهلكها وشعبها ، وفي هذا اليوم يحاول رسل الخليفة من خلال هذه التجربة المدهشة إقناع الملكة بالعدول عن غيها بعد أن عادوا عشرين ألف سنة إلي الوراء ! وبالطبع ترفض ويهلك العفريت المدينة ولا يستطيع الحاضر تغيير الماضي، ولا أن يحكم الماضي الحاضر حيث تحاول ترمزين التأثير علي طالب رسول الخليفة من خلال علاقة الحب التي نشأت بينهم، ولا يستطيع أحد أن يقف في وجه الأقدار، وهي الفكرة الأقرب إلي أدب نجيب محفوظ بل وتسيطر علي كل أعماله ، حيث تتردد أسئلة عديدة علي لسان الشيخ عبد الصمد دليل الرسل إلي مدينة النحاس وشيخ الصحراء الطاعن في السن ، أسئلة تشي بهذه الفكرة مثل، هل تستطيع يد هالكة منذ عشرين ألف سنة أن تؤذي إنساناً من زماننا ، وما أعجب أن تحاور أمواتا.
و بتواضعه المعروف أنكر نجيب محفوظ أنه مؤهل لكتابة المسرح ، وقال " أنا مجرد كاتب مبتدئ ، ولا يمكن أن أزعم أنني أنتمي إلي كتّاب المسرح الجماهيري، وأنني مازلت أجرّب، ولهذا فأنا أنضوي تحت لواء المسرح التجريبي " ودون شك كان مؤهلاً لكتابة المسرح ليس فقط من خلال هذه الحواريات ولكن من خلال تجليات المسرح في أعماله القصصية ، وأتفق معه في استخدام مصطلح التجريب فقد كان كعادته يجرب في المسرح كما فعل في الرواية واستخدم مصطلح المسرح التجريبي عام 1971 ! وظني أنه سبق الكثير من كتاب المسرح في استخدام مصطلح التجريب ، بل وتطبيقه عملياً ، في هذه الحواريات التي أثارت جدلاً حول طبيعتها المسرحية وإنتمائها إلي جنس المسرح وخاصة بعد أن صرح هو في أكثر من حوار " نستطيع أن نسمي هذا النوع علي سبيل الطرافة ( ق.م) أي قصة مسرحية لأنها تجمع بين جوهر القصة وشكل المسرحية " وأيضاً أن هذه الحواريات مزج بين القصة والمسرحية في وحدة عضوية فنية واحدة ، وظني أن هذا هو أدق توصيف لهذه الحواريات ، ولن ننسي أن المسرح كان حتي سبعينيات القرن الماضي في قمة إزدهاره مما دفغ نجيب محفوظ أن يقول " ليس أمام الروائي الذي يعيش في عصر المسرح إلا أن يكتب قصة في شكل حوار"وهذا ماحدث بالضبط بالإضافة إلي ارتباطه العميق بفن المسرح الذي ظهر واضحاً في أعماله الروائية ، وكان يعرف جيداً أن هذه النصوص ليست بها التكنيك الدرامي للمسرح ، ليست حواراً درامياً قائماً علي الصراع ، بل أقرب إلي الحوار القصصي الذي يطرح الأفكار ويناقش الأحوال السائدة ! وأبرز من ناقشوا هذه الحواريات الراحل سليمان فياض، الذي نسب مصطلح الأقصوصة المسرحية ( ق.م ) الذي أقترحه نجيب محفوظ للأديب الأمريكي جون شتاينبك وذلك في مقدمة روايته الوميض أو الوهج ، وتساءل فياض هل حاول نجيب محفوظ الدخول إلي المسرح من باب القصة ؟ ووصف الحواريات بأنها تهتز كثيراً حين تقترب من الشكل القصصي ، لكنها أكثر اهتزازاً وابتعاداً عن الشكل المسرحي ، وعلل ذلك بالهوة الكبيرة بين البناء الدرامي للمسرح والبناء الدرامي للقصة ، من خلال مفردات عديدة أهمها الحوار الدرامي في المسرح الذي يختلف عن القصة ! وظني أن نجيب محفوظ الذي صرح بأنه ليس كاتباً مسرحياً أكثر من مرة ، إنما أراد أن يشارك بالنقاش الدائر بلغة العصر وهي المسرح وقتذاك، لم يكن في ذهنه بناء المسرح أو بناء القصة أو التكنيك ، فهو روائي بالدرجة الأولي، يقدر قيمة فن المسرح وبل ويعرف أسراره التي استفاد منها في أعماله الروائية ، وقد استفاد منه في حقبة رأي أنها تحتاج إلي الحوار الذي هو من مقومات المسرح ، في صيغة أقرب إلي فلاسفة اليونان الذين كانوا يحاورون الناس في الأسواق ، رغبة في الوصول إلي إجابة عن أسئلة لا إجابة لها .
عناصرالمسرح في قصص نجيب محفوظ
حين يعود القارئ إلي قراءة القصص القصيرة التي ضمتها المجموعات الثلاثة التي نشر فيها هذه المسرحيات أو الحواريات سيلاحظ طغيان الحوار علي السرد في هذه القصص بصورة واضحة ، فالحوار لا يُستخدم فقط كإحدي وسائل الإيصال بل كعامل مساعد من عوامل رسم الشخصيات ، وسرد القصة وتدعيم البناء العميق للحكاية ، فالحوار في قصص نجيب محفوظ غالباً حوار درامي وليس قصصياً ، والدليل علي هذا اننا لا نستطيع الاستغناء عنه أو تحويله إلي سرد ، ربما يحدث هذا في القصص العادية ، لكن في قصص نجيب محفوظ في هذه المجموعات الثلاثة وغيرها ، ستهدم هذه المحاولة القصص من أساسها ، لأن هذه الشخصيات في بنائها العميق شخصيات درامية، فثمة صراع درامي واضح بين الشخصيات، صراع مادي وفكري ،صراع داخلي في أعماق كل شخصية ، وصراع خارجي بين الشخصيات، وهذا من وسائل المسرح . وإذا كان الحوار يخلو من الارشادات المسرحية كما في النصوص التقليدية ، إلا أنه حوار درامي والقصص حافلة بالحركة المادية، دخول وخروج كأننا في كواليس عرض مسرحي ، تدخل الشخصيات حاملة همومها ومشاكلها وأفكارها ونزواتها ، بل وفي أحيان كثيرة
ثمة استهلال حركي أقرب إلي بداية النص المسرحي وليس الاستهلال السردي كما يحدث عادة في القصص ، وقد استخدمه أيضاً نجيب محفوظ في بعض الروايات ومنها الثلاثية وزقاق المدق ، بالإضافة إلي وحدتي المكان والزمان التي التزم بهما نجيب محفوظ وهي من العناصر الأساسية للمسرح . وثمة ملمح أخر وهو التنكر حيث أن شخصيات نجيب محفوظ ترتدي الأقنعة وتؤدي أدواراً أخري تختلف عن شخصياتها الأصلية ، فكلها تقريبا في المجموعات الثلاثة تمارس التنكر والتمثيل وتؤدي شخصيات تختلف عن التي يعرفها الناس ، شخصيات تُظهر عكس ما تبطن ،البعض نصف عاقل ونصف مجنون ، شخصيات تعي أنها تعيش حياة عبثية ، إذن بين عناصر المسرح وفلسفة العبث تأتي قصص المجموعات الثلاثة .
فقصة تحت المظلة وإن كانت تحمل دلالة سياسية من خلال الشرطي الذي اكتفي بالفرجة علي المذبحة ، وحين سأله ماتبقي من الجمهور / الشعب أطلق عليهم الرصاص، هذا علي مستوي المضمون أما الشكل فلا يخلو من عناصر المسرح والسينما ، مفردات المشهد واضحة ، حيث يقف الجمهور/ الشعب تحت المظلة بين الحلم واليقظة ، بين الوهم والحقيقة يشاهد أفعالاً أقرب إلي الفنتازيا ، قتلي ولصوص ومطاردة ومقابر للأحياء في الشارع وجثث تنام فوق الأسرة ! ويلعب الحوار دوراً رئيسياً في البناء العميق للحكاية، رغم اعتمادها علي السرد في وصف الأحداث إلا أننا لوحذفنا الحوار لسقط البناء .
- إن لم يكن منظراً تصويرياً فهو جنون.
- منظر سينمائي بلاريب ، وما الشرطي إلا أحدهم ينتظر دوره.
- إن لم يكون تصويراً فهو فضيحة ، فهو جنون .
- هذه أحداث حقيقية ولا علاقة لها بالتمثيل .
- لكن التمثيل هو الفرض الوحيد الذي يجعلها معقولة علي نحو ما .
وهو لا يحدد شخصيات ينسب لها الحوار، فقد كانت الشخصية تحاور نفسها ، أو يتخيل من يحاوره في الأيام التي تلت نكسة 1967 أن ما حدث أشبه بالمشهد التمثيلي، وبعيد تماماً عن الحقيقة ، والاعتماد علي الحوار ينطبق علي قصص المجموعة بما فيها تجربة نجيب محفوظ في رحلة اليمن التي ضمها في هذه المجموعة وإن "الرحلة" الوحيدة البعيدة عن العبث أقرب إلي الرصد والتوثيق، ونعود إلي قصص تحت المظلة وأبرزها " الحاوي خطف الطبق " حيث أرسلت الأم ابنها الصغير لشراء فول بقرش ، فحمل الطبق والقرش واخترق الزحام ولكن البائع سأله ، فول خالص، بالزيت ، بالسمن ، فلم يجد الصبي إجابة ، وعاد إلي أمه ، فأخبرته بالزيت يا خيبة ، فكرر المحاولة ، وسأله البائع أي نوع من الزيت ، فلم يجد إجابة ، عاد يجر أذيال الخيبة ووجد الإجابه عند الأم ، وعاد مرة أخري يملك الإجابة ، واخترق الزحام بثقة فلم يجد القرش ، وهكذا عاد مرة أخري فلم يجد الطبق ، ليدخل الصبي في حلقة مفرغة ويخوض العديد من المغامرات وحين يعود بطبق جديد وقرش من حصالته ليمحو خيبته يجد البائع نائماً ! فدائماً ما يفقد شيئاً ، ويعدو في الشوارع ويفقد أيضاً طريقه وينتابه الخوف ، ويحلم أن يجد أمه فجأة ويتركه نجيب محفوظ في هذه الحيرة وتنتهي القصة .والقصة نموذج لفلسفة العبث من خلال حكاية الإنسان الذي لا يحصل أبداً علي ما يريد ، حتي لو كان بسيطاً، رغم رحلته الشاقة التي تكررت مرات عديدة من خلال حكاية ذات بنية دائرية تعبّرعن الجمود لأنها تنفي الانتقال من حالة إلي أخري ، فرغم الرحلة الشاقة للصبي إلا أنه كان يدور في حلقة مفرغة ! وفي " الوجه الآخر" الأخوان عثمان ورمضان، الأول ضابط والثاني مجرم خطير ، وبينهما صديق مشترك يعمل مدرساً ، رمضان الخارج علي القانون يري أن هذا الأخ الضابط الذي يرمز إلي " العقل ، الاتزان ، الاعتدال ، النظام ، الاجتهاد ، الأدب ، إنه رمز الموت في عيني " الضابط يعبأ قوي الأمن لقتل الأخ المجرم الذي يسخر منه ولا يحترمه أبداً ، وهنا يفيق المدرس ويكتشف أنه كان يتقدم وينجح بفضل رمضان الذي كان يروي ظمأه المكبوت إلي الانطلاق والأسطورة ، أما عثمان الذي كان يشجعه علي دروس الخلق والوطنية ، فلم يعد ينتمي إليه ، اكتشف المدرس أنه كان ميتا هو والقواعد التي يتبعها ، وأنه أضاع أيامه في صحبة العقلاء وأنه سيلهو بالأشياء العميقة وسيسحق مقتنياته ويقذفها في الريح ، لقد اكتشف أن كل معتقداته الراسخة لا قيمة لها !
ولاتختلف مجموعة الجريمة كثيراً حيث يشعر القارئ أنه مع نفس الشخصيات في ملابس أخري وأسماء وأماكن مختلفة ، شخصيات أيضاً تبحث وتتساءل حول المصير الإنساني في إطار عبثي، تتساءل حول الموت والزمن والوجود ، فالصبي صاحب موقعة طبق الفول لا يختلف عن مجموعة الصبية في قصة " الطبول" الذين خاضوا أيضاً معركة كبري مع الرحلة التي يصفها كاتبها بأنها طويلة بلانهاية ، معذبة بلارحمة ، خالية من أي معني أو عزاء ، غير جديرة بالطقوس التي تحكمها والنظام الذي يضبطها ، والآمال المعقودة عليها ، أما قائد الرحلة " وقائدنا نفسه لاح قائداً بلا قيادة ولا جيش ، مضحكاً " وبعد مغامرات وتمرد وحساب وعقاب للخارجين عن الطابور ، يصرخ القائد في المعسكر " ليكن الآن نوم ، وليكن في الغد حساب" ففي أي طريق ذهبوا وأين ولماذا ؟ فقط يصف المؤلف عذاب الرحلة في الذهاب والعودة إلي النوم في انتظار الحساب ! وهكذا شخصيات تواجه حياة ملغزة في صور مختلفة من خلال أحداث غير مبررة ، ولا يخفي علي القارئ الدلالة السياسية للرحلة وقائدها في تلك الفترة. وفي قصة التحقيق ، يذهب الرجل ليقضي ليلة مع زميلته في العمل وفي منتصف الليل يدق الباب ويدخل من يقتل السيدة ويذهب ، ورغم هروب هذا البائس من مسرح الجريمة إلا أنه الخوف الذي يسيطر عليه يقوده إلي حمل عبء جريمة لم يرتكبها سوي بخوفه ! وبعد القراءة يتساءل القارئ عن هذه الشخصيات التي يحمّلها نجيب محفوظ أسئلة الوجود، فقصة " الحجرة رقم 12" التي مدير الفندق الحكاية حين جاءت وأخلت الغرفة من الأثاث وفي المساء توافدت الضيوف التي تمثّل كل شرائح المجتمع من كل حدبٍ وصوب، والمدير في دهشة مما يحدث ، ولا شيء سوي صعود هذه الأعداد الهائلة إلي الغرفة ومعها كميات الطعام والشراب التي طلبها الضيوف ، ويسأل المدير كيف تتسع الغرفة لكل هؤلاء عائلات وشخصيات بارزة في المجتمع ، ومندوبي صحف وجمعيات وأساتذة جامعة ، ومخبر ، ولم يعد باب الحجرة يفتح ، وبالتوازي مع فعل الصعودإلي الغرفة سواء للبشر أو الأطعمة والخمور ، حيث تجري الأمور في شذوذ جنوني ، تلهو أيضا الطبيعة وتقصف السماء وترعد ، الصخب يزداد في الغرفة ، الضحك والغناء والضجيج ، والسماء ترد بالأمطار والبرق والرعد ، وكاد الفندق أن يغرق ، وأصحاب الغرفة 12 انحشروا بداخلها ، أمتلأت بطونهم فأنتفخت وتعذر فتح الباب ، بينما اجتاح الهياج الفضاء الكوني ، وجاءوا من الخارج بمتطوعين لإنقاذ الفندق من الغرق ، وأعطي المدير تعليماته بإهمال الغرفة 12 تماماً وكان الوحيد الذي لم يسمح له المؤلف بالصعود إلي حجرة السيدة بهيجة الذهبي ، هو سيد الأعمي الحانوتي ، فقد جاء مبكراً مثل الآخرين ولكن السيدة بهيجة لم تسمح له بالصعود ، لأن دوره في النهاية .
التمثيل والتنكّر
مجموعة الشيطان يعظ مثالاً لألعاب التمثيل والتنكر مع الاحتفاظ بفلسفة العبث ، ففي القصة الأولي " الرجل الثاني" التي تحولت بعد ذلك إلي فيلم سينمائي استعار صانعوه عنوان المسرحية التي حملت اسم المجموعة ليكون عنوان الفيلم " الشيطان يعظ " وكان العنوان مناسباً ودالاً لهذا الحكاية ، حيث يهرب شطا الحجري إلي حارة أخري إلي فضاء مسرحي أخر ليؤدي دوراً سوف يعصف به ، بعد أن كلفه الديناري الفتوة بأن يؤدي دوراً صعباً في مسرح الحياة ، طلب منه التمثيل ، تمثيل دور العاشق لخطيبة الديناري! يغازلها فينقلب اللعب إلي واقع ، حيث يهرب معها وتتوالي الكوارث في مجموعة من المشاهد ويعود شطا في النهاية يجر أذيال الخيبة بعد فشله في الأداء التمثيلي الذي تحول إلي واقع ، فلم يطرده الديناري أو يعيده للعصابة تركه معلقاً في أعماق الحيرة ، فلم يحاسبه عن خروجه عن النص عن الدور الذي رسمه له ، وتحاول الزوجة ، خطيبة الديناري من قبل وموضوع الامتحان إقناعه بأن الديناري يلهو ويعبث ، ولكن كيف يقتنع أن لهو وعبث رجل يدمر حياته ؟ ولكن هذه هي الحقيقة ، الديناري كان يعبث ويلهو ، فضاعت حياة شطا الحجري ، فثمة قوة كبري تلهو بالإنسان .
وفي قصة "أمشير" يهرب جندي الأعور بمجوهرات وزوجة صديقه الدُهل ، ثم يؤدي في هذا الهروب دور الرجل المحسن الطيب شخصية أخري مختلفة تماماً عن شخصيته الحقيقية ، عن شخصيته الأصلية ،اللص المجرم ، لكنه يفشل في إتقان الدور، وحين يكتشف ابنه حقيقته يقتله !
وفي قصة " الحب والقناع" يدل العنوان بقوة علي التمثيل ، حيث يعيش لبيب مع فتحية في مسرح مغلق، مسرح الحجرة في بيتهم ، يتقمص لبيب دور شخصية أخري ، بل يؤدي دوراً صعباً ومركباً ، ويصرح نجيب محفوظ في هذه القصة بالتمثيل وفلسفة الأداء ليس فقط من خلال العنوان " الحب والقناع" فالقناع من أساسيات المسرح منذ نشأته ، حيث تتردد في القصة كلمات عن التمثيل والاخراج والمسرح والكواليس ، وتدور الأحداث بين ملحد يحب ويتزوج من متدينة إلي حد التطرف ، لدرجة أنها تعتبر الدولة كافرة ، والرجل الملحد يؤدي في بيته دور المتدين يصوم ويصلي ، يخفي حقيقته ، فهو يعيش بمظهر نقيض جوهره ، وتدور بينهم حوارات عديدة يؤدي فيها الزوج دور المتدين ، ويزعجه أنها تحب الممثل لا الرجل الحقيقي" الممثل رجل نبيل مثقف لا عيب فيه إلا أنه مؤمن سلبي كغالبية المؤمنين هذه الأيام ، لكنه ممثل ، شخص آخر، ولوعرفت الحقيقة لولت تقززاً " لدرجة أنه يشعر بأنه يغتصبها
أي الممثل، فهي تحب الممثل لا الشخصية الحقيقية ،ويصرح نجيب محفوظ في هذه القصة بفلسفة التمثيل في هذه القصة معلقاً علي هذا الرجل " الممثل يتهادي اليوم علي المسرح وحده " وأن الممثل سوف يتضخم ضاغطاً بثقله المتصاعد فوق الشخص الحقيقي ، لدرجة أن هذا الزوج يفكر في أنه يتواري كشخصية حقيقية ويترك الممثل الغريب يعاشر زوجته أمام عينيه ! بل يتحدث عن تكامل أبعاد شخصية الممثل ، وحين يناقش أصدقاءه في الأمر يقول له أحدهم " منْ من الناس حولنا يحظي بشخصية واحدة ؟ نحن في مسرح كبير ،الجميع ممثلون ، يقولون كلاماً جذاباً فوق الخشبة، ويتهامسون بكلام آخر وراء الكواليس " وفجأة ينتفض الممثل ويخلع ملابس الدور، ويخبر لبيب زوجته فتحية بالسر، فيتقوض المسرح و يتلاشي التمثيل ويسترد لبيب ذاته، شخصيته الحقيقية ، هذه الشخصية التي تتمتع بالصدق والتكامل النفسي ، وترغب في حياة بلا انفصام أو انقسام جسّدها نجيب محفوظ من خلال حبكة جوهرها فن التمثيل . وفي قصة "السلطان" وبعد مؤامرة الزوجة مع القائد علي السلطان يتخلي عن السلطنة والتاج ، يتخلي عن شروط المُلك ويعيش في المقابر شخصاً آخر زاهداً . وتتعدد أساليب التمثيل في هذه المجموعة ففي قصة الربيع القادم ، تمارس العائلة كلها التمثيل ، حيث تتخلي الأم عن دورها وتعيش دوراً آخر ، وتمارس الخادمة عنايات الجنس سراً مع الأولاد في المساء ، ودور الخادمة في العلن صباحاً ، والجميع يؤدون دور الشرفاء في الظاهر! وتنتهي الحكاية بهروب أحد الأبناء" محمود "مع الخادمة يتزوجها ويتخلي عن دوره في حياة العائلة والطبقة الوسطي ويواجه الحياة بقناع آخر. أما قراءة في ضوء البرق فيتناول فيها التمثيل من زاوية مختلفة ، فثمة دور لكل شخص لايمكن أن يتجاوزه ، حيث تدور الأحداث حول إغتيال السياسي الفاسد السفاح " عصمت البطراوي " من خلال حبكة ملتبسة حيث تقرر الحكومة اتهام أحد الأبرياء " علي فؤاد" في حين أنها تطلق سراح القاتل ! وحين يصمم الضابط المحقق الذي يقوم بدور الراوي علي كشف الحقيقة ومواجهة القاتل الذي يعترف ، يتم تحويل القاتل إلي مصحة للأمراض العقلية ، و يعلم الضابط بحتمية هلاكه فيستقيل ويهرب، لأنه كشف الحقيقة وتجاوز الدور المخصص له من قبل السلطة الفاسدة .
وفي قصة أيوب التي تحولت إلي فيلم سينمائي، من بطولة عمر الشريف، فؤاد المهندس، مديحة يسري ،يبدأ الحدث بالضربة العابثة التي أصابت أيوب فرقد في الفراش، تاركاً ملايينه يديرها ابنه ، وبعد أن كان محوراً للكون أصبح مجرد مريض حبيس البيت ، وفجأة يظهر في حياته صديقه القديم الطبيب أبو السعود الذي يزوره بانتظام وهنا يبدأ التمثيل، يتم رفع الستار كل مساء عن الماضي حال وصول الصديق الطبيب بحضور العائلة / الجمهور، وإن كانوا سيقاطعون الفرجة بعد أيام لعدم فهم ما يحدث علي خشبة مسرح الماضي بين المليونير العاجز والطبيب السياسي في محاورة عميقة حول الحرية والارادة أشبه بمحاورات الفلاسفة الإغريق بين نقيضين ، أيوب الذي سقط في هوة الفساد الذي جاء مع الانفتاح الاقتصادي ، وصديقه الطبيب الذي ظل صامداً ! هذا الحوار اليومي كان بمثابة التطهير لأيوب الذي حكي كل تاريخه الفاسد ، ليري حلماً عنيفاً ويُشفي تماماً ، التطهر"الكاتارسيس"وفقاً لأرسطو بمعني الإنفعال الذي يحرر المشاعر من المشاعر الضارة ، فحين تحاور مع صديقه القديم ، مع الماضي وبدأ في كتابة مذكراته و اعترافاته شاهد أفعاله المأساوية لدرجة أنه تعاطف معها كما يتعاطف المشاهدون مع المأساة .
وهكذا في "مجموعة الشيطان يعظ " تلهو الشخصيات وتعبث علي مسرح القصة حيث استفاد مؤلفها من كل عناصر المسرح ،وخاصة التمثيل، وتبادر إلي ذهني وأنا أقرأ هذه القصص السؤال الذي هاجمني وأنا أقرأ الحواريات ولكن معكوساً ،مغزاه لماذا لم يسمّ نجيب محفوظ هذه القصص ( ق.م) ، وخاصة أنها في بنائها العميق تعتمد علي مفردات المسرح وخاصة الأداء التمثيلي والحوار الدرامي، وإن كان يغلب عليها طابع السرد في بنائها السطحي، بل وتحويلها إلي الشكل المسرحي في صيغة حوار لن يحتاج جهداً كبيراً ، والسؤال معكوساً حول الحواريات ، وظني أن نجيب محفوظ كان يجرب كعادته ، وكان محور هذه التجربة المسرح الذي استفاد من كل مفرداته في أعماله بشكل عام وخاصة في هذه المجموعات الثلاث التي لا تشي برغبته في كتابة المسرح بشكله التقليدي، ولكن الاستفادة من عناصر الدراما المسرحية في نصوصه السردية ، فكانت الحواريات التي جاءت في شكل مسرحي مباشر أضعف حلقات المسرح عند نجيب محفوظ ،حيث كانت من أجل الجدل والمناقشة ، للصراع الفكري، فلم تصعد إلي خشبة المسرح لأنها بلا مرجعية في الواقع ، لن يتفاعل معها المشاهد أما الدراما وعناصر المسرح فقد وضعها محفوظ في الروايات و القصص القصيرة سواء في هذه المجموعات أو السابقة أو اللاحقة لها ، وكما ذكرت قصة " أهلاً " في مجموعة الجريمة نموذجاً، فهي ليست مسرحية قصيرة رغم أنها ديالوج بين السياسي وماسح الأحذية، فقط في فضاء المقهي حيث يدور الحوار الممتع ، وفيه مقومات الحوار الدرامي أقوي من الحواريات ، فهذه القصة مشهد مسرحي متكامل حافل بالمفردات البصرية .
الرواية المسرحية
بعد عامين من المجموعات الثلاث توج نجيب محفوظ حواره مع المسرح برواية مسرحية وهي أفراح القبة 1981، وهي رواية أصوات ، أبطالها فرقة مسرح قطاع خاص يملكها سرحان بك الهلالي، والرواية بعيداً عن التكنيك هي درس في المسرح ، رؤية نقدية عميقة لما يجب أن يكون عليه هذا الفن ، حيث يحكي الأحداث الأب والابن والأم وممثل من الدرجة الثانية، الأب ملقن وقواد ، الأم قاطعة تذاكر وعاهرة ، والأبن مشروع مؤلف بعد أول نجاح حققه في المسرح ، فهو شاب مثالي رغم نشأته في بيئة فاسدة ، كتب العديد من النصوص ، سخر منها مدير الفرقة، ولكن حين كتب حياة الفرقة وفضائح العائلة ، طار مدير الفرقة فرحاً، ونجح العرض ، حين جسّد الواقع علي خشبة المسرح دون زيف أو تجميل ، حين قام بتعرية الجميع حتي الأم والأب ، بل وقام أعضاء الفرقة بتمثيل أدوارهم في الحياة علي خشبة المسرح ، في تجربة نادرة بين المسرح والرواية ، ليس فقط لأن الحبكة قوامها النص المسرحي الذي كتبه عباس كرم يونس ابن الملقن وقاطعة التذاكر، بل لأن الحوار الدرامي هو الأساس للبنية العميقة لهذه الرواية التي تبدأ بصوت أو رؤية الممثل المغمور طارق رمضان للأحداث ،وهو عدو مؤلف النص المسرحي من خلال استهلال حركي يصف المكان / فضاء الحدث حيث تدور المناقشة حول النص الذي كتبه عباس مع أعضاء الفرقة ، هذه المسرحية التي فضحت الجميع ، حين كتب المؤلف المسكوت عنه في حياة أعضاء الفرقة ، وأنطلق من البيت ، بيت كرم يونس وزوجته حليمة الكبش الذي ولد ونشأ فيه المؤلف وكان مسرحاً لكل الأحداث السرية في حياة الفرقة ، والذي حوله صاحبه إلي ماخور لمدير الفرقة وصاحبها ، ارتكب فيه كل الموبقات حتي زوجته منحها لمن يدفع ، وحين كبست الشرطة البيت برأت الجميع وحبست كرم وزوجته ، ليكتب عباس هذه الحقيقة العارية التي عاشها وشاهدها وعاني منها ، الحقيقة التي أثارت جدلاً عنيفاً بين أعضاء الفرقة ، بل وعصفت بحياتهم بما فيهم الأب والأم بعد خروجهم من السجن ، حيث كان كل شيء حقيقياً أكثر من الحقيقة ، ليتداخل الواقع والمسرح في أفراح القبة في بناء الرواية ، حيث السرد ممثلاً في حكي الشخصيات مع الحوار المسرحي لنص عباس عن تاريخ البيت الذي يصفه المؤلف وكيف قرر أن يكتبه " تسللت إلي الدور الأعلي في الظلام ، قد تحلقوا المائدة ودار الورق . إنه القمار كما رأيته في المسرح . مآسي المسرح تنتقل إلي بيتنا بأبطالها أو ضحاياها . هؤلاء الناس يتصارعون فوق الخشبة أما هنا فيقفون صفاً واحداً في جانب الشر . إنهم ممثلون . حتي الناقد ممثل أيضاً . لا شيء حقيقي إلا الكذب . إذا جاء الطوفان فلن يستحق السفينة إلا أمي وأنا . إن يكن للنية قيمة إذ ن لا عمل لنا . حتي أمي تعد الطعام والشراب." رأي عباس كل هذا فأضمر حرباً لا هوادة فيها علي كل ألوان العبودية التي يتعرض لها الناس ، وكان يسأل نفسه ، هل يكفي المسرح ميدانا لهذه الحرب ؟ ويجيب عباس في منولوج داخلي كتبه نجيب محفوظ ببراعة فائقة كيف انبثقت الفكرة بعد موت تحية زوجة عباس وطفلهما أيضاً " ليكن الناس هم الناس ولكن الجوهر سيكون الحلم لا الواقع . أيهما الأقوي؟ " وعباس علي قناعة بأن الحلم هو الأقوي ، فإذا كان الواقع أن الشرطة كبست البيت والمرض قتل تحية وابنها ، لكن ثمة قاتلاً أخر هو الحلم ، فهذه رؤية مؤلف النص ، البطل الحقيقي للمسرحية هو الحلم ، الحلم الذي توفرت فيه الشروط الدرامية ، وكان عباس يقصد أنه لا يكتب الواقع السطحي بل الحلم الجوهري ، وكان ينشد من الكتابة الخلاص " كل شيء يهون في سبيل الفن ، في سبيل التطهير " الخلاص بالمسرح .
لقد عاصر نجيب محفوظ منذ طفولته في العقد الثاني من القرن العشرين أزهي عصور المسرح المصري التي امتدت حتي الستينات ، فكان من الطبيعي أن يكون جزءاً من مشروعه الأدبي ، واستفاد منه في إطار ما يخدم مشروعه الروائي ، فلم يكن المسرح في حد ذاته هدفاً أو غاية ، كان وسيلة .
الرسوم المصاحبة للدراسة للفنان جمال قطب والتي تم نشرها ضمن مجموعة »الجريمة« الصادرة عن مكتبة مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.