1 في آخر الليل يتناثر الناس منهكين.. يقفون في صمت.. يتحدثون في خمول.وجوه مكدودة، مغمورة بالإحباط، مقهورة. بعضهم واقف أو جالس علي الرصيف، يأكل شيئاً، والبعض الآخر يتكئ علي كشك ناظر المحطة المغلق، وبعضهم يقرأ في جريدة توزع ليلاً، قبل أن يقرأها أهل الصباح. آخرون التفوا حول عربة خشبية يتناولون، أطباقاً من الكشري أو الكسكسي يملأون بها أمعاء خاوية.. ينتهي بهم المصير- غالباً- إلي المستشفي في الصباح الباكر. لاشيء يقطع الصمت، ويخفف من تثاقل العيون وبلادة الوجوه، إلا أغنيات شعبية يبثها مسجل عربة الكشري.. بينما ينبعث من مسجل آخر شي من الثرثرة الدينية، وقد مزجها الصوت بثوب من العظة والحكمة مايسمي بأبوزيد الهلالي ينتبه المنتظرون ذلك الصوت الخشن المشروخ عندما يصيح: نفر واحد.. منصورة نفر واحد.. بنها.. طوخ .. بعدها تتم عملية اختيار الركاب وتحديد الأجرة المطلوبة قبل الركوب حتي لايحدث أي اعتراض من الركاب بعد أن تتحرك العربة بهم.. وماتزال أصوات أجهزة الراديو والمسجلات الزاعقة، تقطع ملل الليل، ورتابة الانتظار.. تنعشهم بأصوات اعتادوها منذ طفولتهم وصباهم.. تعظهم وتصبرهم.. بكلمات شعبية تلامس معاناتهم، وتعبهم وكآباتهم اليومية. 2 كنت قد تطلعت إلي وجهي في المرآة واكتشفت أياماً وسنين قد هرولت من عمري وانسابت من بين يدي كطيف خيال عبر واختفي في لمح البصر. كيف لاحظت الشعر الأبيض إلا من شعرات سوداء بدت شاذة.. وسط بحر ثلجي أحمله كل يوم؟ كنت قد خرجت من الحمام في بيت صديقي عبد الرؤوف بابتسامة مجهولة الأسباب لاحظها وأنا أجلس ساكناً مبحلقاً إلي السقف ورأسي إلي الوراء علي المقعد الوثير.. عدت في هدوء أذكره متسائلاً: - فاكر سنين الواحات ياعبدالرؤوف؟ فوجئ بسؤالي السخيف وأجاب مقطباً في اقتضاب »فاكرها« ثم سألني: مالك يا كمال .. أهناك شيء؟ ربما استفزه سؤالي: - عبدالرؤوف ممكن كسر الحجر؟ - كسرناه.. وحملناه فوق أكتافنا أبوكمال؟ - وممكن يخرج منه الماء؟ قال مغالباً دهشته: ماء؟ غير ممكن طبعاً! قلت له: نحن حجارة تيبست! سلام عليكم! بعدها وبلا مقدمات.. وكسقراط الذي قال كلمته ومضي صافحته.. وأدركت ظهري وانصرفت هابطا سلم العمارة.. بينما صوته ظل ينادي بقرار حزين.. ولكني مضيت تجرني قدماي إلي حيث أقف الآن منتظراً عربة تقلني لبيتي.. وبناتي.. وابني الوحيد .. والصابرة زوجتي. وهأنذا انتظر أن يكتمل عدد ركاب العربة حتي تتحرك.. وعقلي يسترجع شريط ما فات ووقائع ما جري في الواحات.. من عذاب الجسد والفكر وضعف البصر وامتهان بشريتي أنا والآخرين.. ربما كان ذلك السبب في ضحكي عندما تطلعت إلي وجهي المتغضن.. وشعري الفضي.. ونظارتي الثقيلة.. أهي ضحكة تعبر عن الخيبة والحسرة.. ولكن أية خيبة وقد ربيت بناتي وابني وتخرجوا في الجامعة.. طبيبا وصيدلانية ودارسة للكمبيوتر.. ولكن من أكون؟ شريف أنا أم مقامر؟ شجاع أم غبي عنيد؟ مشاغب أم مسالم؟ ولاشك أنني مسالم جدا رغم غباء النظام الذي كان يراني مشاغباً.. عنيداً ومتآمراً.. سوبر مان قادراً علي دك حصون الثورة وسرقة دباباتها واختطاف طائراتها والسيطرة علي الأسلحة الجهنمية الخطيرة التي كانت مخبأة لدك إسرائيل وتدميرها.. الثورة التي ادافع عنها الآن ضد المهاجمين هي ذات الثورة التي ألقت بنا سنوات إلي الصحراء.. سنوات العمر والشباب.. والحلم ! لماذا أخذونا وألقوا بنا في الواحات مع السحالي والثعابين والقيظ والبرد واللالون.. إلا اللون الأصفر الرملي.. ألهذا قلت لعبدالرؤوف إننا حجارة تيبست؟ وانعدم منها الماء.. هذا إن كان فيها ماء أصلا.. فقد أريق الماء هناك فوق الرمال.. وفي الزنزانات المعبأة بالبشر من كل لون واتجاه.. في تقطيع الحجارة.. وأكل الخبز اليابس وتحمل وجع الألم من الضرس أو البواسير أو حموضة المعدة.. أو ألم الأكزيما بأنواعها.. أو ألم معاناة انتظار الدخول إلي دورات قضاء الحاجة وما ألعنها من حاجة!! 3 بنها.. يسابقني الدمع إليها تلك الليلة، حزن ما يلفني، وألم ما في داخلي.. شيء رائع!! أيمكن أن يكون الألم شيئاً رائعاً!! ربما نعم لأنه مازال محفوراً منقوشاً علي ظهري.. يا لشريط الألم عندما لايندمل داخلك ويظل ألم الكرباج يعمل فيك كل يوم بعد مرور السنين.. وبعد أفراح البنات وفرحتي بزواجهن وزواج أخيهن .. وبعد عودتي للصحيفة وعودة القلم إلي أصابعي.. واعتلاء التافهين مناصب التحرير العليا.. أنا صورة رجل مهزوز يغالب الدمع.. ويقف مع الواقفين ليحشر في سيارة آخر الليل لتقله إلي بيته في طوخ.. بعد أن كان يقود المظاهرات ضد الإنجليز ويناضل بالقلم ويحبس صغيرا وهو بعد تلميذ في الثانوي في باب الشعرية عندما ضربه الضابط المصري وسال من وجهه الدم.. لذلك كنت مع الثورة لأنها ضد الظلم الذي رأيته.. بيد أنها اقتلعتني ذات ليلة رمضانية من وسط أولادي ونحن نتناول السحور.. انتزعت من الدفء إلي البرد .. ومن الفراش إلي البلاط.. لعل هؤلاء أصحاب سنوات ضائعة مثلي.. حلم مستحيل أو أمل مفقود.. هؤلاء أكلة الكشري وأصحاب الصوت المشروخ الممزوج بعرق النداء طوال النهار ودخان السجائر.. لعلهم أكثر راحة بال أو لعلهم أكثر تعاسة و انسحاقاً.. أو لعلك تواسي نفسك يا كمال وتقهر ما في النفس من زفرات قهر السنين.. فلا تضحك علي نفسك يارجل!! 4 علي المقعد الأخير وكما اعتدت اخترت مقعدي. وبجوار السائق جلست المرأة الوحيدة بيننا .. دقائق تحركت السيارة وأطلق السائق عبارته التقليدية «الفاتحة للنبي». انطلقت السيارة ومعها انطلق شريط لإحدي الأغنيات. أسندت رأسي إلي زاوية المقعد وأغمضت عيني، وتسللت الكلمات إلي أذني ومنها إلي الوجدان لتحاصرني المشاعر والذكريات والأحزان وطيف حب يتيم قديم لم يكتب له النجاح. «بعدوك عني وبعدوني.. دول افكارين حرموني أحبك.. نسيو انك جوه عيوني تتغطي برمشي واحبك«. لكزني جاري بكتفه وهو يمد لي بعلبة سجائره.. ولم يمنحني فرصة الاعتذار قبلت سيجارته شاكراً ولم أشأ أن افتح معه حواراً.. لكنه بادرني بالسؤال «بنها إن شاء الله؟» قلت «لا والله طوخ«. ران الصمت إلا من محرك السيارة. ومازال الصوت الدافئ يتسلل إلي الأذن وازاي دا جري ما عرفشي.. إزاي ييجي يوم ما اقدرشي.. أهوي من العالم غيرك أنت.. أنساك ولو حتي شوية .. حبك أكبر من جرحي.. ودا قدري.. ومش بإيديه ياعمري«. - والله كلام جميل! - فين الحب دا يا عم؟ - هي الدنيا فيها غير الحب! كاد الركاب يقلبون الرحلة إلي ندوة رأي عفوية حيث لا رقيب ولا مجيب.. لا حرج ولا تردد فالكل سينزل دون أن يتبادل مع الآخر عنوانا.. كنت أمني النفس بسماع آراء عفوية وطريفة تنسيناً ملل الطريق وعتمة الليل.. عندما بدأ السائق يهديء من سرعة السيارة.. وخرجت منه كلمة واحدة بعدها توقفت الكلمات والصوت الدافئ وران الصمت والترقب مع توقف عجلات السيارة.. - كمين!! كان هناك ضابط يجلس بعيداً بجوار مقعد خال آخر.. صاحبه ذاك القادم باتجاه السائق ومن خلفه جنديان علي كتف كل منهما وضعت بندقية.. قام الضابط بعملية مسح سريع للوجوه داخل الميكروباص ثم توجه للسائق الذي مد يده بأوراقه سبقتها تحيته «مساء الخير ياسعادة الباشا». أمسك الضابط بالأوراق وتفحصها في لامبالاة متطلعاً إلي السائق ثم هز رأسه وعاود قراءة الأوراق في يده.. ثم أمسك السائق من قميصه وفوجي السائق الذي باغتته صفعة من كف الضابط الشاب.. لاشك أن في الأمر مخالفة كبيرة أو جريمة.. لكن سائقنا قال بصوت عال فيه نبرة احتجاج وعتاب: - »الرخص سليمة يابيه«. ثم لاحقته صفعة ثانية وثالثة من يد القدر المتوحش الذي سحبه من قميصه وهو يقول: - وتكلمني وأنت قاعد ياروح أمك!! وقف السائق في حالة اضطراب وارتباك.. واضعا راحة يده فوق صدغه الأيسر. تلاشت لحظات الزمن والسنين وكلمات الحب الرقيق.. وتكثفت لحظة تصنعها صفعات الضابط.. من الخوف والقلق وما استبد من توتر وترقب.. وآثر الصمت أن يكون مطاعاً بغير أوامر فالضابط هو الصوت الوحيد الأوحد.. وهو الناهي والآمر والضارب والقادر القوي والممسك بزمام السلطة واللحظة.. ومازال الجنديان يقفان كالظل خلف الضابط بينما الضابط الكبير الجالس بعيداً .. يرقب في صمت دون حراك. أدخل الضابط رأسه داخل السيارة. تطلع وتفرس وجوه الركاب. أدركت أن ثمة شيئاً ما خطيراً إلي هذا الحد الذي يدفعه لكل ما يمارسه ضد السائق وربما ضدنا بعد قليل.. ولم لا. لم ينطق أحد من الركاب بكلمة.. حتي أنا المعتبر وسط الناس مثقفا انكمشت كالفأر. .ساكنا.. صامتاً.. رغم مفردات الضابط المنتقاة بعناية لتصيب مرمي البذاءة. تواريت في مقعدي قطا عجوزا جبانا تجاوز السبعين.. وجاءني صدي كلمات الأغنية : وإزاي دا جري ما عرفشي..حبك أكبر من جرحي.. ودا قدري! تلاشت الكلمات من الذاكرة.. اللحن والصوت والحب والأحزان.. والشعر الأبيض وسنين الواحات مع الأمر الصادر للمرأة بأن تنزل من العربة ودهشتها: ليه يابيه؟ وقالت المرأة في صوت يتهدج خوفا: كنت عند أختي في دار السلام والله يابيه.. ثم وهي تبتلع ريقها: بعيد عنك مريضة وحالتها صعبة. قال ضابطنا في سخرية: صعبة.. طيب انزلي ياروح أمك! ليس في المرأة ما يثير شكوكاً.. أو يحرك لعاب رغبة مكبوتة.. امرأة ترتدي جلبابا أسود وهي قد تكون تجاوزت الأربعين أو قليلاً . كل ما تحمله »صرة« عقدتها علي أشيائها. التي راح بطلنا يلقي بمحتوياتها.. أسبرين . قطع نقود معدنية وعملة ورقية يتيمة. منديل. بقايا فطيرة مغموسة بالسمن وأرغفة خبز وأشياء تافهة أخري.. وورقة بيضاء راح الضباط يفتحها ثم قال متهكما: حلاوة!! بتشتغلي إيه ياحلاوة؟ قالت المرأة وقد تماسكت بعض الشيء: أشتغل!! أنا رايحة لأولادي يابيه .. لا شغل ولا مشغلة.. لا قراءة ولا كتابة! سمعنا أخيراً صوت الضابط الكبير الجالس يدخن سيجارته وهو يأمر المرأة بأن تجمع حاجياتها وصاح علي ضابطه مع إشارة لها معني. صاحت المرأة: - ربنا يطول في عمرك. ودخل السائق عربته وأدار محركها وركبت المرأة في صمت. وتحركت العربة بينما الضابط يودعنا قائلا: في انتظاركم بعد نص الليل ياغربان الليل. ضغط السائق علي شريط الكاسيت لنسمع جديد: وازاي دا جري ما عرفشي والجمهور وراءها يردد »ماعرفشي« بينما الركاب قد لاذوا بالصمت.. كان المتنفس الوحيد هو السيجارة.. يومها أيضاً لاذ جميع المعتقلين بصمتهم ووجومهم. كانوا خلاصة المثقفين.. اشتركيين وإسلاميين ورافضين.. منهم من كان فوق السطح.. ومنهم المجهول من قاع المدينة.. ألجمتهم الصدمة ولم تعد تعرف هل هو الأدب والحياء.. أم الانكسار . المنطق المفقود.. أم الوعي المقهور؟ - اخرجونا يومها من الزنزانات وأوقفونا طابورا واحدا داخل العنبر.. كان المطلوب ووفقا للتعليمات ان ننطلق.. معتقلا إثر معتقل .. ما بين باب العنبر وبوابة المعتقل.. نجري ونسابق الريح.. وإلا فهراوات الجنود الواقفين في صف واحد وعلي مسافات متقاربة ستكون في انتظارنا . لتشج رؤوسنا! وفي نهاية السباق، لا أدري، كيف طرحت أرضا وابتعدت نظارتي وكيف انقض علي ذئاب لم أرهم.. لم اسمعهم.. لكنني أحسست بهم يرفعونني ثم يطرحونني أرضا.. يركلون ويضربون ويمزقون ثيابا و.. فجأة وبعد ثوان.. كنت أقف يا مولاي كما خلقتني.. كما آدم مطروداً من الجنة لا يستره شيء إلا من ورق شجر يخصف به علي عورته أما أنا فقد أدركت حياء آدميتي فحاولت أن أداري عورتي بكلتا يدي.. وكنت شبه غائب عن الوعي عندما تناهي إلي أذني صوت خشن غليظ يقول: ما اسمك ياكلب؟ وإذ أدركت آدميتي وقد أمتزجت بفصيلتي الحيوانية الجديدة نحيت يدي بعيدا عن عورتي جانبا.. ووقفت شامخاً لأجيب في هدوء وتحد: كمال أبوزيد.. بعدها سقطت كف غليظة علي قفاي.. بينما الصوت الغليظ يقول: أرفع صوتك يامره ونظقت اسمي من جديد.. وجاء صوت من مقدمة الجالسين يقول في صوت ناعم أشبه بصوت النساء: فريد الولد صوته عالي.. أنا عايزه يقول أنا امرأة.. شوف أشبه بصوت النساء: فريد الولد صوته عالي.. أنا عايزة يقول أنا امرأة شوف شغلك يافريد.. وبدأ السوط يعلم فوق ظهري.. بينما رأسي وذراعاي متدليان من العروسة الخشبية! أيقظني صوت السائق مناديا علي محطة وصولي.. سألته بينما أمد له يدي بالأجرة: - هو الضابط ضربك ليه مادامت رخصك سليمة؟ وانطلق السائق بعربته في عصبية غاضبا: - ياعم خليها علي الله!! قطع سؤالي وابتلعه صوت احتكاك إطارات العربة في سكون الليل.. تذكرت ما تيبس داخلي.. وانسابت دمعة خلف نظارتي! ما تزال الخطوط الداكنة مرسومة علي ظهري. كخطوط الوشم.. تذكرني بوقائع ماجري. طرقت باب شقتي وايقظني صياح أحفادي وهم يعلنون وصولي!!.