كانت قرىة القرنة تشعره أنها معزولة عن كل المرتفعات من حولها الحياة ليست سخية. لم تمنحني دقيقة واحدة لأسأل جمال الغيطاني: لماذا تمنيت أن تبقي في البر الغربي إلي الأبد؟ أرغبة في الرحيل، أم البقاء. أقول لنفسي: مثله يستحق أن يُخلد. من يعرف الأماكن للحد الذي تجعله يتنفس بدلاً منها، لابد أن تعرفه وتتنفسه أيضاً. تركت للبر مهمة ذلك. مهمة أن يكشف لي السر. من الشرق، استقللت مركبا، كانت الشمس ترقد علي حافة الجبل في نضوج تام. ربع ساعة هي الفاصل الزمني بين الحياة والموت، بين الأخضر والأصفر كما كان يصف العبور. اصطحبت معي رواية (رن) لترشدني إلي خطواته. في الخامسة عشر من عمره زار الغيطاني الأقصر للمرة الأولي، برفقة فريق الكشافة، وكانت علاقته بالغرب سطحية. يقول: "حينها لم تعن لي التفاصيل شيئاً إلي أن طالعت وعرفت ولزمت، بعد أن قرأت وتأنيت، بعد أن استوعبت، بعد أن ابتعدت واقتربت، بعد أن حللت المكان صرت أري ما لم يقع عليه بصره أثناء سعيه". تنبهت علي غفلة إلي صوت صاحب المركب، وهو يردد: "حمد الله علي السلامة". أدير ظهري إلي الجنة متجهة صوب قرية القرنة، التي كانت تذكره بقريته التي وُلد فيها بمحافظة سوهاج؛ "هنا أوجد في جهينة ولا أوجد، ثمة تشابه في العناصر، غير أني في مسقط رأسي لا أنفرد بذاتي لمجاملات الأهل وكرمهم وإصرارهم علي الحوطة". صرت أبحث عن الفندق الذي كان يقيم فيه كلما أتي إلي البر الغربي. المعلومة التي أملكها أن اسمه فندق عبد الرسول، نسبة إلي صاحبه. توقفت السيارة أمام القرنة القديمة، المنحوتة في الجبل، والتي كانت تشعره أنها معزولة عن كل المرتفعات من حولها؛ "ليس لأن من يعيشون هنا يجسدون ملامح الآلهة، إنما لمعرفتهم بالمسالك والدروب المؤدية إلي مراقد الأبدية لأبناء الآلهة وخدمهم وأتباعهم". بجوار لافتة تشير إلي طريق معبد مرنبتاح الجنائزي، كان الفندق، نوافذه وأبوابه مطلية بالأزرق. جدرانه من الداخل زُينت برسومات شعبية، تعبر أكثرها عن ثقافة أهل الجنوب في الفرح، والحزن. يعكف صاحبه سيد عبد الرسول هذه الأيام علي تجديده، مطلقاً عليه اسم (المرسم). أخبرته أنني هنا لأجل الغيطاني. ابتسم الرجل، وقال بعبارات متقطعة: "آه يا بنتي.. الأستاذ جمال كان بيحب البر الغربي. الكل يعرفه. فكان يطوف الأماكن ويتحدث إلينا. للأمانة لم يكن ينزل لدي. وكم تمنيت أن يقضي في فندقي ليلة واحدة". لوهلة كاد الإحباط أن يحتل قلبي، لكن سرعان ما أعلن عبد الرسول عن اسم الفندق الأحب إلي الغيطاني، وهو (نور القرنة). فضلت أن أسير إليه منتهزة فرصة تأمل الأبدية. مررت أمام وادي الملوك، الذي يضم 63 مقبرة متفاوتة الأحجام. لم يكن يلفت انتباهي من قبل شكل تكوينه. إلي الرواية أعود لأجد وصفاً مغايراً: "ما من مرة قصدت الوادي الذي يرقد فيه الملوك إلا ورأيت المكان المنفرج كفخذي امرأة، متأهبة للجماع، للتلقي، أما ذروة الجبل فتحيل إلي الشكل الهرمي، وإلي بطولة النهد المشرع بحلمته الحاضنة. علي الجانبين حضرت مراقد الأبدية، منازل ملايين السنين، كل حفر في الأرض إيلاج.. كل ثقب للقشرة الصلبة نكاح، لذلك جاءت غرف المأوي علي هيئة الرحم. من الأنثي نبدأ، وإليها نسعي، ثم نعود". لم يكن الوادي وحده الذي يعطيه هذا الانطباع، معبد حتشبسوت أيضاَ، الذي تطغي أنوثته علي البر كله، ربما لاستلقائه علي الجبل، وتأهبه الدائم لولوج القادمين. وعلي عكس ما خمنت، كان الوجود، لا الموت، وراء تعلقه بالبر. فكلما أحاطه تكوين المعبد، اجتاحته هزة غامضة، رعشة ليست مصدرها الجسد، ربما سببها توحده بالدير البحري. يصف ذلك قائلاً: "لم أعرف الكثير عنه في زيارتي الأولي، غير أن الرسالة وصلتني، ولم تكن أعوامي التالية إلا أزمنة لفضها، ومحاولة فهم مضمونها.. إيماءاتها.. وما تُنبئ به، دائماً أدرك الأمر في مجمله، وأمضي ما أتيح لي من مدة محاولاً الفض والرأفة، أعرف أنني سأمضي، وكثير مما يحيرني مُستغلق، مبهم علي، لكنني لا أكف عن المحاولة". عند الحافة، آخر حد الخضرة وأول الصفرة، يقبع فندق (نور القرنة) الذي يكشف الأفق بأكمله. استقبلني صاحبه محمود القط بوجه جاف لا يعبر عن الاحتفاء الصادر من نبرة صوته. تذكرت وقتها كلام الغيطاني عنه: "يبدو بقامته وعينيه كأنه قُد من حجر لم يُعرف بعد، ولا تصنيف له، لا هو ديوريت ولا صوان ولا جرانيت، لونه مخالف، أما عيناه فلا تتطلعان إلي الأمام، إلي الموجود الحالي، بل إلي توقيت انقضي وصار مطوياً إلا أنه قادراً علي استبصاره". جلسنا في ساحة الفندق. تصميمه بسيط من الطوب اللبن، ويتكون من طابقين. لذلك كان الغيطاني يسميه البيت أو الدار. ألفة غريبة تحيط بي. الأشجار تميل بخفة. أحفاد عم محمود يلعبون علي مسافة أمتار قليلة دون صخب. الكلاب الصغيرة تحك رأسها في ساقي كنوع من الترحيب. الطاولات متراصة في تأهب لمجيء أي ضيف. يشير صاحب البيت إلي واحدة منهم، قائلاً: "كان يجلس علي هذه الطاولة تحديداً، يقضي ساعات محدقاً في البر الغربي، ثم يُدون دفاتره بصمت شديد". في المقابل كان الغيطاني يستقبل صمتهم. يحكي أنه كلما مزح مع أحدهم لم يكن يري سوي ابتسامة؛ "أحياناً أُقابل هنا بصمت من نوع خاص، صمت لا أعرفه من أي بشر آخرين، لا ينفع معه جدال أو إلحاح أو تكرار". يستعيد عم محمود اليوم الذي تعرف فيه عليه، تقريباً في عام 1997، فكان الغيطاني دائم التردد علي ساحة الشيخ أحمد الطيب - الذي رشح له البيت - حيث يقضي معه أكثر الوقت، يحاوره.. ويسمع منه.. ويستجيب لنصائحه، حتي تعمقت المودة بينهما، وصارا يلتقيان في القاهرة ومدن أخري، فلا يصلي إلا وراءه. استعدت أنا أيضا الرواية، باب الساحة، يقول الغيطاني عن الطيب: "منزلتي منه التابع.. وهو عندي الإمام المتبوع". طقوس عدة يمارسها كلما نزل البيت. يضيف عم محمود: "لم يكن يقيم في أي غرفة، كانت له واحدة مخصصة، الغرفة رقم 6، واسمها عايدة. كما كان يستقل سيارة ابن عمي، ليذهب بها إلي أي مكان. يتعامل بفطرته. يستيقظ في السابعة صباحاً ويتناول أخف الوجبات. يزورنا في العام مرة، أو مرتين، حسب اشتياقه للبر. ويصطحب معه دائما عدد من الكتب.. في زيارته الأخيرة وعدني أنه سيُشيد لي مكتبة في الفندق، لكن غيبته طَولت". شرد صاحب البيت لعدة دقائق. فلم يكن الغيطاني بالنسبة له مجرد ضيف، بل فرد من عائلته، يطلع علي أسرارهم، ويتسامر معهم في الليل. بالصدفة كانت زوجة عم محمود - الحاجة زينب طايع - ترقد أمام بيتهم المجاور للفندق، والذي يكاد لا ينفصلان عن بعضهما. حين تفوهت باسم الأستاذ، هللت: "أهلا برائحة الحبايب". لا مكان للغربة هنا. سبب آخر وراء تعلقه بالبر؛ رغبته في العودة إلي الماضي، الحنين إلي طفولته، فكان يشعر أنه في بيت جده، ووسط ناسه. تحكي الحاجة زينب: "كان شيخ عرب، يجلس معنا كل عشية علي هذه الدكة، ليطمئن علي أحوالنا. كنا نري الحياة من خلاله فلا شيئاً يجهله. وكان يفاجئنا من حين لآخر بطلب غريب، مثل أكلة المخروط، التي أصر عليها يوماً، فبحثنا عن إحدي الجدات اللاتي يجيدن صُنعها له". يقطع حديثها عم محمود الذي أراد أن يصطحبني إلي "عايدة". تقع في الطابق الثاني. سقفها من الخشب، ونوافذها أيضاً. تطل علي تمثالا أمنحت الثالث. بها ثلاثة أسِرَّة، ومكتب صغير. لم تكن الأوسع، لكنها تتيح له رؤية بزوغ الشمس، وصعودها المتمهل، وتقدمها في الفراغ، فكان يجلس لمتابعتها، تاركاً للأنغام حرية التصرف بجسده، فتعبره، وتتخلل مسامه. يتوحد بها فيرحل دون سفر. أقف في الشرفة، الأفق متسع علي آخره، أفتح الرواية، أستحضر الغيطاني وهو يكتب تدوينته الأخيرة في البر: "من مرقدي أري شوارع القرية، البيوت، أقسامها، مقابرهم المتناثرة علي سفح المرتفع، يعلو بعضها هريمات صغيرة.. هنا يطل الراقدون إلي الأبد علي الأحياء العابرين".