منذ مدة وكل شيء يحيط بعالم رومان يصغُر يوما بعد يوم ،شيء واحد فقط كان عصي علي هذا الانكماش اللامتناهي ،ولا يبرح يزداد حجمه: سريره. يوم آخر في حياة رومان وكان الوقت ليلا. يسير إلي حجرته في ممر لم يكن يبدو له أبدا طويل جدًا ،يطفيء النور وفي الظلام يتوقف أمام باب لم يكن يرغب في فتحه في الواقع. ترشد العادة وليست الرغبة يده العجوز لدفع المزلاج برفق لأسفل بشكل يسمح للظلمات الثلاث - ظلمة الممر والغرفة والظلمة المختبئة في جسده- أن تتحد في سحابة من الحزن. يسير رومان مغمض العينين علي الموكيت تاركا الباب مفتوحا، لعلمه أن لا أحد سوف يدخل. بخطوات بسيطة يصل إلي سريره ،بل إن شئت الجزء الذي يخصه في سريره ،وهو الجزء الأقرب للباب. يجلس في صمت علي مرتبة تتحرك مع أقل ضغط، ناظرا إلي الممر. يبدأ في خلع صذائه مستخدما قدميه، حيث لا يستطيع فعل ذلك بيديه. تتعاون القدمان في خلع . هما نفس القدمان اللتان تعلقان الحناء بشكل مرتب بجانب بعضهما البعض. اليسري واليمني من اليسار الي اليمين. لا يجرؤ علي إخفائهما تحت السرير، وبالتالي يتركهما قرب ناظريه كي يتمكن من مراقبتهما ،إذ أنه يعرف أن لديهما القدرة أيضا علي الهروب وتركه وحيدا. في صمت وبطء، يدنو رومان أفقيا ،ناظرا إلي الباب من حافة السرير التي تمثل أيضا حافة هاويته، حتي يصبح خارجها معلقًا في الهواء تقريبا. يخبيء يده اليسري تحت المخدة ويترك يده اليمني بأصابعها معلقة في اتصال مستمر بالأرض كي لا ينفصل طويلا عن الواقع. سيظل بهذا الوضع تقريبا طيلة الليل كله، بدون أن يتحرك تقريبا أو أن تصدر عنه أصوات. لن تواتيه الشجاعة الكافيه ليحرك رأسه لعلمه أنه لن يجد ما يبحث عنه. مساء الخير- يهمس . إنها ليلة شتوية باردة. لكن رومان غير قادر علي أن يتغطي ،لأنه يعرف أن هناك تحت الملاءات في تلك الزاوية التي لا نستكشفها عندما ننام، يمكن ألا يجد تلك الأرجل ،تلك الأرجل الصغيرة والعجوز تماما مثل أرجله ،تلك التي ظل يداعبها طيلة سنوات عديدة. ولهذا يفضل أن ينام بدون غطاء لأنه يحتمل البرد علي احتمال الحقيقة. تمر الدقائق والساعات وتتعاقب الأصوات والظلال والذكريات والشكوك ،ويظل رومان مستيقظاً بنفس الوضعية ،قادرا علي تمييز جنبات الغرفة التي يمكث بها بمفرده طيلة أيام عديدة بفضل ذلك الضوء الذي لا يعرف من أين يأتي، ولكنه كان قادرا علي التخفيف من وطأة أحلك الظلمات. وينتظر. يظل هكذا ،متأملا الليل وهو يتنفس راسماً بأصابعه أفكارا مستحيلة علي الأرض ،مبللا الوسادة التي مؤخرا لم تجف تقريبا أبدا. وينتظر. عندما تهدأ الأصوات بالغرفة ،يبدأ في التفكير بأنها تمكنت من النوم. عندما يصبح ألم العيون أشد من ألم الذكريات ،يعيد محاولة أكثر شيء يخيفه كل ليلة: تلمس الأمل. يحرك يده برفق ويضعها علي صدره، اليد التي كانت تكتب لتوها خطابات علي الموكيت. يتحرك ببطء وهو مغمض العينين كي يثبت صورته علي السقف حيث يعلم ان رأسه لن تجرؤ علي التطلع لأعلي. وينتظر. ويستمع إلي: لاشيء. وينتظر. ويتنفس في الوقت الذي يتمني فيه ألا يتمكن من التنفس. وينتظر. تمر بضع دقائق أخري، ليس لديه مشكلة في الوقت. من بين الخوف والخجل يبدأ في مد ذراعه بحثا عن الحقيقة، بل بحثا في واقع الأمر عن الوهم ،بحثاً عن ذلك الجزء من حياته الذي اختفي منذ أسابيع معدودة: بحثا عنها. يسحب ذراعه التي تتحول إلي حية تزحف في هدوء، بدون سم وبدون حياة علي الملاءات. ذراعا بأصابع منكمشة تطارد حاضرا لن يتحول أبدا لمستقبل. تصل يده كل ليلة الي مكان أبعد ،لكن بشكل لا يسمح لها بالوصول إلي الضفة الأخري من سرير يبدو كالمحيط في إتساعه. فقط ما يسمح له بالنوم علي الأقل لبضع ساعات، معتقدا أنها مستمرة هناك بجانبه. بعد أن وصل للحد الفاصل ،وبعد أن لم يجد شيئًا يشعر رومان بالخوف وتنكمش يده وجسمه وقلبه، فقط قبل أن يلمس الهوة الأخري في الناحية المقابلة. يعود مجددا إلي زاويته في الطرف المقابل، منكمشا حول نفسه مهزوما ،بدون هدف في حقيقة الأمر. ربما يظن رومان بأن السرير يتمدد. يأخذ من فكرة أن السرير يتمدد ليلا حجة لاستحالة غيابها عن نفس المكان دوما: بجانبه. سيعاود الكرة غدا، ولكنه لن يجد شيئاً ،لأن ما لا يعلمه رومان أن السرير يتمدد كلما ازداد إيقاع بحثه. هكذا تمر الليالي علي رومان، الذي يستيقظ متأخرًا في اليوم التالي بشكل يسمح بأن تكون قد غادرت المنزل للشراء. سيستغل لحظة وجوده بمفرده للاستيقاظ ويقوم بترتيب السرير المرتب أصلا، بدون التفكير كثيرا في طول المدة التي قضاها نائما. لن يفتح النافذة لأنه يفضّل أن يظل هذا الجزء من الغرفة مظلما. سيرتدي نفس الملابس، مثل كل يوم، وسيزيل آثار الحزن التي استقرت في تجاعيد وجهه ،ويخرج لشرب القهوة التي يشربها يوميا بنفس البار وبنفس الرغبة. سيتجول طيلة الصباح في شوارع الحي المحفورة في ذاكرته ،محاولا تفادي أسئلة بدون إجابات ،محاولا جعل الوقت، في الواقع حياته، يمر بأسرع شكل ممكن. سيحاول أن يحيا كما اعتاد حتي هذه اللحظة ،وأن يفعل ما اعتاد فعله دائما ،لعل هذا الروتين يكون قادرا علي قبر هذه الحقيقة التي لن يسلم بها أبدا. سيتوجه إلي الحديقة وسيقرأ جريدة وهو جالس علي مقعد ،بينما يراقب ذهاب ومجيء الغرباء والحمام الذي يطير دون أن يحمل رسائل وانهمار الذكريات علي وجنتيه كالمطر. سيجعل الوقت يمر بشكل يكفي أن يبدأ طريق العودة بالضبط قبل أن تعود هي من السوق. سيعود من نفس الشوارع التي هرب منها من قبل، ولكن في هذه المرة من الناحية المقابلة. سيصل إلي عتبة تبتعد أكثر في كل مرة ،وسيصعد علي قدميه لأن من عادتها النزول في المصعد ،وسيدخل المنزل الذي سيجده كما تركه: مهجورا. سيترك الجريدة علي كومة الجرائد الأخري فوق الأريكة، وسيدون ملحوظة فوق بقية المدونات:"سأتناول الطعام في بار أندريس ،إذا احتجت لشيء ،اتصلي بي. أحبك". سيأكل رومان بمفرده في البار الصغير عند الناصية، وبحانبه جوال لم يتصل به أبدا الطرف المرغوب. بروح مفعمة بالأمل، سوف يطلب فنجانا من القهوة ويتناوله علي مهل شديد. سيظل يراقب بقية الأشخاص وهو يحن للوقت الذي كان يتحدث فيه عن حياته بصيغة الجمع. وسينتظر قدوم أصدقاء اللعب كي يشاركوه مساءات مهدورة. وعندما يحل المساء، ويذهب كل شخص لحال سبيله ،سينظر رومان إلي ساعة فقدت جوهر وجودها لأنه ليس لديه ما يتأخر عليه. وهكذا سيبدأ طريق العودة لمنزله بمفرده. سيدخل في هدوء كي لا يوقظها أو ربما كي لا يوقظ نفسه. سوف يترك المفاتيح فوق كومة الملاحظات التي لا يقرأها أحد ،وسيلقي نظرة علي جبل الجرائد الذي تزايد جدا ،والقلب المختبيء حتي اللحظة في جيب القميص في الصالة، علي أمل أن يأخذه أحد. سوف يطفيء النور ،وفي الظلام سيتوقف أمام باب لا يرغب في فتحه في الواقع. ولكن يده العجوز مدفوعة بحكم العادة وليست الرغبة ستدفع المزلاج برفق لأسفل لتسمح للظلمات الثلاث، ظلمة الممر والغرفة والظلمة المختبئة في جسده، أن تتحد في سحابة من الحزن. سيتقدم رومان مغمض العينين علي الموكيت، تاركا الباب مفتوحا لعلمه بأن أحداً لن يدخل. بخطوات ثلاث فقط يصل للسرير ،للجزء الذي يخصه في السرير وهو الأقرب للباب. سيجلس في صمت علي مرتبة تصدر أصواتا مع أقل ضغط ،ناظرا ناحية الممر. سيبدأ في خلع حذائه مستخدماً قدميه ،لأنه لا يستطيع فعل ذلك بيديه. ستتعاون القدمان في خلع الحذاء ،ثم وضع فردتيه مرتبتين بجانب بعضهما. اليسري واليمني من اليسار إلي اليمين. لن يجرؤ علي إخفائهما تحت السرير ،وسيتركهما في المقابل قرب ناظريه كي يتمكن من مراقبتهما. وبعد أن يسدل الليل ستائره، وقبل أن يغلبه النعاس، سيعاود رومان استكشاف ذلك الجزء من السرير والذي ظل مشغولا لمدة طويلة. سيعاود المحاولة دون أن يتمكن من الوصول إلي الحافة الأخري ،لأنه في الواقع لم يكن يرغب في ذلك. كان رومان علي وعي بأنه فقط سيظل يحتمل الواقع طالما ظل قادرا علي التعايش مع هذا الوهم. ولهذا كيّف واقعه مع حياته السابقة ،تلك الوحيدة التي شعر فيها بالسعادة.،