تتواتر التقنيات ما بعد الحداثية في كتابة الشاعر المصري المبدع شريف الشافعي؛ فهو يؤكد الاختلاف في بنية العلامة، وفي مواقع الصوت المتكلم في تداعيات النص، وكذلك التعددية داخل الصوت الواحد من جهة، وتعددية تأويلات الكينونة، أو صورة الأنثي في القصيدة من جهة أخري، ويميل النص إلي المفارقات، وتفكيك المركز في الخطاب؛ إذ تتداعي العلامات التي تتصل ببنية الخطاب، ثم تفكك مركزيته في صيرورة الكتابة، وتتداخل العوالم الجزئية في النص، ويمتزج فيها السياق الواقعي بالعوالم الاستعارية المكثفة، ويهتم الشاعر بالتفاصيل، وبلاغة الأشياء الصغيرة الهامشية في المشهد، ويعانق أخيلة اليقظة التي تتصل بإنتاجية النص، والنماذج الخيالية المتعلقة بالماء، والهواء في الوعي المبدع، وقد تتنازع التأويلات المتعلقة بالصوت، والأنثي، والعناصر الكونية في مسارات النص، وفق منظور بول ريكور للتعددية، وأصالتها في علم التأويل المتعلق بالنصوص الفريدة في الأدب. تبدو التقنيات السابقة، وغيرها واضحة في ديوانه (هواء جدير بالقراءة)، وقد صدر عن دار لارماتان باللغتين العربية، والفرنسية بباريس سنة 2014، وترجمته إلي الفرنسية مني لطيف غطاس. ويجسد النص عند شريف الشافعي الجمالي الذي يعزز من ثراء الصوت، والعالم الداخلي للمتكلم؛ فقد نراه في بؤرة الحدث التمثيلي علي المسرح بينما يتخذ موقع المتفرج / الهامشي، وقد يتبادل المواقع، والفضاءات مع صورة التمثال، وعالمه الطيفي، وقد يبدو حاضرا في عالم الأنثي، أو منتجا لصورتها بينما يقترن بظهوره الفني الآخر في اللوحة، أو بتفكك أجزاء الصورة؛ وهو ما يذكرنا بتمزق أورفيوس، وغنائه، والبعد الاستعاري الفكري الذي ارتبط بتناقضات الأسطورة في فكر إيهاب حسن، وحديثه عن الصمت، والغناء في الكتابة المعاصرة. ويمكننا ملاحظة أربع تيمات فنية في الديوان؛ هي: ثراء الصوت، وتعدديته الخيالية، والتأويلات الاستعارية للذات، والعالم، وصورة الأنثي بين الأنا، والآخر، وتداعيات النص، وتعاطف وتمزق. أولا: ثراء الصوت، وتعدديته الخيالية: يؤكد صوت المتكلم نقاءه الشخصي، وحضوره المتفرد، مثلما ينطوي علي أطياف الآخر / الخيالي بداخله في الوقت نفسه؛ فالأصوات الأخري تتنازع في بنيته الداخلية، وتبدو كاستعارات في لعبة العالم اللامركزي الشعري للمتكلم؛ فهو يحاول طردها، بينما يمنحها وجودا مجازيا يشبه طيف والد هاملت، ومعاينة هوراشيو له في هاملت لشكسبير؛ فالصوت الآخر يمنح الأنا تعددية جمالية، ونوعا من التعارض، والاختلاف إزاء فكرة نقاء الهوية الشخصية في الديوان. يقول: "أيها المختبئون بداخلي اكسروا زجاج عيوني واخرجوا، أنا لست كهفا" ص11. الأطياف الأدبية تواجه طردا يسخر من مركزية فعل الخروج؛ فمدلول العالم الداخلي يوحي بوجود فضاء منتج للأطياف المجازية بشكل دائري، يثري الهوية، ويعارضها في مستوي آخر من الدلالة في الوقت نفسه، وتوحي بنية العين الزجاجية باختلاط كينونة المتكلم، أو حضوره الجسدي بالمتحف الفني الذي يشبه شخصيات الأدب، والفن بداخله. ويؤكد المدلول السابق قوله: "كان تمثالا طيبا يضحك معي في الصباح يبكي معي في الليل وحينما صرت تمثالا تصدع هو كإنسان" ص 16. يومئ الشاعر إلي التداخل الأصلي بين العمل الفني / التمثال، وتحولات الذات في الصورة؛ فالطاقة الخيالية للعمل الفني تنسج حوارية جمالية داخلية تثري مدلول الذات، بينما ينقل المتكلم حالات التشيؤ النسبية فيه إلي صورته البديلة؛ أي العمل الفني في سياق تفككه كأثر للصوت؛ فالمخيلة تنتج تأويلا للذات يجمع بين المادة، والصوت، والأثر معا. ويؤكد الشاعر حضوره الجمالي، وتجاوزه المستمر للحتميات في أخيلة الحصان، وحياته الدائرية المستدعاة من عوالم اللاوعي الفسيحة. يقول: "ليست مهنتي صناعة اللعب ولا صدري يتسع لرهان هو حصان وحيد اخترعته يمرح كي يحيا ولا تربكه عثرات الطريق"ص 18. يجسد الحصان صيرورة الطاقة الإبداعية للصوت، واستنزافها المستمر للموت، والحضور الحاسم المحدد للذات؛ فهي تفكك حدودها من خلال الرحلة الدائرية، وتجدد الصوت في سياق استعاري يشبه الكتابة؛ إذ تعيد العلامة - الصوت / الحصان / الحياة ... ، وبدائلها تشكيل نفسها في سياق البهجة، أو المرح الذي يرتبط بالوعي المبدع للمتكلم، وإنتاجيته. ثانيا: التأويلات الاستعارية للذات، والعالم: يعيد الشاعر تشكيل الوعي بصورته الذاتية، أو بالعناصر الكونية انطلاقا من التداخل ما بعد الحداثي بين الفن، ومواقف الحياة اليومية، وما تحمله من دلالات الاختلاف، والتجزؤ النسبي، والتعقيد، ووفرة الاحتمالات؛ فالهواء يمتزج بالعمل الفني، وعواصف الأخيلة في النص، والذات تتخذ موقعي الممثل المحتمل، والمتلقي في المسرح، وتتضاعف أطياف الصوت الأدبية في بنية الماء، وتناقضاته. وبصدد أصالة التعدد في الظاهرة التأويلية، يري بول ريكور أنه يمكن قراءة أوديب لسوفوكليس وفق إشكاليتين؛ الأولي تتعلق بتوفيق يرضي الهو، وعقوبة الأنا الأعلي التي ارتبطت منذ البداية بلعنة الرجل المدنس؛ وذلك طبقا لمقولات التحليل النفسي، والأخري تشير إلي مسار تأويلي يتعلق بسلطة الحقيقة، والألم المتعلق بها، وبمشكلة النور لا الجنس. (راجع، ريكور، صراع التأويلات، ترجمة: د. منذر عياشي، دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت مع سوي بباريس سنة 2005، من ص 154: 156). إن أصالة التعدد التأويلي عند ريكور تنسحب علي حقول من المعرفة، والنصوص الأدبية، وتوحي بجماليات تداخل المسارات التأويلية، وتعارضها المحتمل الذي يؤكد ثراء الدلالة، وتواتر الاختلاف فيما يتعلق بإدراك الوعي للظواهر. ونلاحظ ذلك الاختلاف التأويلي في الدلالة في إعادة تمثيل الصوت عند شريف الشافعي ذ ي المسرح. يقول: "وبعد رفع الستار صفق الممثلون لي وأنا علي مقعد المتفرج ولم أصفق لأحد منهم كانوا يمثلون بتكلف"ص 21. ثمة إشكالية تتعلق برغبة غير واعية في أن يكون المتكلم هو الممثل، أو البطل الأسطوري الحلمي الذي يفكك مركزية المسرح في السياق الواقعي، وإشكالية تأويلية أخري تتعلق بحدة وعي المتكلم بالواقع، وبأداء الممثلين عقب رفع الستار؛ وهذه الإشكالية تعمق الكشف، بينما تميل الأولي نحو دلالة الغياب في حلم البطل داخل السياق الفني. ويمزج شريف الشافعي بين أخيلة كل من الماء، والهواء، والمتكلم في لحظة الكتابة، وتعاليها الإبداعي. يقول: "علي حافة البئر، أستمع لندائي العميق وحين تخطر لي فكرة النزول، تخطفني سماء إلي أعلي وتصير الفكرة سحابة هشة"ص 25. يذكرنا الشاعر بطيف نرسيس في الأسطورة الإغريقية، ولكنه يبعثه في النص مفككا؛ إذ يمثل تضاعف الصوت في الكتابة كبديل عن غيابه الأول في المياه، كما يذكرنا بثراء دلالة الماء، وارتباطها بالحياة الممزوجة بالسكون عند غاستون باشلار؛ أما الهواء فيجسد عاصفة الكتابة، والتحولات الجمالية للهوية، وعلاقات التعارض، والتداخل التي تجمعه بالنص المحتمل، أو التكوين الفني المختلط بحالة الوجود الإبداعي. ويبلغ تجسد الهواء الاستعاري ذروته في قوله: "فقط في طبعته الأولي الهواء جدير بالقراءة"ص 77. الهواء كينونة تأويلية خيالية متحولة من مستوي الدلالة الكونية، إلي الإشارة إلي النص المكتوب، أو العكس؛ فقد تستنزف الشخصيات الأدبية الورقية حدودها، وتثري صوت المتكلم، أو تتجسد طاقة الهواء، وعواصفه في تحولات الكتابة المجازية. ثالثا: صورة الأنثي بين الأنا، والآخر، وتداعيات النص: تشير الأنثي في مشروع شريف الشافعي الشعري ذ ي الكتابة. تتنوع صورة الأنثي بين الذات، والآخر، والنص في قوله: "ومن عذوبة كلامي فيك أبتلعه ولا أقوله"ص44. يختلط الكلام الطيفي بالمادة، ويشير إلي ذوبان صورة الأنثي في الأنا، وأصالتها الداخلية من جهة، بينما يجسد الضمير المخاطب آخرية الأنثي في المشهد من جهة أخري؛ أما فعل الابتلاع الاستعاري فيشير إلي الأنثي في تداعيات النص، وفي اكتسابها حضورا مجازيا في فعل الكتابة. رابعا: تعاطف، وتمزق: التعاطف بين الصوت، وتمثيلاته الخيالية متواتر عند شريف الشافعي، ويذكرنا بحالة النيرفانا، وتأملاتها الممزوجة بنوع من اللذة الممزوجة بصخب الأخيلة؛ فقد يجتمع نقاء الصوت، أو غناؤه الخاص بتمزق مجازي يشير إلي دائرية التجاوز الداخلي في بنية الصوت، وبحثه المستمر عن التناغم الفني. يقول: "كثيرون يقضون أوقاتا طيبة وهم يدخنون التبغ أما أنا، فأجمل ساعة تلك التي أقضيها بلا رأس، وبلا دخان"ص 53. الصوت يتجاوز صخب الآخر، الآخرين، الأطياف الأدبية، كما يتجاوز الهوية المحدودة باتجاه التناغم، والغياب في مدلول الكتابة المرح.