للأديب الراحل المبدع فؤاد قنديل خصوصية إبداعية فريدة في القص؛ فالأماكن والشخصيات، والأحداث اليومية تتسم لديه بشاعرية خاصة، وتحمل بداخلها طاقة تأويلية، تؤكد ثراء دلالاتها في عوالم المتلقي، وعبر مشروعه القصصي المتفرد، نلمح التأكيد المستمر علي حضور الأنا / المتكلم المختلف، وهويته الذاتية، والجمالية، وحالات الأداء التي تعزز من صوته، وتأملاته إزاء العالم، والأشياء، والمواقف اليومية، والتفاصيل الصغيرة، ويزدوج السرد القصصي عنده بالتشكيل، والفانتازيا أحيانا؛ كي يكشف عن الجوانب التمثيلية التي تثري الشخصية من جهة، ويجمع بين السياق الواقعي، وتأويلاته الكامنة في التاريخ الثقافي، والفني من جهة أخري، وتوحي بعض النصوص بالسخرية من الأبنية الفنية، والفكرية المستقرة في النص، كما يعزز النص القصصي عنده من تعددية القوي، والأصوات المتنوعة، وكذلك التجريب في المنظور، ومواقع الرؤية لدي الراوي، والشخصيات. وتبدو مثل هذه التقنيات، والتيمات الفنية واضحة في مجموعة فؤاد قنديل القصصية "الغندورة"؛ وقد صدرت ضمن الأعمال الكاملة في القصة القصيرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2002. يستبطن السارد الوعي الداخلي للبطلة / الأنثي في قصة "بنت بنوت"؛ فيبرز أخيلتها المتعلقة بالآخر، وصورته التي ارتبطت لديها بالاستقرار، والتحول الاجتماعي، ثم التقاطها للتفاصيل الأنثوية الصغيرة؛ مثل المرآة، والحذاء، والباروكة الشقراء؛ ولهذه التفاصيل دور في تشكيل هوية الشخصية الفردية في النص، وإرادتها، وصوتها المختلف إزاء الآخر، ثم يرصد السارد المفارقة بين رغبة الآخر / أنيس في الاستغلال والمتعة حين دعاها لزيارة والدته، وحلمها بالتحقق الذاتي في المستقبل، والصراع بين المنطقين، ثم قدرتها علي تجاوز الموقف، واستعادة حضورها الذاتي بصورة دائرية. إن تغير صور البطلة في علامة المرآة، يستنزف ثبات موقعها الاجتماعي، ويؤكد ثراء هويتها الإبداعية؛ أما تأملاتها للوحة المواجهة بين المصارع، والثور في فيلا أنيس، تعيد تشكيل الصراع بين الغناء، والوحشية في المشهد السردي، وفي السياق اليومي الواقعي، واختلاط الأدوار التمثيلية في اللوحة بحالة صراعها مع أنيس، ورؤيته الأحادية إزاء الجسد؛ وكأن البزوغ الفني الجمالي للجسد، يتجدد فيما وراء النهايات الحاسمة للصراع؛ فالدور التمثيلي المضاف لصوت الشخصية في النص، يمنحها نوعا من الدائرية التي تتجاوز مركزية التجسد. إن التأويلات الكامنة للوحات الفنية متواتر في قصص فؤاد قنديل، ويعزز من إثراء التشكيل للمشهد القصصي، أو الكشف عن سردية العمل التشكيلي نفسه حين يرويه السارد، أو تتأمله الشخصية. ويمزج السارد / البطل بين أشياء الحياة اليومية، وعلاماتها، والتأملات الفلسفية، والتصويرية في قصة "صاحب المقام الرفيع"؛ فالشيء/ الختم يبدو مفتتحا لتساؤلات فلسفية عن الموت، والحياة؛ فشهادتي الموت، والولادة تتطلبانه، ولا قيمة لأوراق الميراث الخاصة بالبطل دونه، وللختم صورة داخلية مهيبة، وضخمة في وعي البطل، وتصاحبه إيماءات إبداعية متناقضة تقع بين شاعرية الروائح، والمشاهد المرتبطة به، والسخرية من تجليه كشيخ له مقام افتراضي؛ فالنص يومئ إلي تلك العلاقة الملتبسة بين الشيء، وصورته الخيالية الحية في الوعي، واللاوعي. ويصف السارد صعود البطل، وهبوطه عقب الحصول علي الختم في صورة تشبه السيمفونية، أو الرؤية السردية التشكيلية حين يرفع البطل يده الممسكة بالأوراق المختومة إلي أعلي بينما يعاين تجربة السقوط من علي الدرج؛ وكأنه مازال منتصرا في لحظة استعارية تشبه الولادة الجديدة. لقد جسد ذلك الصعود الحياة الحلمية للأوراق؛ وكأن الأنا المفكر توحد بصورة الختم الضخمة بوصفها بداية لحياة أخري تستعصي علي حدث السقوط الطارئ. ويقدم نص فؤاد قنديل رؤي تجريبية تتعلق بالمنظور، وموقع الأنا المتكلم بين أحلام العناصر الكونية، ونماذجها الخيالية، والآلية الأدائية في الحياة اليومية في قصة "أشواق زائر الفجر"؛ فالسارد يتصور الجبل كبطل أسطوري، ثم يذوب في تشبيهاته الفنية التي تختلط بالأصل كما هو في تصور بودريار حول التشبيهات، والمحاكاة؛ فيختلط منظور البطل بضخامة الجبل الجسدية الحية، وبأطياف جليفر، والطوطم البدائي القديم، ويتمني أن يصير الإنسان بهذه الصورة التي تقاوم وجوده في السفح. ويقوم البطل برقصة لا مثيل لها عند القمة، ثم يحاول حفر اسمه؛ وكأن الصعود صار مجردا، وكونيا حين اتسع المنظور، واستعاد حالة الامتلاك للعالم الفسيح في اللاوعي، وتعانق الاسم المجسد للهوية، والتاريخ، بالعالم الخالد الأبدي في لحظة استثنائية تقع في حالة من المفارقة مع عنف السيول، وهجوم الماء علي الأشياء الصغيرة، وتهديده للمعسكر الذي يعمل فيه البطل، ثم يبدو الكون بعد ذلك - في حالة من البكارة، والتجدد. إن الصراع بين الحتميات، والجمال بداخل البطل ارتبط بذلك اللقاء المتناقض بين الوعي، وتأملاته، والصور المختلفة للنماذج الطبيعية، وحالاتها الشاعرية المتنوعة، ونغماتها الداخلية الفنية في الشخصية. وتتجلي المحاكاة الساخرة إزاء آلية الحياة اليومية عبر تداخلها ما بعد الحداثي مع الفن، والشعور الداخلي بالتناغم، والجمال في قصة "صغيرة علي الرسم"؛ فالصورة في النص تفكك المنطق الوظيفي للعلامة / الورقة الرسمية التي أجهد البطل نفسه في إتمامها، ثم رسمت ابنته عليها وردة متفتحة بلا شوك، وبداخلها قلب، ولها يدان ضارعتان، وقد أصر أن يقدمها لرئيسه في العمل بهذه الصورة التي تجسد الاختلاف البنائي، والتداخل المستمر بين إيقاع الفن، وتاريخه، ونماذجه الكامنة في الوعي، وإيقاع الحياة اليومية، والوظيفية؛ فثمة تناغم مؤجل بين الحتمية، والفن، وحالة من التداخل الأصلي بينهما أيضا. وتتنوع قوي النص السردي، وأصواته، والمستويات الواقعية، والحلمية فيه في نوع من الحوارية التي تذكرنا بحديث باختين عن التعددية في بنية النص الروائي في قصة "عيون الشيخ"؛ فتتباين مواقع الرؤية، وزوايا النظر بين الشاب الذي يرغب في العمل، وبناء الحضارة بينما يعاني من تأجيل التحقق، وسيادة الصراعات، والجدب، والشيخ الذي يجمع بين إقرار الوقائع، والأزمات، والانحياز للأداء والعمل الذي يوحي بالتحول نحو التناغم الجمالي، والتقدم، ويتحول المشهد القصصي باتجاه نموذج الربيع، وأخيلته في الوعي، واللاوعي، وقد استبدلت الصحراء؛ وكأن حالة التناغم الكوني تؤكد فاعلية الضمير الشخصي، وتحققه الحضاري بين الحلم، والواقع في تعددية جمالية تثري دلالة الاختلاف. ويتابع السارد / البطل حركة الورقة الانسيابية الجمالية في قصة "الغندورة"؛ إذ تمارس رقصة توحي بتداخل القوي الكونية، والإرادة المتخيلة للورقة، ثم تسقط في الماء، وتتألق سطورها، ورسومها. الكتابة المصحوبة بالتصوير هنا تطمح لتحقق آخر، وتستنزف تجسد الورقة في رقصتها الجمالية الهوائية التي توشك أن تشكل حياة استعارية جديدة للسطور، والرسوم؛ وكأن عالم الورقة الافتراضي، والفكري هو الممثل لأصالتها الفنية، ورقصتها الأولي.