هناك فكرة تربط بين الاهتمام بالقراءة وبين طبيعة النظام السياسي. وتقول إنه حيث تزدهر الحريات ترتفع معدلات القراءة. ففي المجتمعات الديمقراطية يعتبر المواطن نفسه شخصاً فاعلاً في الحياة العامة. لذلك يهتم، ولو قليلاً، بالانتاج الثقافي والسياسي. وعليه، كانت معدلات القراءة في الحقبة التي ازدهرت فيها الأيديولوجيات السياسية في العالم العربي بين الفئات المتعلّمة، أكبر بكثير مما هي اليوم. أما الآن، ولأن معظم المواطنين يسلّمون مصائرهم للقدر ويشعرون بعدم جدوي انخراطهم في الشأن العام، فإن الاهتمام بالقراءة تراجع. وبالتالي تراجع الكتاب المصري. فالكتاب المصري كان يثمر لمصر ما يفوق الذهب قيمة وقدراً .. فقد ارتقت صناعته وهي تنشد حد الكمال .. واتسعت سوقه العربية ليلتقي بقرائه من أقصي المشرق الي أقصي المغرب.. وأتاح الفرصة للثقافة المصرية كي تؤدي دورها الرائد في التأثير في الوجدان العربي بنشر التنوير والمعرفة .. وكان للازدهار الذي قاده الكتاب المصري في السنوات الأخيرة ازدهار آخر في تكنولوجيا الإخراج والطباعة إلي حد النشر الرقمي الإلكتروني.. وكان يخطو بثبات نحو التمكن والتحسن . ولم يكن يعيب الكتاب المصري شيء سوي ارتفاع ثمنه بسبب ما فرض عليه من رسوم وضرائب، أضعفت قدرته علي منافسة الكتب العربية التي تنتجها دول عربية وغير عربية لا تأخذ بمثل هذه الوسائل والأساليب المستخدمة لخنق صناعة الكتاب، بل تدعم هذه الصناعة بكل طريقة ممكنة لتجعل الكتاب يصل إلي أصدقائه وأحبابه من القراء علي مستوي الوطن العربي بأجمعه . فكيف ننادي بأن نرتقي بالفكر والثقافة في حين أن الدولة تضع العراقيل أمام نشر تلك الثقافة وذلك الفكر من خلال رفع الجمارك علي الورق وأدوات ووسائل الطباعة وعلي كل ما يمت بصلة لعملية الكتاب من مواد أولية كالأحبار والأفلام والزنكات.. ولم يكتفوا بفرض تلك الرسوم الخالية من أي منطق ، بل فرضوا أيضاً ما يسمي بضريبة المبيعات علي كل مرحلة من مراحل إنتاج الكتاب المصري وتسويقه، إلي غير ذلك من القرارات العشوائية التي تجعل أسعار الكتاب المصري مرتفعة، مما يجعل القراء المصريين يحجمون عن شرائه، وستوصد أبواب تصديره إلي جميع الأسواق العربية، وستضيع فرصة مصر في ريادتها الثقافية وأخيرا ضريبة القيمة المضافة التي سمعنا عنها مؤخرا.
لم يعد أمام الناشر سوي أن يرفع سعر الكتاب ليغطي تكلفة إنتاجه، ويظل القارئ ضحية تلك العقبات التي تتمثل في معاملة الكتاب مثل السلع والأجهزة، ألن يكفي الناشر حربه ضد مزوري الكتب وقراصنة الفكر والإبداع وهم لا رادع لهم حتي الآن بل نجد من يشجعهم ويصفق لهم علي جريمتهم. ومع كل هذه المعوقات والعراقيل التي يقابلها الناشر المصري إلا أنه مازال ينتج ثقافة وفكراً في مناخ غير مواتٍ. فلو نظرنا للمعدلات العالمية في نشر الكتاب بحسب تقارير المنظمات العالمية سنجد أننا في حالة متدنية جدا بالنسبة لمستويات النشر فسنجد بحسب تقرير اليونسكو المذكور، أن إنتاج الدول العربية 6500 كتاب عام 1991، بالمقارنة مع 102000 كتاب في أمريكا الشمالية، و42000 كتاب في أمريكا اللاتينية والكاريبي. وبحسب "تقرير التنمية الثقافية" فإن عدد كتب الثقافة العامة التي تنشر سنوياً في العالم العربي لا تتجاوز ال5000 عنوان. أما في أمريكا، علي سبيل المثال، فيصدر سنوياً، حوالي 300 ألف كتاب. هذه الأرقام غير كافية لفهم الهوّة بين العرب وباقي البلدان. فعدد النسخ المطبوعة من كل كتاب عربي هو ألف أو ألفان ويصل، في حالات نادرة، إلي3 آلاف، بينما تتجاوز نسخ الكتاب المطبوع في الغرب عادةً ال50 ألف نسخة. ونري أن كل ذلك نتيجة طبيعية لما ذكرناه في السابق عن معوقات النشر .. وينعكس بالتالي علي معدلات القراءة. فقد جاء في "تقرير التنمية الثقافية" للعام 2011 الصادر عن "مؤسسة الفكر العربي" أن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً بينما يقرأ الأوروبي بمعدّل 200 ساعة سنوياً. تتفاوت الأرقام بين دراسة وأخري بالنسبة لمعدّل القراءة في العالم العربي. في دراسة أجرتها شركة سينوفات المتعددة الجنسيات لأبحاث السوق، عام 2008، جاء أن المصريين والمغاربة يقضون أربعين دقيقة يومياً في قراءة الصحف والمجلات مقابل 35 دقيقة في تونس و34 دقيقة في السعودية و31 دقيقة في لبنان. وفي مجال قراءة الكتب، يقرأ اللبنانيون 588 دقيقة في الشهر، وفي مصر 540 دقيقة، وفي المغرب 506 دقائق، وفي السعودية 378 دقيقة. هذه الأرقام تعكس واقعاً إيجابياً أكثر من الأرقام السابقة. ينتج هذا الاختلاف من كون الأرقام الأخيرة تشمل قراءة القرآن الكريم. أما الأرقام السابقة فلا تحسب إلا قراءة الكتب الثقافية وتتغاضي عن قراءة الصحف والمجلات، والكتب الدراسية، وملفات العمل والتقارير، وكتب التسلية.
ما يقرأه الأوروبي يحتاج إلي 2800 عربي لقراءته وما يقرأه الإسرائيلي يحتاج إلي 3200 عربي لقراءته بحسب "تقرير التنمية البشرية" للعام 2003 الصادر عن اليونسكو، يقرأ المواطن العربي أقل من كتاب بكثير، فكل 80 شخصاً يقرأون كتاباً واحداً في السنة. في المقابل، يقرأ المواطن الأوروبي نحو 35 كتاباً في السنة، والمواطن الإسرائيلي 40 كتاباً. أشارت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) في بيان لها إلي أن نسبة الأمية في الدول العربية تبلغ 19.73٪، وإلي تفاوت كبير بين النساء والرجال إذ تبلغ نسبة النساء من الشريحة الأمية 60.60٪. إذا أضفنا إلي هذه المعطيات أن الملايين من العرب يعيشون تحت خط الفقر ويهتمون بتلبية حاجاتهم الأساسية لا بشراء الكتب، ستتضح بعض معالم الصورة العامة. إذا علمنا أن النشر والقراءة وجهان لعملة واحدة فنجد أنه إذا استطعنا التغلب علي المشكلات التي تواجه نشر الكتاب فسنستطيع أن نتغلب علي مشكلة القراءة حيث إن الشخص أيا كان طفلا أو كبيرا إذا قرأ لمدة ربع ساعة يوميا فسيقرأ 20 كتاباً في العام. وإذا قرء لمدة نصف ساعة في اليوم في تخصص معين لمدة 5 سنوات فإنه يصبح عالماً بهذا التخصص الذي قرأ فيه. إذا فعلينا دراسة مشكلات نشر الكتاب ووضع الحلول لها .
من هنا نجد أنفسنا أمام سؤال ملح ألا وهو : هل تحول النشر المصري لصناعة محلية من ناحية الجمهور المستهدف والكتاب المنشور لهم ؟ والاجابة (لا) ذلك لأن صناعة نشر المعرفة بشكل عام و نشر الكتاب علي وجه الخصوص صناعة دولية جمهورها المستهدف في أي مكان وزمان .. هو من تهمه المعلومة .. أو الحالة الإبداعية الموجودة في الوعاء الناقل سواء كتابا ورقيا أو غيره. وسوف أختم بمعلومة علي هامش الموضوع، وهي أن إسرائيل وحدها تنفق ستة مليارات ومائة مليون دولار علي البحث العلمي، بينما تنفق الدول العربية مجتمعة مليارا وسبعمائة مليون دولار، فلاحظ معي مدي الفرق الشاسع بين الإنفاق علي البحث العلمي في دولة واحدة مقارنة بجميع الدول العربية. إن هذا الفرق جعل إسرائيل تخرج 50,000 خبير يعملون في الصناعات المتطورة والدقيقة والتي بلغت مبيعاتها للسنوات من 2003 وحتي 2005 فقط... 8.000.000.000 ثمانية مليارات دولار! حقاَ إنه الاستثمار الحقيقي، فالدولة تدعم المثقفين والمبدعين من خلال منح التفرغ المختلفة والجوائز التقديرية والتشجيعية ولا يجد الناشر من يحفزه ويدعمه في رسالته التي تمثل الوجه الآخر لعملة الثقافة والبحث العلمي في أي وطن! مدير المكتب المصري للمطبوعات ونائب رئيس اتحاد الناشرين الأفارقة.