وزير التموين: استلام 2.4 مليون طن قمح من المزارعين حتى الآن    المقاومة تعلن استهداف 7 جنود للاحتلال من مسافة صفر بجباليا    الجنائية الدولية: نسعى لتطبيق خارطة الطريق الليبية ونركز على تعقب الهاربين    الدوري الإسباني.. موعد مباراة جيرونا ضد فياريال فى صراع الوصافة    ضبط مسجل خطر يُزور محررات رسمية بأسيوط    جلسة تصوير للجنة تحكيم المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي    وزيرة الهجرة: للمجتمع المدني دور فاعل في نجاح المبادرات القومية الكبرى    شعبة الأدوية: الشركات تتبع قوعد لاكتشاف غش الدواء وملزمة بسحبها حال الاكتشاف    «الزراعة»: مشروع مستقبل مصر تفكير خارج الصندوق لتحقيق التنمية    برلماني: مصر قادرة على الوصول ل50 مليون سائح سنويا بتوجيهات الرئيس    انعقاد برنامج البناء الثقافي للأئمة بمديرية أوقاف دمياط    وزير التعليم يفتتح الندوة الوطنية الأولى حول «مفاهيم تعليم الكبار»    الأسلحة الأمريكية لإسرائيل تثير أزمة داخل واشنطن.. والبيت الأبيض يرفض الإجبار    العراق يؤكد استمرار دعم وكالة «الأونروا» لتخفيف معاناة الفلسطينيين    نائب محافظ أسوان تتابع معدلات تنفيذ الصروح التعليمية الجديدة    سموحة يتقدم على الاتحاد السكندري في الشوط الأول    "أغلق تماما".. شوبير يكشف ردا صادما للأهلي بعد تدخل هذا الشخص في أزمة الشحات والشيبي    الشيبي يظهر في بلو كاست للرد على أزمة الشحات    تردد قناة سبيس تون للاطفال الجديد 2024 Spacetoon بجودة عالية    جامعة كفرالشيخ تتقدم 132 مركزا عالميا في التصنيف الدولي CWUR وتأتي ضمن الأفضل عالميا    مصرع شخص غرقاً فى مياه نهر النيل بأسوان    مصدر أمني: انتهاء المهلة الممنوحة للأجانب المعفيين من تراخيص الإقامة أول يوليو    هيئة الأرصاد الجوية تحذر من اضطراب الملاحة وسرعة الرياح في 3 مناطق غدا    «على قد الإيد».. أبرز الفسح والخروجات لقضاء «إجازة الويك اند»    ضاحي: منشآت التأمين الصحي قديمة وتحتاج إلي هيكلة    تعرف على القطع المميزة لشهر مايو بالمتاحف على مستوى الجمهورية | صور    بعد تصدرها التريند.. أعمال تنتظر نسرين طافش عرضها تعرف عليها    لماذا أصبح عادل إمام «نمبر 1» في الوطن العربي؟    1.6 مليون جنيه إيرادات الأفلام في السينما خلال يوم واحد    "العيد فرحة".. موعد عيد الأضحى 2024 المبارك وعدد أيام الاجازات الرسمية وفقًا لمجلس الوزراء    قبل البيرة ولا بعدها؟.. أول تعليق من علاء مبارك على تهديد يوسف زيدان بالانسحاب من "تكوين"    الحكومة: غداً.. بدء التشغيل لمحطات الجزء الثالث من الخط الثالث للمترو    يخدم 50 ألف نسمة.. كوبري قرية الحمام بأسيوط يتجاوز 60% من مراحل التنفيذ    مقبلات اليوم.. طريقة تحضير شوربة الدجاج بالمشروم    بالصور.. وزير الصحة يبحث مع "استرازنيكا" دعم مهارات الفرق الطبية وبرامج التطعيمات    طالب يضرب معلمًا بسبب الغش بالغربية.. والتعليم: إلغاء امتحانه واعتباره عام رسوب    القومي للمرأة يشارك في ورشة عمل بعنوان "القضية السكانية.. الواقع والرؤى المستقبلية"    تأجيل محاكمة المتهم بقتل زوجته بكفر الشيخ لجلسة الخميس المقبل    «الحرية ورحلة استعادة المجتمع».. رسائل عرضين بالموسم المسرحي بالفيوم    تصريحات كريم قاسم عن خوفه من الزواج تدفعه لصدارة التريند ..ما القصة؟    داعية إسلامي: يوضح ما يجب على الحاج فعله فور حصوله على التأشيرة    دعاء للميت في ذي القعدة.. تعرف على أفضل الصيغ له    رسميا مانشستر يونايتد يعلن رحيل نجم الفريق نهاية الموسم الحالي    مهرجان الإسكندرية يعلن تفاصيل المشاركة في مسابقة أفلام شباب مصر    وزير الدفاع البريطاني: لن نحاول إجبار أوكرانيا على قبول اتفاق سلام مع روسيا    «الداخلية»: ضبط 25 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء    5 شروط لتملك رؤوس الأموال في البنوك، تعرف عليها    مفتي الجمهورية يتوجه إلى البرتغال للمشاركة في منتدى كايسيد للحوار العالمى..    نموذج RIBASIM لإدارة المياه.. سويلم: خطوة مهمة لتطوير منظومة توزيع المياه -تفاصيل    أبو الغيط: العدوان على غزة وصمة عار على جبين العالم بأسره    السيد عبد الباري: من يحج لأجل الوجاهة الاجتماعية نيته فاسدة.. فيديو    أحمد الطاهرى: فلسطين هي قضية العرب الأولى وباتت تمس الأمن الإقليمي بأكمله    مصر تدين الهجوم الإرهابى بمحافظة صلاح الدين بالعراق    فى أول نزال احترافى.. وفاة الملاكم البريطانى شريف لوال    "مقصود والزمالك كان مشارك".. ميدو يوجه تحية للخطيب بعد تحركه لحماية الأهلي    رئيس جامعة القاهرة: زيادة قيمة العلاج الشهري لأعضاء هيئة التدريس والعاملين 25%    "أسنان القناة" تستقبل زيارة الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد    الإسكان: الأحد المقبل.. بدء تسليم الأراضي السكنية بمشروع 263 فدانا بمدينة حدائق أكتوبر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحوال العمال والبوابين في القاهرة الجديدة
مهمشون في قلب الثراء

تتغير أوضاع المهمشين من فترة لأخري حسب السياق الزمني والمكاني، فالمهمشون في ستينيات القرن الماضي غيرهم في سبعينياته غيرهم في الربع الأخير منه، وبالطبع غيرهم في الأربع عشر سنة المنصرمة من الألفية الثالثة. ويرتبط هذا التغير بطبيعة النظام السياسي السائد والتوجهات الأيديولوجية المصاحبة له؛ فمصر عبدالناصر غيرها مصر السادات غيرها مصر مبارك، غيرها بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. فلكل فترة أنظمتها السياسية الحاكمة التي تفرز قوي اجتماعية وسياسية معينة وبالتالي تخلق المهمشين المرتبطين بها، وفائض الممارسات الطبقية الخاص بها. وبالطبع فإن أوضاع المهمشين ترتبط بشكل الإقصاء الاجتماعي الذي تمارسه الدولة من ناحية والقوي الاجتماعية الفاعلة من ناحية أخري. فإذا انحازت الدولة للشرائح الاجتماعية المتنفذة فإنها تقصي بشكل أو بآخر الشرائح الفقيرة وتساهم بدرجة كبيرة في تهميشها وزيادة إفقارها. من هنا فإن دور الدولة والمؤسسات المرتبطة بها يلعب دورا كبيرا في الكشف عن أشكال الإقصاء الاجتماعي الممارسة، وعن سياسات التهميش التي تتم سواء بشكل واعي أو غير واعي.
ورغم الاختلافات التي تفرضها كل فترة سياسية بالنظر لأوضاع المهمشين فإن هناك أوضاعا مشتركة تجمع فيما بينهم تتمثل في:
أولا: عدم الاستقرار المادي المرتبط بوجود دخل ثابت يدعو للإحساس بالأمن والطمأنينة من غوائل الزمن ومفاجآته. فالمهمشون لا يرتبطون بوظائف ثابتة مستقرة نسبيا، بقدر ما ينخرطون في أعمال يومية غير ثابتة قد تدر عائدا لبعض الوقت لكنها لا تؤمن لهم حياتهم طوال الوقت. واللافت للنظر هنا أن هؤلاء المهمشين يستطيعون الحصول علي دخول يومية مرتفعة نسبيا، خصوصا عمال البناء والتشييد، وحتي بالنسبة لهؤلاء الذين يعملون أعمالا أخري هامشية مثل بيع الفاكهة والخضروات وتوصيل الطلبات للمنازل والبوابين وخلافه. ولكن خطورة هذا النوع من الدخل أنه غير ثابت، كما أنه يرتبط علي نحو مباشر بصحة الإنسان وقدراته علي مواصلة العمل، وعلي ما يرتبط بذلك من حظوظ صحية تتفاوت من فرد لآخر. بمعني آخر أن الهامشي قد لا يمكنه العمل علي نحو يومي ودائم ومستمر في ظل ما قد يصيبه من أمراض فجائية أو ما قد يتعرض له من غوائل الزمن ومصائبه. في مثل هذه الظروف تنقلب الدنيا رأسا علي عقب، ليس فقط لعائل الأسرة المنكوبة ولكن أيضا بالنسبة لباقي أفراد الأسرة الذين لا يجدون أية مصادر أخري تجنبهم الحاجة والفقر والعوز.
ثانيا: الشقاء اليومي والدائم الذي يرتبط بعدم الاستقرار المادي ومفاجآت الحياة؛ فالأوضاع المادية المهترئة تفضي لا محالة إلي إنهاك دائم ومستمر سواء من خلال البحث عن العمل أو من خلال العائد المحدود أو من خلال الأعباء الصحية الناجمة عنه والجهد المضني المرتبط به. وهو أمر يعيه الكثيرون من هؤلاء الهامشيين غير المستقرين في أعمالهم من خلال معرفتهم التامة بأن ما يستطيعون القيام به اليوم لن يستطيعوا الإستمرار فيه طوال حياتهم بسبب التقدم في العمر والتراجع الصحي الهائل الخاص بهم. كما أن هؤلاء الهامشيين يعيشون حياة غير مستقرة بسبب هجرتهم من مناطقهم الأصلية مثل الفيوم وسوهاج وأسيوط، إضافة إلي تنقلهم الدائم من منطقة لأخري داخل محافظات الجذب مثل القاهرة الكبري والإسكندرية. وبجانب ذلك، فهناك حالة نفسية غير مستقرة ترتبط بالخوف الدائم من الغد، والتوقع المستمر للأسوأ وغوائل الزمن المختلفة. ورغم ذلك، كما سوف نوضح لاحقا فإن هؤلاء الهامشيين تعلموا بمرور الوقت التكيف مع عمليات التنقل المستمرة، ومع ظروف العمل المجحفة، ومع تقلبات الزمن العاتية سواء من خلال مساعدات الآخرين لهم، أو من خلال مساعداتهم لبعضهم البعض، أو من خلال قدراتهم الهائلة علي الإدخار وتوفير ما يحصلون عليه.
ثالثا: عدم الإشباع الاقتصادي والاجتماعي والإنساني وهو أمر يرتبط بتراجع مستوي الدخل وعدم ضمان استقراره. وترتبط مسألة عدم الإشباع هذه بجوانب عديدة تتعلق بالحياة اليومية للهامشيين الذين يعتمدون في غذائهم علي كل ما هو رخيص ومتدني في نوعيته وقيمته الغذائية مثل الفول والطعمية وشراء اللحوم والأسماك المجمدة والخضروات والفواكه الرخيصة والفقيرة في نوعيتها. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، لكنه يرتبط بنوعية الخدمات المختلفة التي يحصلون عليها والتي ترتبط غالبا بالخدمات الحكومية المتدنية المقدمة لهم من تعليم ورعاية صحية ووسائل نقل ومواصلات. ورغم أن الجوانب الترفيهية تبدو من اللوازم الإضافية والهامة للإنسان، فإنها حق ضروري ولازم له، وهو أمر لا يتمتع به المهمشون الذي يصلون الليل بالنهار من أجل تعظيم مدخولاتهم المادية، حيث يبدو يوم الراحة بالنسبة لهم نعمة من الله وترفيها من رفاهيات الحياة عديمة الرحمة بهم وبأمثالهم.
رابعا: يرتبط بكل ما سبق، وكنتيجة طبيعية له، تردي الأوضاع السكنية بشكل كبير، ويظهر ذلك من خلال تكدسهم في مباني لا تليق بالبشر وبإنسانيتهم. غالبا ما يكون ذلك علي أطراف المدن، وضمن الكثير من العشوائيات المنتشرة في الكثير من المناطق. وتتميز مساكن هؤلاء المهمشين بالضيق الشديد والتكدس الذي يجمع أعدادا كبيرة من القاطنين ضمن حدود سكنية ضيقة ومحدودة. وحتي بالنسبة لهؤلاء الذين يستطيعون أن يبنوا منزلا في إحدي المناطق العشوائية، فإنهم لا يستطيعون سوي الحصول علي قطعة أرض صغيرة لا تتناسب مع حجم أسرهم، واحتياجاتهم الإنسانية. ولعل ذلك يفسر ذلك الضيق المتناهي للشوارع والخدمات المرتبطة بها في المناطق العشوائية، حيث يصل الأمر في الكثير من هذه المناطق إلي إمكانية الحديث بالأيدي عبر نوافذ جانبي الشارع، أو بشكل أكثر دقة الحارة أو الممر.
خامسا: الشعور الدائم بالإرتباط بكونهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتي الرابعة. وهو أمر ينعكس بلا شك علي تصوراتهم لذواتهم وتصوراتهم لغيرهم من المحيطين بهم، وبشكل خاص الأغنياء والميسورين الذين يتعاملون معهم عبر ممارسات الحياة اليومية من خلال الخدمات التي يقومون بها، ومن خلال قيامهم بأعمال الخفارة والحراسة لمنازلهم الفاخرة، إضافة إلي معيشتهم اليومية معهم من خلال مئات الآلاف من البوابين الذين يعيشون في حجرات خاصة بهم ضمن منازل وفيلات وقصور الأثرياء.
الإقصاء الاجتماعي
العلاقة بين الإقصاء الاجتماعي والتهميش علاقة متبادلة ومتفاعلة؛ من هنا يمكن القول أن عمليات الإقصاء هي في الجوهر منها عمليات تهميش لفئات وشرائح اجتماعية معينة. فكلما زادت عمليات الإقصاء والميكانيزمات والدعاوي المختلفة المرتبطة بها زادت وضعية التهميش وبالتبعية الإفقار المادي والمعنوي. والواقع أن مفهوم الإقصاء الاجتماعي مفهوم يرتبط بالعديد من المفاهيم الأخري مثل الفقر والتفاوت الاجتماعي والنوعي، كما أنه مفهوم عبر تخصصي يرتبط بالكثير من التخصصات مثل علم الاجتماع والنفس والتاريخ والسياسة والاقتصاد، ناهيك عن التنمية والجوانب العديدة المرتبطة بها.
بدأ الاهتمام بهذا المفهوم علي نحو بعيد في القارة الأوروبية من خلال ما بدأه توني بلير أواخر الألفية الثانية من خلال اهتمام حكومته بالسياسات الاجتماعية المختلفة لكافة الشرائح الاجتماعية. ويمثل المفهوم تحديا هائلا بالنسبة لعلماء الاجتماع من خلال تعدد المجالات المعرفية المختلفة المرتبطة به، إضافة إلي الصعوبات العديدة المرتبطة بضبطه منهجيا وكيفية قياسه. فإذا كان من الممكن قياس الفقر وضبط المؤشرات الخاصة به، فإن الإقصاء الاجتماعي عملية أكثر تعقيدا ترتبط بالمادي والمعنوي في الوقت نفسه، وهو ما يجعل عملية قياسه كميا مسألة بالغة الصعوبة وإن كان من الممكن فهمها ورصدها وتحليلها كيفيا.
ويعود المفهوم إلي ماكس فيبر Max Weber الذي يعرف الإقصاء الاجتماعي علي أنه يمثل شكلا من أشكال الإنغلاق الاجتماعي social closure (.
ويري فيبر هنا عملية الإنغلاق بوصفها تتم من خلال رغبة إحدي الجماعات في أن تحقق لنفسها ميزات خاصة بها، تُقصرها علي نفسها وكافة الأعضاء المنتمين لها، بينما تحرمها علي غيرها من الجماعات الأخري المحيطة بها، والآلية التي تستخدمها الجماعة المستفيدة هنا هي آلية إخضاع الجماعة المنبوذة أو الهامشية أو تلك التي يتم إقصائها علي تخوم الجماعة المستفيدة. وفي هذا السياق يري سيلفر أن الإقصاء الاجتماعي عملية متعددة الأبعاد من التمزق الاجتماعي المتصاعد، القائمة علي فصل الجماعات والأفراد من العلاقات الاجتماعية والمؤسسات والذي يحرمهم من المشاركة التامة في الأنشطة العادية والمعيارية في المجتمع الذي يعيشون فيه.
إن الحرمان يمثل آلية هامة هنا تستند إليها الجماعات المستفيده من تهميشها وإبعادها للجماعات الأخري. وتبدو المجتمعات المعاصرة المغلقة المسماة بمجتمعات البوابة gated communitiesنموذجا واضحا وجليا للقيود التي تفرضها نماذج الكومبوندات الشائعة في مناطق الثراء والقائمة علي العزل الاجتماعي بين الداخل والخارج.
وبجانب مفهوم الإقصاء الاجتماعي الشائع في أوروبا، وبشكل خاص في كل من بريطانيا وفرنسا، فإنه يتم استخدامه من خلال تعبيرات أخري في الولايات المتحدة الأميركية مثل: الجيتو، التهميش، والطبقة الدنيا. وهي مفاهيم تختلف عن مفهوم الإقصاء الاجتماعي لكنها بالتأكيد ذات علاقة قوية بها من ناحية تعبيرها عن هيمنة شريحة علي شريحة اجتماعية أخري. فالطبقة الدنيا تعبير عن جماعات اجتماعية متعاقبة تعاني ظروفا اجتماعية سيئة يأتي في الصدارة منها صعوبة العثور علي عمل مناسب، ومناوئة النظم الاجتماعية من خلال الممارسة المستمرة لأشكال عديدة ومتنوعة من الجرائم. وهي أمور تُفضي لا محالة إلي المزيد من التنميط لمثل هذه الطبقة واستمرارية سياسات الإقصاء والتهميش الاجتماعي لها، سواء تم ذلك بشكل مقصود أو غير مقصود، أو بشكل واعي أو غير واعي .
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية فإن الإقصاء يرتبط بجوانب دينامية وعمليات عديدة من خلال أربعة مستويات هامة تشمل المستوي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، كما أنها ترتبط بمستويات تحليلية عديدة تشمل الفرد والأسرة الممتدة والمجتمع المحلي والمجتمع والمستويات القومية والكونية. ويعني ما سبق أن عملية الإقصاء عملية متشعبة وعميقة الجذور في المجتمعات التي توجد فيها وذلك من خلال التشبيك الإقصائي بين الجوانب المجتمعية المختلفة والأنشطة العديدة المرتبطة بها، إضافة إلي تأثيراتها المختلفة علي المستويات التحليلية المجتمعية. ولا يمكننا هنا الحديث عن الإقصاء الاجتماعي بدون الحديث عن الإقصاء الاقتصادي ومن ثم السياسي والثقافي، كما أنه لا يمكننا الحديث عن إقصاء شريحة سكانية معينة بدون الحديث عن سياقات أخري تشمل الحديث عن إقصاءات ريفية ومن ثم عن إقصاءات كونية لجموع الدول التي مازالت الزراعة تشكل عنصرا فاعلا في سلم التمايزات والتصنيفات المرتبطة بها.
وفي هذا السياق، تري منظمة الصحة العالمية أن عملية الإقصاء الاجتماعي تقع علي متصل يجمع بين الإشتمال والإقصاء، حيث يمثل بداية الأول أعلي درجات الإندماج الذي تقوم به الدولة والمؤسسات المرتبطة بها للأفراد والجماعات المختلفة، بينما يمثل بداية الطرف الثاني أعلي درجات إبعادهم وإقصائهم. وبالطبع هناك درجات متفاوتة بين هذا وذاك وفقا لجهود الدولة مؤسساتها التنموية المختلفة. فكلما زادت فرص الأفراد والجماعات في الوصول للفرص والمزايا المختلفة زادت فرص اندماجهم واشتمالهم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، وكلما قلت هذه الفرص زادت فرص إقصائهم علي كافة المستويات السابقة.
ومن الجوانب البالغة الصعوبة بالنسبة لمفهوم الإقصاء الاجتماعي ارتباطه الشديد والمتواشج بمفهوم الفقر. فمن الصعوبة بمكان الفصل فيما بينهما في إطار أية عملية تحليلية ترصد مظاهر الإقصاء الاجتماعي المختلفة. ولذلك فإن الأمم المتحدة تتبني ما يُطلق عليه "الفقر الشامل" overall poverty الذي يشتمل علي الإقصاء والتمييز الاجتماعي ونقص المشاركة في صناعة القرارات المدنية والحياة الاجتماعية والثقافية. وهذا النوع من الفقر يعني تهميشا مُطلقا للأفراد ماديا ومعنويا. ورغم صعوبة الفصل بين الفقر والإقصاء الاجتماعي فإن الأمر اللازم هنا هو التفرقة فيما بينهما في مجال الأسباب المؤدية لهما والتأثيرات الناجمة عنهما. فالفقر يرتبط بالأساس بالحرمان المادي وما يرتبط به من حرمان اجتماعي، بينما نجد أن الإقصاء الاجتماعي يرتبط بالأساس بتقييد قدرة الأفراد والجماعات المختلفة علي المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاستفادة منها من خلال العلاقات المختلفة مع باقي الأفراد والجماعات. ومن هنا فإنه بينما نجد أن أسباب الفقر ترتبط بالأساس بضعف الدخل القومي وعدم وجود منظومة اجتماعية قومية تراعي عدالة التوزيع بين أفراد المجتمع فإن الأسباب المؤدية للإقصاء الاجتماعي ترتبط بالعديد من الأسباب والجوانب المجتمعية المختلفة مثل السن والنوع الفئات ذات الاحتياجات الخاصة والجماعات الإثنية والاقليات الدينية والتصنيف وفقا للمكانات المرتبطة بنوعية العمل والوظائف المختلفة.
أساليب الحياة
اعتمدت الدراسة علي استمارة مقابلة متعمقة تتكون من مجموعة من المحاور تتعلق بالبيانات الأساسية للمبحوثين، إضافة إلي التعرف علي طرق العيش الخاصة بهم، وظروف العمل والإقامة، وتصوراتهم المختلفة لأنفسهم وذويهم ووضعية الإقامة في مدينة القاهرة الجديدة والعمل بها. إن الهدف من إجراء هذه المقابلات وجها لوجه مع المبحوثين استهدف بالأساس التعرف الكيفي علي عوالمهم وأساليب حياتهم المختلفة وطرائق تربيتهم لأبنائهم ورؤاهم المختلفة لحياتهم والتطورات والتغيرات الاجتماعية المرتبطة بها. ولقد ساعد دليل المقابلة علي تحديد المحاور المختلفة المطلوبة للدراسة، لكن الأمر استدعي في بعض الأحيان مرونة بحثية أدت بالمقابلة إلي اتجاهات ومشارب أخري تتعلق بواقع الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي المرتبط بعينة الدراسة من العمال والبوابين العاملين في مدينة القاهرة الجديدة.
إضافة إلي ذلك، فقد استفدنا من علاقاتنا اليومية المباشرة مع العمال والبوابين وملاحظاتنا اليومية علي سلوكياتهم وتوجهاتهم تجاه الآخرين وفي محيط الأعمال الخاصة بهم. لقد أمدتنا الخبرة الشخصية في التعامل المباشر بملاحظات وفيرة حول نمط الحياة اليومي لهذه النوعية من العمالة، وما يمكن أن نطلق عليه هنا أخلاقيات العمل المرتبطة بهذه الشريحة الاجتماعية المنتشرة في كافة مناطق القاهرة الجديدة.
وفي هذا السياق لوحظ أن أغلب الدراسات المرتبطة بالفقر والتهميش تنصب علي الجوانب الكمية المرتبطة بهما، وطرق قياسها. ورغم ما تقدمه هذه الدراسات من نتائج كمية دقيقة، ورغم ما تقدمه من منهجية صارمة تتناسب والتحليلات الكمية فإنها تفتقد الطابع الإنساني المرتبط بالتعرف الفعلي والحقيقي علي عالم هؤلاء الفقراء والمهمشين والمقصيين من خلال رؤاهم الذاتية وتصوراتهم لأنماطهم المعيشية وعلاقاتهم المختلفة بالفضاء المجتمعي المحيط بهم (أنظر مثال لذلك الفارسي 2001، المصري 2002). وتوفر استمارة المقابلة المتعمقة هذا القدر من الحيز الإنساني الذي يستمع لعمال البناء والبوابين ويعرض لمنطوق تصوراتهم المختلفة للفضاء الاجتماعي المحيط بهم.
ولقد اعتمدت الدراسة علي عينة من عمال البناء والبوابين المقيمين في مدينة القاهرة الجديدة بلغ عددهم 15 فردا، حيث تمت إجراءات المقابلات المتعمقة معهم في أوقات فراغهم، غالبا في أيام الجمعة، سواء تم ذلك مع عمال البناء أو البوابين. وعموما فإنه بالنسبة للجميع فقد تم الاتفاق علي إجراء هذه المقابلات، التي تمت في منطقة النرجس بالتجمع الخامس في القاهرة الجديدة، في إحدي المقاهي القريبة من مقار إقامتهم، وذلك من خلال مقابلتين. كانت المقابلة الأولي هي الأطول في كل الحالات حيث استغرقت ما يقرب من ثلاث إلي أربع ساعات، أما المرة الثانية فقد كانت أقل كثيرا في الوقت، وتم من خلالها استيفاء أوجه النقص في المقابلة الأولي، إضافة إلي استيفاء النقاط التي لم نستطع استجلاء معالمها علي نحو بين وواضح. ولقد تم إجراء هذه المقابلات في الفترة من ديسمبر 2014 وحتي فبراير 2015، وذلك نظرا لتعذر قبول الكثير من العمال والبوابين قبول إجراء هذه المقابلات، حيث أن الكثيرين منهم كانوا لا يحضرون إلي المكان المتفق عليه لإجراء المقابلة بدون الاتصال والاعتذار عن ذلك. وهو أمر تم تجاوزه من خلال المعرفة الشخصية للبعض منهم، وقبولهم القيام بدور الوسيط بيني وبين الحالات المدروسة. فهذه المعرفة الشخصية مع بعض العمال والبوابين كانت تتيح لي التأكيد لهم علي أن هذه المقابلة ليس لها أية مآرب أخري سوي البحث العلمي والتعرف علي أوضاع العمال والبوابين، كما أنها لن تعود عليهم بأية أضرار. وفي الواقع فإن وجود طرف ما موثوق فيه بيني وبين المبحوث كان يلعب دورا كبيرا ومؤثرا في إتمام المقابلة وموافقة المبحوث عليها.
وعموما يمكن القول أن عامل الاطمئنان والشعور بالأمان من العوامل الهامة هنا في إجراء هذه النوعية من البحوث والمقابلات؛ فبدون شعور المبحوث بذلك فإنه سوف يتملص بشكل أو بآخر من إجراء قبول إجراء المقابلة أو يدلي بنتائج غير صحيحة. وفي بعض الأحيان القليلة، ارتبط إجراء المقابلة ببعض المقابل المادي، وهو أمر لم يطلبه المبحوث بشكل مباشر بقدر ما أشار إليه تلميحا من خلال تأكيده علي أن إجراء المقابلة سوف يهدر فرصة عمل طارئة له في إحدي الفيلات أو خلافه، وهو ادعاء كان في كل الحالات غير صحيح.
ويمكن القول بأن عينة الدراسة التي تم اختيارها اتسمت بالعمدية نظرا لقلة الحالات، إضافة لسفر الكثير ممن كان يقع عليهم الاختيار إلي محافظاتهم المختلفة. ومن ثم فإننا لم يكن لدينا ترف الاختيار بين مبحوثين كُثّر، وهو أمر فرض علينا القبول بما وقعت أيدينا عليه من المبحوثين، رغم استبعادنا للبعض منهم الذين رأينا أن سلوكياتهم وطرق حديثهم لن تمنحنا ذلك القدر من المصداقية والتحليل العميق لظروفهم. هذا وقد جاءت خصائص العينة علي النحو التالي:
- انقسمت العينة ما بين أحد عشر عامل بناء مقابل أربعة بوابين.
- بلغ عدد المتعلمين من بين هؤلاء العمال والبوابين ثلاثة حاصلين علي دبلوم تجارة، بينما تسرب الآخرون من التعليم الإبتدائي والإعدادي، حيث بالكاد يستطيعون القراءة والكتابة.
- وبالنسبة للتقسيم العمري يوجد ثمانية أشخاص ينتمون للشريحة العمرية ما بين 25- 30 سنة، مقابل سبعة أشخاص ينتمون للشريحة العمرية 20-25 سنة.
- يوجد تسعة أفراد من بين أفراد العينة يعملون في مدينة القاهرة بشكل عام منذ عشرة سنوات، بينما يعمل الباقون فيها منذ سبع سنوات. إضافة إلي ذلك فإنهم يعملون جميعا في مدينة القاهرة الجديدة ما بين التجمع الخامس والأول منذ ما يزيد علي الثلاث سنوات. هذا وقد أكد الجميع أنهم عملوا من قبل في بعض المدن الجديدة الأخري مثل السادس من أكتوبر ومدينة الشروق، ناهيك عن بعض الأعمال الأخري في مدينة نصر وغيرها من المدن الأخري.
- يقيم عمال البناء في فيلات وعمارات قيد الإنشاء، وفي حجرات بسيطة جدا، بعضها علي الطوب الأحمر، حيث يقومون هم بإغلاق النوافذ بوسائل بالغة البدائية من خلال استخدام الكرتون وبعض ألواح الأخشاب القديمة. وفي بعض هذه الأبنية يوجد حمام مُعد سلفا للعمال، بينما لا يوجد في البعض الآخر منها أية حمامات، حيث يستخدم العمال حمامات الفيلات المجاورة أو يقضون حاجاتهم في الخلاء. كما أنهم يستخدمون الإنارة والمياه المتوفرة في بعض الفيلات والعمارات أو يقومون بعمل توصيلات بشكل مخالف للقانون من أعمدة الإنارة المتاحة. ومن بين البوابين الأربعة يوجد ثلاثة يقيمون بشكل كامل كحراس لفيلات يعيش فيها أصحابها، حيث يحصلون علي حجرة مجهزة في البدروم، لها حمامها الخاص بها، بينما البواب الرابع يعمل حارسا لفيلا يعيش أصحابها في إحدي الدول الخليجية، حيث يعيش أيضا في حجرة مجهزة له ملحقة بالبدروم، وملحق بها حمام خاص بها.
- هذا وتتسم مستويات الإقامة والمعيشة بالبساطة المتناهية من ناحية الأثاث، الذي لا يزيد عن المتطلبات الأولية للحياة، ومنها وجود سرير متواضع جدا للنوم، أو في بعض الأحيان مجرد مرتبة غير نظيفة ينام عليها عامل البناء. ويتغير الحال بالنسبة للبوابين المصاحبين لأسرهم حيث تزداد معدلات التأسيس نظرا لوجود زوجة وأطفال، حيث توجد العديد من الأسّرة، إضافة إلي دولاب لحفظ الملابس، وأخيرا أدوات طبخ الطعام الأخري.
- تنقسم العينة ما بين سبعة أفراد متزوجين مقابل ثمانية أفراد غير متزوجين، ومن بين الأفراد المتزوجين يوجد خمسة أفراد يعولون ما بين طفلين إلي ثلاثة أطفال، وما بين الأفراد غير المتزوجين يوجد ثلاثة في مرحلة الخطوبة وسوف يتزوجون في القريب العاجل.
- توزعت العينة جغرافيا علي النحو التالي: ثمانية أفراد من أسيوط مقابل خمسة من سوهاج وأخيرا إثنين من الفيوم.
"إية اللي رماك علي المر"
أكد جميع المبحوثين أن العامل الاقتصادي هو الذي دفعهم لمغادرة محافظاتهم للعمل في محافظة القاهرة. وفي هذا السياق فإن كل المبحوثين وفدوا من قري المحافظات الأكثر فقرا في مصر والتي شملت أسيوط وسوهاج والفيوم. ولقد بين معظم المبحوثين أن اختيار قرار الهجرة للقاهرة قرار يرتبط بشكل رئيسي بواقع البطالة الذي يعيشون فيه في محافظاتهم التي هاجروا منها، مبينين أنهم لم يكونوا يريدون ترك مواطنهم الأصلية والمجيئ للعمل في القاهرة التي تختلف إلي حد كبير عن مواطنهم الأصلية. قال أحد المبحوثين القادمين من محافظة سوهاج مبينا تلك الوضعية وكاشفا عنها:
"إللي رمانا علي المر والعيشة إللي إنت شايفها دي اللي أمر منه، مفيش شغل في المحافظة، وحتي الزراعة قلت وبقا الملاك بيستخدموا آلات أكتر من الأول، طيب نعمل إيه، نسرق ولا أحسن نتعب شوية ونسيب أهالينا ونيجي نشوف رزقنا هنا"
كشفت الدراسة عن أن العلاقات الشخصية بين الأقارب والأصدقاء هي التي تلعب دورا كبيرا في دفع العمال إلي الإنتقال إلي القاهرة والعمل بها. فلا توجد أية مؤسسات سواء رسمية أو غير رسمية في هذه المحافظات تساعد هؤلاء المهاجرين علي العمل في القاهرة وإيجاد فرص عمل مناسبة لهم (أنظر حول أشكال الهجرة في مصر حسانين 2010، لبيب 2007). ويقوم الشخص المهاجر بالاعتماد في المراحل الأولي من الهجرة علي قريب أو صديق له في مسألة توفير العمل والإقامة، وفيما بعد، إما أن يزامله في السكن متحملا تكاليف الإقامة معه، وإما أن يبحث لنفسه في مرحلة تالية عن سكن آخر أو منطقة أخري يعمل بها. فالمسألة تتعلق في البداية بضرورة تجاوز صدمة التعامل مع القاهريين وفهم أبعاد الإقامة وكيفية البحث عن عمل ما واكتساب مهارات تحقيق الكسب السريع سواء من خلال العمل في قطاع التشييد أو العمل في قطاع الخفارة بشكل عام أو العمل كبواب في إحدي الفيلات أو العمارات. وعموما فإن هؤلاء المهاجرين يتأقلمون بسرعة مع أجواء العيش في المدينة، بل، ومن خلال تجمعاتهم في المدن الجديدة، يألفون الحياة بها بسرعة، خصوصا في ظل تعاظم الدخول التي يحصلون عليها، وتوافر فرص العمل المختلفة، وبشكل خاص الهامشي منها.
وفي هذا السياق، يمكن القول أن قطاع التشييد يوفر مساحة كبيرة من فرص العمل المتاحة سواء في المهن المرتبطة به من أعمال التسليح والبناء والمحارة، أو فيما يتعلق بمسألة العمل في إزالة مخلفات البناء وأية أعمال أخري تتعلق بالقوة الجسدية مثل رفع الرمال وغيرها من المواد الأخري إلي الفيلات والعمارات. وفي هذا الإطار تبدو القوة الجسدية هي قوة العمل بالنسبة لمن ليس له مهارة معينة في أعمال البناء، أو بشكل دقيق لغير الصنايعية. ومن الواضح أن هناك متسعا هائلا من فرص العمل المرتبطة بالقوة الجسدية ترتبط بشكل رئيسي بأعمال النظافة والإزالة والتحميل، وهي وظائف يلجأ إليها المهاجرون من الصعيد وغيرها من المحافظات الأخري لما توفره من دخل سريع ومتاح. ورغم ارتباط هذا النوع من العمل بالجهد البدني إلا أنه يوفر قدرا ما من الأمن والأمان بالنسبة للمهاجرين في أيام الهجرة الأولي. وعلينا هنا أن نضرب يوم العمل الذي يصل الآن لما يقرب من 70 إلي 80 جنيها من الثامنة صباحا حتي الرابعة مساء فيما يقرب من متوسط خمسة أيام في الأسبوع لنعرف أن ما يوفره هذا النوع من العمل أسبوعيا يبلغ 400 جنيها. يقول أحد العمال:
يعني لو افترضنا إن الشغل متوفر، لأنه ساعات الدنيا بتقفل شوية ومبنلقيش شغل، وكمان إحنا كتير قوي، فده بيقلل فرص العمل، يعني نقول لو النفر منا اشتغل بانتظام خمس تيام في الأسبوع وضربنا اليومية في سبعين أو ثمانين جنيه حسب الفصال وحسب النفر إللي بتفاصل معها يبقا الدخل ما بين 300 و 400 جنيه. ساعات بيجيللك مهندس يطلب عشرة أنفار ده يقعد يحاسبك ويفاصل معاك يمكن يخللي اليومية 60 أو أقل كمان، وساعات تلاقي صاحب فيلا يطلب منك شغل بينك وبينه الحالة ده أحسن بتبقا اليومية 70 جنيه أو أكتر، وكمان فيه صحاب بيوت قلبهم طيب يديك هدوم أو أكل أو حتي تلاقيه يزودك في اليومية أكتر من إللي اتفقنا عليه
بالنسبة لشكل الحياة اليومية، وكيفية تصريف شؤون الحياة من انتقالات ومأكل ومشرب وخلافه بينت الدراسة أن مصاريف هؤلاء العمال والبوابين محدودة جدا ولا تتم إلا في إطار كل ما هو أساسي وحيوي بالنسبة للحياة اليومية وأعبائها. ويجب الإشارة هنا إلي أن كل مدينة تظهر إلي حيز الوجود مثل القاهرة الجديدة والسادس من أكتوبر والشروق وبدر وغيرها تجذب العمالة التي تحتاجها من كل صوب وحدب، إضافة إلي بعض الأنشطة التي ترتبط بها والتي تقوم علي تقديم الخدمات الحيوية لهذه العمالة من طعام وشراب وخلافه. وفي كل منطقة في التجمع الخامس أو الأول نجد بعض الأسر المقيمة من الخفر والبوابين توفر خدمة الطعام الرخيص لهذه النوعية من العمالة. حيث يقيمون في بعض الفيلات التي مازالت هيكلا خرسانيا أو حتي بناء من الطوب الأحمر ويبنون كشكا خشبيا يقومون من خلاله بقلي الطعمية وبيع الفول والبصل والمخللات والخبز إضافة إلي عمل الشاي وبيع السجائر. من هنا فبديلا عن التحرك من تلك المناطق النائية نسبيا والذهاب إلي أسواق التجمع البعيدة مع ما يمثله ذلك من تكلفة فإن العمال يجدون نقاط التغذية هذه حولهم بسهولة ويسر، رغم ما تقدمه من نوعية غذاء فقيرة ومحدودة. واللافت للنظر هنا أن زوجات بعض البوابين والخفر يقمن في أحيان كثيرة بتوفير خدمة عمل الشاي علي وجه الخصوص لهذه العمالة، ما يوفره ذلك من دخل إضافي لأسرة البواب. وفي نهاية الأسبوع يقوم هؤلاء العمال باستقلال أية سيارة نصف نقل والإنتقال إلي أقرب سوق لهم وشراء لوازم الأسبوع القادم من صابون ومنظفات للملابس وسجائر وشاي وسكر إضافة إلي اللحوم وغيرها مما يمكنهم من الطبخ الجماعي فيما بينهم. ومما يساعد علي هذه الإنتقالات شبكة المواصلات الخاصة بالميكروباصات التي هاجمت كافة أنحاء القاهرة الجديدة حيث الموقف الرئيسي لها في شارع التسعين أكبر وأهم شوارع المدينة. ويمكن القول أن القاهرة الجديدة سوف تتحول في القريب العاجل في ظل ذلك التكدس الحالي من السيارات والميكروباصات مع توافد أعداد هائلة من عمال البناء والبوابين إليها إلي مدينة نصر أخري بعشوائيتها الراهنة وتكدسها الهائل. يقول أحد العمال موضحا طبيعة ممارسات الحياة اليومية الخاصة به، والتي لن تختلف بشكل أو بآخر عن حياة أقرانه من العمال:
بنصحا الصبح بدري، لو فيه شغل بنفطر بسرعة وبعدين نشتغل لغاية الساعة 12 الضهر واحد مننا يروح يجيب الفطار فول وطعمية نفطر ونشرب شاي وبعدين نكمل شغل لغاية الساعة أربعة وبعدين نرجع نتشطف ونتعشي أي أكل موجود ونسهر شوية لغاية الساعة 10 أو 11 وبعدين ننام، كل الأيام زي بعضها، بس في آخرالأسبوع بنروح برا النرجس نشتري أغراضنا من سوق عنابة هوه كبير وفيه محلات أكتر، يعني نشتري صابون وشاي وسكر وسجائر ولو هنطبخ نشتري لحمة وخضار
وتوصلت الدراسة إلي أن معظم حالات الدراسة انتقلت من العمل في البناء إلي العمل في الخفارة والحراسة ثم الاستقرار في العمل كبواب في إحدي الفيلات أو العمارات. فالمهاجرون، إلا في بعض الحالات النادرة، يبدأون عملهم في القاهرة الجديدة كعزاب وكعمال بناء ثم يلي ذلك الربط بين العمل في البناء والقيام بأعمال خفارة علي مجموعة من الفيلات أو علي مربع سكني، حيث يصبح الشخص مسئولا أمام صاحب الفيلا عن الحديد والأسمنت وغيرها من مواد البناء المختلفة نظير أجرة شهرية تصل في بعض الأحيان لما يقرب من 500 جنيه، وهو مبلغ جيد خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار الخفارة علي عدد ليس بالقليل من المباني. ومع سكن الفيلات وانتقال ساكنيها للإقامة فيها يصبح الأفضل بالنسبة لهؤلاء العمال، وخصوصا بعد زواجهم وإنجابهم، البحث عن العمل كبواب في إحدي الفيلات حيث يتوزع العمل بين الزوجة التي تتابع شؤون الفيلا وحراستها وبين زوجها الذي يجمع بين متابعة شؤون الفيلا والعمل باليومية في أعمال البناء المختلفة. ومما يفرض علي هؤلاء العمال الرغبة في الاستقرار النسبي في العمل كبواب أو خفير لفيلا أو عمارة تراجع الصحة إضافة إلي الرغبة في تعليم الأبناء في المدارسة الحكومية في المدينة.
وعموما يمكن القول هنا بوجود نمط عشوائي للحياة بالنسبة لهذه الشريحة من العمال يبدأ بقرار الهجرة والعمل في المدن الجديدة أيا كانت نوعيتها ويرتبط بقبول أي مهنة أو عمل مهما كانت قيمتها ومهما كان العائد منها. فقرار الهجرة قرار يستند بالأساس إلي قلة فرص العمل في المحافظات الطاردة، كما أنه لا يستند إلي أية دراسة مسبقة سوي ما يسمعه المهاجر من أقرانه الذين سبقوه، ويلي ذلك قبول العمل في أي مهنة تتعلق بالمعمار وخلافه. والملاحظ هنا أن الهامشية لا تنتج من تقسيمات طبقية أو عرقية أو إثنية بقدر ما تنتج عن الطابع المهني لهذه الشريحة العمالية، والطابع غير المستقر لها، والذي يفرض عليها القبول بأي شئ يُعرض عليها. يقول أحد العمال:
ملناش رأي في الشغل، أي حاجة بتجيلنا بنعملها، يعني نشيل طوب ماشي، نشيل رمل ماشي، ننضف الفيلا ونشيل الرتش ماشي، كمان ممكن نشيل خرسانة لو الونش مش موجود، وفيها ناس بتطلب مننا نشيل عفش وندخله للفيلات، وكمان ساعات بيطلبوا مننا نشيل سيراميك وبروسلين للفيلات، أي حاجة تجيب فلوس بنعملها وربنا بيرزق
وتخلق هذه الحالة من الهامشية المرتبطة بالعمل نوعا من الإقصاء الاجتماعي غير المقصود، فهذه الشريحة الاجتماعية من عمال البناء تمثل جيتوهات مغلقة علي نفسها لا يتم التواصل معها إلا من خلال مهندسي البناء والمقاولين وأصحاب الفيلات من أجل تنفيذ أعمال محددة. وبالطبع فإن هؤلاء العمال يطالعون يوميا مظاهر الثراء والبذخ في الفضاء المحيط بهم، ناهيك عن أصحاب هذه الفيلات من علية القوم والمشاهير إضافة إلي النساء الثريات الجميلات اللاتي يذكرهن بنساء قراهن والفقر المرتبط بهن. وتبدو آليات الإقصاء غير المقصود هنا عديدة ومتنوعة؛ فأولا فإن طبيعة العمل تفرض نوعا من الفصل بين العمال والخفراء والفضاء الاجتماعي المحيط بهم، وثانيا فإن ظروف الحياة الصعبة تفرض علي العمال والخفراء وبالطبع علي البوابين عادية ربط العمل بالشحاذة، فمن المألوف هنا أن يدعي أو يشير العامل وهو يفاصل ويجادل من أجل رفع أجرته ويوميته مؤكدا علي أن الحياة غالية والظروف صعبة وهو يربي أولادً صغار والصحة لم تعد مثلما كان الحال فيما قبل...إلخ من أشكال الخطاب الاستجدائي والمثير للشفقة والعواطف والحاض علي فعل الخير وزيادة الأجرة. وهو أمر كثيرا ما يؤتي أُكله حيث يثير التعاطف الإنساني في أحيان والكثير من التعاطف الديني في أحيان أخري.
هذه السلوكيات الخاصة بالعمال والخفراء والبوابين تخلق بالتأكيد نوعا ذاتيا من الإقصاء الاجتماعي علي مستوي العمال والخفراء والبوابين من ناحية أنهم يخلقون نوعا من التحديد الإقصائي بينهم وبين الأثرياء المحيطين بهم حيث لا يتم التعامل إلا في إطار علاقة السيد والمحتاج، وهو أمر يدركه بالطبع كافة الأفراد المنتمين إلي هذه الشريحة، ويعمقه لديهم ما يروه من كافة مظاهر الثراء البذخية لسكان هذه الفيلات. ومن ناحية أخري فإن الصورة النمطية لهذه الشريحة لدي الأثرياء لن تخرج عن حيز التصورات المرتبطة بفقرهم وإمكانية مساعدتهم بين الحين والآخر.
ولا يمكننا هنا أن نتجاهل التأثيرات السلبية علي المستوي الإنساني الناجمة عن ذيوع ثقافة الاستجداء والشحاذة بين أغلب، إن لم يكن، بين كل العاملين في قطاع البناء والخفارة والبوابين. وعلي الرغم من صعوبة قياس تلك التأثيرات النفسية والاجتماعية علي أفراد هذا القطاع، فإن الأمر المؤكد أن هذه السلوكيات تتجذر مع مرور الوقت ليصبح الاستجداء في حد ذاته بديلا عن العمل والرغبة في العثور عليه. فمن الملاحظ أن سلوكيات الكثير من هؤلاء العمال غير منضبطة سواء من ناحية الإلتزام بوقت العمل أو من ناحية أدائه بشكل جيد. فالكثير منهم يدعي أنه يمتهن مهنة معينة وهو يكاد لا يفقه فيها شيئا، كما أن البعض منهم كثيرا ما يتعدي بالسرقة علي ما يجده من مواد البناء المختلفة. وتجدر الإشارة هنا إلي ذيوع مظاهر عديدة للسرقة في مدينة القاهرة الجديدة بين الفيلات التي لا يقطنها أحد، وبشكل خاص ما خف حمله وغلي ثمنه مثل سرقة أسلاك الكهرباء النحاسية التي يسهل بيعها. إن التحول من العمل إلي الاستجداء والشحاذة ثم أخيرا السرقة ينقل مستوي الإقصاء الاجتماعي لمستواه الأخير الأكثر خطورة والذي يرتبط بما يمكن أن نطلق عليه هنا "ثقافة الاستحلال"، حيث يخلق هؤلاء العمال العديد من المبررات التي تسوغ لهم السرقة من هؤلاء الأثرياء، والسطو علي فيلاتهم وشققهم.
ولا يمكن الحديث هنا عن نوع من الإغتراب يصيب هؤلاء العمال والبوابين، فقد اكتسب هؤلاء الوافدين إلي القاهرة بجاحة سكانها وطرائق حياتهم الملتوية، إضافة إلي عوالم الفقر وقسوة الحياة اليومية التي لم تجعلهم يروا في التعامل مع أصحاب الفيلات والعمارات سوي مصدر للدخل والإستغلال. فاللافت للنظر هنا هو تلك القدرة التي يتحدث بها هؤلاء العمال والبوابين عن الأثرياء حيث كشفت كافة حالات الدراسة الغني الفاحش للملاك والسيارات التي يمتلكونها، كما تحدث البعض منهم عن تفاصيل التشطيبات لهذه الفيلات التي نعتوها بأنها قصورا فاخرة، وهو أمر جعلهم يؤكدون علي أنه من حقهم أن يغالوا في يومياتهم، التي مهما زادت لن تؤثر في أموال هؤلاء الأثرياء علي حد قول إحدي حالات الدراسة. وتضيف حالة أخري قائلة:
يعني إحنا بيطلع عينا طول اليوم شغل فيها إيه لما توصل اليومية لمية جنيه، هوه المبلغ ده هيأثر في أموال أصحاب الفيلل في حاجة، اتفرج علي تشطيبات الفيلل ولا الفرش إللي فيها حاجات بالملايين، وساعات يفاصللوا معانا علي 10 جنيه، طيب الرحمة فين هنا، إحنا لوعيينا يوم مش هنلاقي ناكل، وفيه زمايل كتيرة لينا إللي وقع وهوه بيشتغل أو إللي إنكسرت رجله، وإللي الغضروف تاعبه، لما اترموا علي السرير مين بيصرف عليهم دلوقتي إلا المحسنين
ورغم صعوبة الحديث عن وجود نوع من الإقصاء الاجتماعي المتعمد بين عينة الدراسة من جانب القاطنين في مدينة القاهرة الجديدة، إلا أنه يمكن القول بأن هذا النوع من الإقصاء يفرض نفسه ومحدداته بأطر العلاقة المرسومة والمحددة سلفا بين الغني والفقر. فالواقع الاجتماعي القاسي لا يضع أعضاء هذه الشريحة الاجتماعية من الفقراء والمهمشين علي الخريطة الاجتماعية في مصر من خلال مؤسسات الدولة المختلفة، وهو أمر يستدعي اهتماما كبيرا من قبل الدولة وكافة مؤسساتها في السنوات القادمة من أجل تنمية واقع هذه الشريحة الاجتماعية والتغلب علي الصعاب التي تواجهها، وبشكل خاص فيما يتعلق بضمان حقوقها المالية، وتطوير أدائها المهني، إضافة إلي ضمان وضعية أفضل لظروفها الصحية، وتوفير الخدمات التعليمية لأبنائها. وفي هذا السياق يجب الإشارة إلي ضرورة تدخل مؤسسات المجتمع المدني بقوة في التعامل مع هذه الشريحة المجتمعية بسبب قدراتها الأسرع علي الوصول إليهم، ومرونة آليات العمل الخاصة بها، وهو أمر يجب أن يتم في تكاتف مع مؤسسات الدولة، شريطة تجاوز التأثيرات البيروقراطية للمؤسسات الرسمية.
أجزاء من دراسة قدمها د.صالح سليمان عبدالعظيم أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، جامعة عين شمس للمؤتمر الدولي الثاني حول الحريات وحقوق الإنسان أبريل الماضي. تم حذف الهوامش لضرورات النشر الصحفي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.