.. عنوان جديد بات يهيمن على الحديث عند مناقشة سبل الحل في أوكرانيا، خاصة مع انقسامات كبيرة بين الغرب الأوروبي والولاياتالمتحدة، في ضوء ما يبدو انحيازا أمريكيا لروسيا، في لحظة تبدو فارقة، مع صدور خطة أعلنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، حملت الكثير من التحفظات، ترتبط في جوهرها بسيادة كييف، على مسارين متوازيين، أولها يرتبط بالجغرافيا، عبر التنازل عما تراه جزءً من أراضيها لصالح روسيا جراء نجاحها في السيطرة عليه، والثاني يرتبط بحقوقها القانونية، بتجريدها من الحق في طلب الانضمام لحلف الناتو، وهو الأمر الذي تراه القارة العجوز خطرا داهما على أمنها، في ظل ما قد ينجم عنه من تداعيات، في ظل الصراع المتواصل مع موسكو منذ عقود طويلة من الزمن، في الوقت الذي تتجرد فيه من الحماية الأمريكية تدريجيا. اللجوء إلى التحالف المدعوم من قبل فرنسا وبريطانيا، في شكله السياسي، يمثل آلية للمواجهة الأوروبية في مواجهة ما يلاحق القارة من تهديدات، إلا أن المفارقة هي أن تلك الآلية ليست موجهة ضد الخصم، وإنما في واقع الأمر تستهدف الحليف، في إطار مسعى واضح لإضفاء شرعية دولية على التحفظات الأوروبية تجاه الخطة الأمريكية المرتبطة بمستقبل أوكرانيا، وما تراه من تهديدات لأمنها حال تمريرها. التحالفات، كغطاء للشرعية الدولية، ربما ليست جديدة تماما، بل أنها تجاوزت مجرد كونها وسيلة للضغط إلى إطار بديل للأمم المتحدة في بعض الأحيان، وهو ما تناولته في مقالات سابقة، على النحو الذي شكلت فيه واشنطن تحالفا عسكريا محدودا، وسياسيا واسع النطاق، عندما قررت غزو العراق، رغم الرفض الصريح لمجلس الأمن، وبالتالي فإن "تحالف الراغبين"، يمثل صورة جديدة للتحالفات، في إطار سياسي بحت، تهدف في الأساس إلى البحث عن شرعية دولية تضفي المزيد من الزخم إلى الرؤى التي يتبناها فريق من الدول في إطار قضية معينة. والواقع أن بزوغ التحالف، بهذه الصورة، يمثل استفاقة أوروبية هامة، وإن كانت متأخرة، حيث أنها تمثل محاولة صريحة لمواجهة الرؤى الأمريكية، وتضفي قدرا من الاستقلالية لدى المفاوض الأوروبي، في مواجهة، ليس الخصم الروسي، وإنما الحليف الأمريكي، وهو ما يعني خروجا رسميا من عباءة التبعية، بينما تستلهم في اللحظة نفسها، دروس الماضي القريب، في مناطق أخرى من العالم، في إطار حالة العدوان على غزة في الشرق الأوسط، عندما نجحت القوى الإقليمية، في توحيد كلمتها، في إطار توافقي حول الثوابت، وهو ما يمثل طفرة مهمة في تاريخ إقليم مزقته الانقسامات، في ضوء نجاحه في تجاوز خلافات هيكلية، وصراع نفوذ هيمن على العلاقة بين أقطابه لعقود طويلة من الزمن، وهو الأمر الذي بدأ قبل بدء العدوان على القطاع بسنوات، عندما شكلت الشراكة الثلاثية بين مصر والعراق والأردن نواة لحوار إقليمي أوسع، تبادلت خلاله القوى المتصارعة الرؤى، مما خلق مساحة من المشتركات، التي باتت تتوسع تدريجيا، حتى وصلت إلى حد لا بأس به عند اندلاع الأزمة، مما أثمر عن إجماع غير مسبوق على الثوابت بعيدا عن انقسام المحاور الذي ساد الإقليم منذ بداية القرن. وإذا كان الشرق الأوسط قد قدّم نموذجًا مصغرًا لآلية تجاوز الانقسامات، فإن أوروبا بدورها تواجه لحظة مشابهة، في ضوء قيادة مشتركة للتحالف بين فرنسا وبريطانيا، من الجانب الأوروبي، وهو ما يمثل نقطة انطلاق مهمة، خاصة وأن انغماس لندن في الأزمات الأوروبية، بمباركة قارية، وليست أمريكية، يعد حدثا ينبغي الالتفات إليه، منذ سنوات، وتحديدا عندما قررت لندن الانفصال عن الاتحاد في يناير 2020، وهو ما أسفر عن تحول العلاقة على مدار السنوات الماضية من الإطار التكاملي، نحو صورة تنافسية أكثر تعقيدا، بينما يبقى الوجود البريطاني إلى جانب باريس، في جوهره، علامة فارقة، لما تحمله من تجاوزات كبيرة لتاريخ طويل من التنافسية التي وصلت في مراحل متعددة إلى حد الصراع، ناهيك عن كون الأخيرة أحد أكبر داعمي أوروبا الموحدة، وهو ما يعكس حالة إقليمية تبدو مختلفة إلى حد كبير إذا ما قورنت بالآليات التي تبنتها القارة في إدارة ملفاتها وأزماتها خلال عقود من الزمن، وهو ما يعني في نهاية المطاف، اعترافا متبادلا بين أوروبا الموحدة، وفي القلب منها فرنسا، من جانب وبريطانيا من جانب آخر، مفاده أن حالة الأمن الجمعي لا ترتبط بخلافات مرحلية، وأن كلا الجانبين يساهمان بصورة أو بأخرى في صياغة الاستقرار القاري. من هنا يبدو الحوار، بين قوى متنافسة (أوروبا الموحدة وبريطانيا)، هو المدخل نحو الوصول إلى صياغة مقبولة إقليميا (أوروبيا) في مواجهة طرفين، أولهما حليف يسعى لكسر حلفائه (الولاياتالمتحدة)، والثاني هو الخصم التاريخي (روسيا)، وهو ما يتطلب أن تتزامن معه خطوات أخرى، من شأنها الوصول إلى صيغ توافقية، وأهمها القناعة التامة أن استمرار الصراع لن يؤدي بأي حال من الأحوال إلى تحقيق أي قدر من الاستقرار، وبالتالي فإن الحاجة ملحة إلى تغيير نهج إدارة العلاقة مع الحلفاء والخصوم، في نفس اللحظة، فالتبعية ليست طريقا لضمان الوصول إلى الحماية، والعقوبات والتضييق الاقتصادي والأمني ليس السبيل لقمع المخاطر والتهديدات التي تلوح في الأفق. "تحالف الراغبين" نقلة مهمة في إدارة الأزمات الإقليمية في أوروبا، باعتباره يجسد حالة من المرونة غير المسبوقة، تختلف جذريا عن الصلابة التي اتسمت بها السياسات القارية لعقود طويلة من الزمن، سواء في مرحلة ما قبل الحروب العالمية، عندما كانت تفرض القوى الكبرى رؤيتها بالقوة العسكرية، أو بعدها عبر الاستقواء بالحليف الأمريكي، وهو ما يمثل خطوة نحو نطاق أوسع من الحوار، الذي يبدو في حاجة إلى مد مظلته ليتجاوز الحليف "الشارد"، نحو الخصم، وهو ما يبدأ بالتخلي عن لغة التهديد والعقوبات والتضييق الاقتصادي والجغرافي، نحو خلق مصالح مشتركة، من شأنها الوصول إلى أكبر قدر من المكاسب، خاصة وأن البيئة مهيأة في هذا الإطار لتتحول أوروبا إلى طرف أكثر فاعلية في العلاقات الدولية، باعتبارها الطرف الذي يملك مساحة للانفتاح على كافة أطراف المعادلة العالمية، وهو ما يضمن دور أوروبي حقيقي في صياغة العالم الجديد. وهنا يمكننا القول بأن الفرصة سانحة لأوروبا لامتلاك زمام المبادرة مجددا، في ضوء وجود أطراف أوروبية لديهم ثقل كبير داخل "تحالف الراغبين"، والنجاح الكبير في الوصول إلى توافق مع أطراف خارج أوروبا الموحدة، وهو ما يمثل في ذاته رسالة لواشنطنوموسكو مفادها أن المرونة تبقى سلاح القارة في إدارة ملفاتها، ومن ثم الانطلاق نحو دور أكبر على المستوى العالمي.