تشكل الشراكة المصرية-الصينية ضمن مبادرة الحزام والطريق (التي دشنت في عام 2013) إحدى أهم منصات إعادة تموضع مصر في الاقتصاد العالمي. لكن هذه الشراكة ستظل رهانًا ناقصًا إذا لم تُدار وفق بوصلة تكنولوجية واضحة تضع المعرفة في قلب علاقتها بالعالم، لا في أطرافها. منذ انضمام مصر إلى مبادرة الحزام والطريق، انصبّ التعاون على مشروعات هامة في الموانئ والمناطق الاقتصادية والربط اللوجستي. لكن الاقتصاد العالمي اليوم بات قائمًا على منظومات أكثر تعقيدًا، تشمل شبكات الألياف البصرية العابرة للقارات، البنية التحتية للحوسبة السحابية، بروتوكولات الأمن السيبراني، ومنظومات إدارة الطاقة الذكية. وهذه هي البنية التحتية العميقة التي تحدد موقع الدول في خريطة القيمة العالمية. لذا فموقع مصر يحتم عليها أن تصبح عقدة تحكم تكنولوجية في تدفقات البيانات والطاقة والخدمات الرقمية. والمنطق الراهن يقتضي أن تتحول مشروعات البنية التحتية الصينية-المصرية إلى مختبر مؤسسي لتوطين المعرفة ورفع كفاءة المؤسسات المحلية. تركز معظم التحليلات على حجم الاستثمار والتجارة، لكنها لا تقيس جودة الشراكة. غير إنه لسبر قوة تلك الشراكات مع الآخر، لا بد من الأخذ في الاعتبار ما يلي: أولا: معامل الاعتماد التكنولوجي، والذي يقيس نسبة المكونات التكنولوجية المستوردة في كل مليار دولار من القيمة المضافة الناتجة عن مشروعات مشتركة. (نستهدف خفضه تدريجيًا ليقترب من 0.4 خلال عشر سنوات). ثانيا: مؤشر الروابط الثلاثية (جامعة – شركة – حكومة)، وهو المؤشر الذي يحصي عدد المشروعات التي تتضمن شراكة متزامنة بين مؤسسة أكاديمية مصرية، وشركة صينية، وهيئة حكومية مصرية (نستهدف 50 مشروعًا ثلاثيًا فعّالًا بحلول 2035، كبديل للنمط الثنائي الذي يقلص تراكم المعرفة). ثالثا: كثافة الباحثين لكل استثمار، وهو مؤشر يقيس عدد الباحثين المصريين العاملين في كل 100 مليون دولار من الاستثمارات الصينية (نستهدف رفع المعدل من 20 إلى 80 باحثًا بحلول 2040، وهو ما يحوّل الاستثمار إلى منصات بحث وتطوير فعلية). رابعا: مؤشر البراءات المشتركة، وهو إحصاء لعدد البراءات المسجلة سنويًا من فرق بحثية مصرية–صينية (نستهدف مضاعفتها كل خمس سنوات، مع تركيز على الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي الزراعي، والطب والتكنولوجيا الحيوية). هذه المؤشرات لا تعكس الواقع القائم بل تصنع واقعًا جديدًا، حيث تصبح المعرفة معيارًا للحكم على الشراكة، لا حجم الإنفاق. مصر منصة علمية إقليمية في 2050 نستهدف خلال العقدين التاليين الآتى: 1. مختبر المدن الذكية في البيئات الحارة-الجافة تطوير حلول للطاقة والمياه والتنقل الذكي في مدن القناة والعاصمة الإدارية والعلمين، بنسبة ملكية فكرية مصرية لا تقل عن 40٪، مع قابلية تصدير هذه الحلول لأفريقيا والخليج. 2. محور القاهرة–بكين–القارة منصة تدريب إقليمية تستهدف تأهيل 10 آلاف باحث أفريقي-آسيوي بحلول 2045، مع تركيز على التحلية، الزراعة الذكية، والطاقة الشمسة. 3. منطقة ابتكار مشتركة عابرة للحدود ربط وادي التكنولوجيا في الدلتا مع مناطق ابتكار صينية، لتوليد 100 شركة تكنولوجيا مشتركة بحلول 2050 في البطاريات والطب الشخصي والتكنولوجيا الحيوية والروبوتات الزراعية. ولتحويل الشراكة من منطق التمويل والتنفيذ إلى منطق المعرفة والابتكار، يمكن إطلاق مبادرة علمية متكاملة تتضمن: 1. مجلس الحوكمة المعرفية المصري-الصيني يقيّم سنويًا الأداء المعرفي للمشروعات عبر معايير موضوعية: أوراق بحثية، أطروحات، برامج تدريب، تكنولوجيات منقولة. 1. برنامج مسار الباحث-المهندس، الذي سيتم من خلاله إيفاد 500 طالب دكتوراه في مختلف التخصصات إضافة إلى 500 مهندس في تخصصات ذات أولوية قومية سنويًا إلى مواقع مشروعات في الصين. 1. صناديق ابتكار مشتركة في الطاقة النظيفة، والتقنيات الطبية، والزراعة الذكية والتكنولوجيا الحيوية، مع نسب ملكية فكرية توزَّع وفق مساهمة كل طرف في البحث والتنفيذ. وحين يصبح العلم هو معيار الشراكة، لا التمويل وحده، تتحول مصر من متلقٍّ للمشروعات إلى شريك في صياغة التكنولوجيا، ومن ممر جغرافي إلى منصة معرفية. عندها فقط يمكن القول إن الحزام والطريق لم يعبر أرض مصر فحسب، بل عبر أيضًا جامعاتها ومختبراتها وعقول علمائها.