رغم التغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم، لا يزال التعليم الفني والمهني يُعاني من نظرة دونية، وكأنه خيار "الدرجة الثانية" للطلبة الذين لم يحالفهم الحظ في التعليم الأكاديمي. هذه النظرة، التي تشكلت بفعل عوامل ثقافية واقتصادية وتاريخية، لا تعكس بأي حال من الأحوال أهمية هذا النوع من التعليم في بناء اقتصادات قوية ومجتمعات مستقرة. ترتبط النظرة السلبية للتعليم الفني والمهني بإرث ثقافي قديم، حيث يُنظر إلى العمل اليدوي أو التقني على أنه أقل شأنًا من المهن المرتبطة بالمكاتب أو الشهادات الجامعية. في مجتمعاتنا، ما زال كثير من الأسر يدفعون أبناءهم دفعًا نحو الطب أو الهندسة أو الحقوق، باعتبارها رموزًا للنجاح، بينما تُعتبر المهن الفنية كخيار للمتعثرين دراسيًا، لا للمتميزين أو الطموحين. المفارقة الصادمة أن سوق العمل يعاني من نقص حاد في الكفاءات الفنية والمهنية، بينما يمتلئ بخريجي الجامعات الذين يواجهون نسب بطالة مرتفعة. في المقابل، نجد أن خريجي المعاهد الفنية غالبًا ما يجدون فرص عمل أسرع، برواتب قد تفوق في بعض الأحيان ما يحصل عليه خريج جامعي. للأسف، لم يُسهم الإعلام كثيرًا في تصحيح الصورة النمطية للتعليم المهني. فكم من عمل درامي قدّم الحرفيين كأشخاص محدودي التعليم أو يعيشون على هامش الحياة؟ وكم من مناهج تعليمية كرّست لفكرة أن النجاح الحقيقي لا يكون إلا من خلال "الجامعة"؟ هذا التحيّز لا يضر فقط بالفنيين، بل يكرّس اختلالًا في التوازن المجتمعي، ويُبقي على فجوة كبيرة بين التعليم واحتياجات سوق العمل. المطلوب اليوم هو إعادة الاعتبار للتعليم الفني والمهني، ليس فقط عبر تطوير مناهجه وتجهيزاته، بل أيضًا من خلال: * حملات توعية مجتمعية تعيد رسم صورة الحرفي والفني كعنصر فاعل ومحترم. * دمج التعليم الفني في السياسات الاقتصادية كأداة تنمية لا كبديل مؤقت. * إشراك الإعلام في تسليط الضوء على قصص نجاح فنيين ومهنيين حقيقيين. * ربط التعليم الفني بالابتكار وريادة الأعمال، لا مجرد الوظائف الروتينية. التعليم الفني والمهني ليس خيارًا منخفض القيمة، بل قد يكون الخيار الأذكى في عالم يتغير بسرعة، ويُعيد تعريف مفاهيم العمل، والدخل، والنجاح. لقد آن الأوان لنكفّ عن تصنيف الناس بشهاداتهم، وأن نبدأ في تصنيفهم بما يضيفونه لمجتمعاتهم. فالمجتمع الذي يحتقر التعليم المهني، يُقصي عن نفسه فرص التقدم الحقيقي.