استمدت الأنظمة الحاكمة شرعيتها، على مدار عقود، وتحديدا منذ الحرب العالمية الثانية، على الديمقراطية، والتي تعتمد العديد من الإجراءات والمعايير، على رأسها العمليات الانتخابية، التي تسمح للشعوب باختيارات قادتهم وممثليهم، بينما قام النظام الدولي على نظام ديكتاتوري، يعتمد القوة المطلقة، التي تحظى بها الولاياتالمتحدة، ليصبح القمع هو الوسيلة التي فرضت بها الديمقراطية، وهو ما بدا في العديد من النماذج، منها العراق، والذي يجسد الكيفية التي أدارت بها أمريكا العالم، تحت غطاء نشر الديمقراطية، عبر القوة، في صورتها الصلبة، من خلال التدخل العسكري المباشر، بينما اعتمدت أدوات أخرى، على غرار العقوبات والعزلة الاقتصادية، على خصومها الأكثر قوة بهدف إنهاكهم والضغط على أنظمتهم السياسية للدوران في الفلك الأمريكي. تلك الحالة المختلة دعمتها الأوضاع الدولية، في ضوء التحالفات الأمريكية، والتي شكلت أغلبية كبيرة، خاصة في إطار قيادة واشنطن للمعسكر الغربي، تحت مظلة الناتو، وامتداداتها في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، والعديد من دول أمريكا اللاتينية، مما منح الرؤى الأمريكية قوة الشرعية الدولية، وهو ما ساهم بصورة أو بأخرى، في معظم الأحيان، في تواري العورات الأممية، وعلى رأسها حق الفيتو، رغم انكشافها في مواقف محدودة، منها القضية العراقية التي أسلفت الإشارة إليها، حيث لم يحظى الغزو بموافقة أممية، مما دفع إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش باستبدالها بما أسميته في مقال سابق ب"شرعية التحالفات"، معتمدا على مشاركة عسكرية رمزية من فرنسا وبريطانيا، ودعم سياسي واسع النطاق. وأما الآن فالأوضاع تبدو متغيرة، فالمواقف الأمريكية لم تعد تحظى بالزخم الدولي، بل وأن قيادة واشنطن الدولية أو حتى لمعسكرها الغربي، باتت على المحك، في ضوء خروج صريح أحيانا، أو على استحياء في أحيان أخرى، على الرؤى التي يتبناها البيت الأبيض، وهو ما يبدو في الموقف الدولي الموحد ضد العدوان على غزة، وسلسلة الاعترافات المتواترة بالدولة الفلسطينية، تخلق واقعا جديدا، يدور حول ما إذا كان الأوان قد آن لتطبيق الديمقراطية في مفهومها الدولي، بعد عقود طويلة من الترويج لها عالميا، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن الالتزام بما أرسته أمريكا لعقود كان مرهونا بما تقدمه لحلفائها من مقابل سواء سياسي أو اقتصادي أو أمني أو عسكري، وهي المزايا التي باتت تتنصل منها واشنطن في السنوات الأخيرة. في الواقع، تبدو الديمقراطية التي أرست واشنطن وحلفائها الغرب مبادئها، منذ الأربعينات من القرن الماضي، اعتمدت نهجا عالميا، عبر تعزيز المفهوم داخل الدول، بينما قمعته على المستوى البيني، في إطار مناقشة القضايا الدولية، وهو ما يبدو في بنية النظام الدولي نفسه، عبر منطق "الفيتو"، الممنوح لخمسة دول فقط، ليعطي أي منهم الحق في تقويض أي قرار، فيما يتعلق بالمسائل الإجرائية، حتى وإن حظى بالأغلبية المطلقة، داخل أروقة مجلس الأمن، بل وأنه في حالة الخلاف بين ما هو إجرائي أو غير إجرائي، يتم التصويت على تصنيف المسألة محل التصويت، باعتباره شأن إجرائي، فتنتصر إرادة دول الفيتو في نهاية المطاف، وهو ما يعكس ازدواجية صارخة بين نداءات واشنطن الديمقراطية، ونزعاتها الديكتاتورية، والتي باتت تتجاوز الشأن الدولي، نحو الداخل الأمريكي نفسه، وهو ما أثار قلقا بالغا بين المتابعين. المشهد الأخير في الأممالمتحدة، والذي تجسد في انسحاب الوفود من القاعة أثناء خطاب بنيامين نتنياهو، يعكس تغييرا جذريا في المشهد الدولي، لا يقتصر على مجرد استفاقة عالمية على ما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات، وإنما يمتد إلى حقيقة العزلة التي لا تعانيها إسرائيل بمفردها، وإنما أيضا أمريكا، فالدعم الدولي الذي حظت به تل أبيب لعقود، كان مرتبطا بالأساس ب"أمريكا المهيمنة"، وبالتالي فالخروج عن طوعها يعني عزلتهما معا. العزلة لا تقتصر على النطاق الدولي، فالداخل الإسرائيلي والأمريكي يعانيان من قدر كبير من الغليان، وهو ما يبدو في احتجاجات تل أبيب لوقف الحرب وإعادة الرهائن، وتراجع نفوذ اللوبي الداعم لإسرائيل في واشنطن، وهو ما أكده الرئيس دونالد ترامب نفسه، في تصريحات تلفزيونية قبل أسابيع، ليصبح استمرار الحرب والدعم الأمريكي لها مناهضا لمفهوم الديمقراطية، في الداخل. المشهد الحالي برمته، يعكس عجز الشرعية الدولية، في إطارها الأممي، عن تحقيق العدالة، والقائمة في قضيتنا الفلسطينية، على حل الدولتين، وإنهاء الحرب في غزة، بينما يخلق شرعية جديدة، ذات طبيعة شعبوية، تتجلى في خروج الاحتجاجات بين أوروبا والولاياتالمتحدة، وحتى إسرائيل نفسها، لتحمل نفس المطلب، وهو إنهاء الحرب، متجاوزة لحدود دولة أو حتى إقليم بعينه، للانتصار لقضية ذات طبيعة دولية، بينما يبقى محلها هو الشارع، وليس القاعات المكيفة، وعبر الهتافات، وليس الخطابات الرسمية المنمقة الشرعية الجديدة تتجاوز في قوتها الشرعية الأممية، التي تنتهك يوميا تحت مظلة الفيتو، وتتجاوز شرعية التحالفات، التي استحدثتها واشنطن إبان حربها على العراق، إذا أنها تتجاوز التمثيل الرسمي للشعوب عبر ممثلي الأنظمة الحاكمة، نحو خروج آلاف البشر في الساحات والميادين، ليس للمطالبة بإصلاح الداخل، أو لتحقيق أهداف فئوية، ولكن للانتصار إلى شعب مظلوم منذ عقود، يعاني ويلات القصف والجوع والتشرد، وهو ما يضفي أبعادا إضافية للشرعية الدولية، ويضع الأممالمتحدة في صورتها الحالية في مأزق حقيقي. وهنا يمكننا القول بأن الشرعية الجديدة التي تحظى بها فلسطين، تحمل إطارا "كونيا"، يتجاوز الدول والمنظمات، تمتد في نطاقها من مشارق الشمس إلى مغاربها، بل واقتحمت دار نتنياهو، وأصدائها تصدح داخل منزله، بالدعوة إلى إنهاء الحرب، وتحقيق الأمن والاستقرار، وهو ما لا يمكن أن يتحقق سوى بإنهاء الاحتلال.