تدور الأيام، وتمضى الشهور، وتتقلب الأعوام وتسحب من خلفها الأعمار، وكلما أقبل شهر المحرم من كل عام تذكر المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها هجرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينةالمنورة. الكَيّس من الناس هو الذى يتعظ بتقلب الليل والنهار، ويعمر أوقاته بالإيمان الصادق وبالسلوك الحميد والعلم النافع والعمل الصالح . الكَيّس من الناس هو الذى يجد ويجتهد فى أن يكون من الذين يبنون ولا يهدمون ويصلحون ولا يفسدون ويجمعون ولا يفرقون ويتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، ومن الوصايا الحكيمة، والتوجهات القومية، قول الرسول صلى الله عليه وسلم " : يَا أَيُّهَا النَّاسُ , " أن لَكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا إلى مَعَالِمِكُمْ , وَإِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ : أَجَلٌ قَدْ مَضَى لا يَدْرِى مَا اللَّهُ فَاعِلٌ فِيهِ, وَأَجَلٌ قَدْ بَقِى لا يَدْرِى مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ، فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ , وَمِنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ , وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ, وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ، فَوَ الَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ, وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ دَارٍ, إِلا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ " . يقول على بن أبى طالب رضى الله عنه : مَن أمضى يومَهُ فى غيرِ حَقٍ قضاه أو فَرضِ أدّاه أو مَجدٍ بناه أو حَمدٍ حصّله أو خير أسسه أو عِلمٍ اقتَبَسه فقد عقَّ يَومَهُ. ويقول الصحابى عبدالله بن مسعود رضى اللهُ عَنه : ما نَدِمتُ على شئٍ ندمى على يَومٍ غَربت شمسُه ونقصَ فيه أجلى ولم يَزدد فيه عمَلى . المتدبر فى حادث الهجرة النبوية الشريفة، يرى ألوانًا من الدروس النافعة ومن التوجيهات الحكيمة، فالهجرة ليست حكاية تحكى أو رواية تروى أوقصص تقصى بل نستل منها الدروس والعبر والعظات ونطبقها واقعًا عمليًّا فى دنيا الناس. من وحى الهجرة نتعلم محبة الأوطان، فقد عاش النبى فى أم القرى أكثر من خمسين سنة، بها ولد، وعلى ترابها نما، وفى أرجائها تنقل، ومن هواهئها استنشق، وفوق أرضها قضى شبابه وكهولته، وأحبها كما يحب العقلاء أوطانهم، ولقد التفت صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهو يغادرها وقال( يامكة، والله لأنت أحب بلاد الله إِليَّ، ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت) من وحى الهجرة نتعلم أداء الأمانة حتى مع الأعداء فقد كان صلى الله عليه وسلم، يلقب بالصادق الأمين، وكان من أعدائه من يضع عنده الأشياء الثمينة ليحفظها له إلى حين طلبها منه، وحينما كُلف بالهجرة، وكَلَ ابن عمه على بن أبى طالب رضى الله عنه برد الأمانات إلى أهلها. من وحى الهجرة نتعلم بدأ صلى الله عليه وسلم منذ الأيام الأولى عند صوله المدينة بالمؤاخاة " التى نفتقدها فى زمانينا هذا" بين المهاجرين والأنصار، تلك المؤاخاه التى جعلت المسلمين جميعًا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، تلك المؤاخاه التى مدح الله بسبب المهاجرين لعفافهم وعلو همتهم ومدح الأنصار لسخائهم وكرمهم وإيثارهم للمهاجرين على أنفسهم. من وحى الهجرة نلمح دور المرأة فى المهمة التى اسندت إلى السيدة أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما ودور أسماء لم يكن هو تجهيز الطعام فقط بل قامت بإخفاء المعلومات التى تعرفها عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. من وحى الهجرة نتعلم أن النصر حليف الصادقين المخلصين قولًا وعملًا، ومن أوضح الأدلة على ذلك فقد هاجر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من مكة وليس معه سوى سيدنا أبى بكر الصديق ثم عاد إليها بعد ثمانى سنوات ومن حوله أكثر من عشرة آلاف، ودخلها دون قتال يذكر، دخلها وهو يتلو قوله تعالى (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ أن الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾.