ما زلت أذكر فى صغرى تليفزيون بلدنا.. وأكاد ألمس أول تطور مؤثر فى تشكيل الشخصية المصرية مع بدء إذاعة برنامج "صباح الخير يا مصر" والذى أتاح للتليفزيون - ذو القنوات الثلاث - أن يبدأ برامجه من الصباح المبكر ثم يستمر ضيفًا بلا استئذان على البيوت المصرية على مدار اليوم كله، أيامها أدرك أولى الأمر أن بإمكانهم أن يبثوا قناعتهم من خلاله – بغض النظر عن حرمتها أو حلتها – إلى أعمق أخاديد جينات الإنسان المصرى. فقد ظهر جليًا تفوق دوره على دور الأسرة والمدرسة والجامع وبفارق كبير ثم حدث تطور درامى للإعلام مع بدء ما يسمى بعصر السموات المفتوحة أو عصر الاستثمار الإعلامى، إذ انتشرت بشكل سرطانى القنوات التليفزيونية المملوكة للأفراد، وتخصصت فى شتى مسارب الحياة ومع زيادة أعداد تلك القنوات زاد التنافس فيما بينها. وكان طبيعيًا أن تبحث كل قناة عما يميزها، وعما يستقطب جمهور المشاهدين إليها أكثر من غيرها، وعما يزيد من حصتها فى سوق الإعلانات المصرى بشكل يفوق غيرها، ولقد توصل القائمون على تلك القنوات وهم مهمومون ببحثهم عن السلعة الرائجة أن كنزهم الخفى موجود فى مجالين لا ثالث لهما الجنس ثم الدين. فى الجنس على سبيل المثال وجدنا قنوات تناقش لأول مرة موضوعات لم تجد من قبل من يجرأ على طرحها حتى فى المجالس الخاصة، فإذا بها تجد من يناقشها جهارًا نهارًا على مسامع الأطفال فوجئنا بمن يطرح موضوعات مثل طول عضو الذكر وأثره فى العملية الجنسية ومثل الشبق الجنسى وكيفية الوصول إليه، ومثل لواط الرجال وأنماطه، ومثل سحاق النساء وارتفاع نسب ممارسيه.. وقد يقول قائل – وأؤيده فى ذلك – أن الثقافة الجنسية مطلوبة وأننا لا يجب ألا ندفن رءوسنا فى الرمال لكن الثقافة الجنسية التى أبغيها وأؤيدها هى تلك الثقافة التى تضع إطارًا عمريًا لمشاهديها، ويقدمها متخصصون مشهود لهم بالعلم والتربية، ولا تخل بالمجتمع وثقافته. أما الثقافة التى تأتى فقط من خلال امرأة تقوم بدور المعد والمذيع والاستشارى رغم أن كل مؤهلاتها أنها تتمتع بقدر عال من التبجح والوقاحة فتلك ثقافة لا أؤيدها ولا أبغيها ثقافة تأتى تحت ردائها قنوات متخصصة للرقص الشرقى بخلاعة وعرى لم نعهدهما من قبل فتلك ثقافة لا أؤيدها ولا أبغيها.. ثقافة لقنوات تخصصت فى الإعلان عن أدوية يقال إنها للتطويل أو للتأخير أو للتدوير، وعن استشارات للسحر والجن يصفونها بأنها "استشارات روحانية"، فتلك ثقافة لا أؤيدها ولا أبغيها.. ثقافة لقنوات تستضيف ضيوفًا يعلم الجميع أنهم لا يمتلكون ما يقدمونه للمشاهدين إلا السفالة والتجاوز فتلك ثقافة لا أؤيدها ولا أبغيها.. ثقافة لا تكتفى بزجاج يتهشم أو موج بحر يتدفق للتعبير عن مشهد اغتصاب ولا تقر عيناها إلا بعرض مشهد الاغتصاب كاملاً بدعوى السياق الدرامى والكلام الذى لا يعيه أمثالى فتلك ثقافة لا أؤيدها ولا أبغيها..هذا عن الجنس. أما عن الدين فحدث ولا حرج.. إذ فتحت تلك القنوات ذراعيها لأدعياء الفتوى من المتأسلمين دون حساب حتى أن أحدهم -وهو الذى أقسم يومًا فى أحد البرامج التليفزيونية أن والدته كانت تتذوق بول أبيه لتعرف نسبة السكر فيه- بات ضيفًا دائمًا على معظم القنوات التليفزيونية -لا لشىء وإنما فقط لشذوذ أفكاره- وعلى الرغم أن تليفزيون بلدنا موجود منذ أوائل الستينيات وأن الأزهر -منارة الإسلام- قائم منذ ما يزيد على 400 سنة إلا أن عصر الاستثمار الإعلامى قد فتح على المشاهدين طاقة من الفتاوى لم يعهدوها من قبل فى الأزمنة الماضية لشذوذها وغرابتها فصرنا نسمع من يحلل للموظفة أن ترضع زميلها الموظف حتى يحل لها أن تجلس معه فى العمل دون محرم، وصرنا نسمع من ينادى بالتبرك ببول الرسول -رغم أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه قد مات منذ زمن بعيد ولا مجال للتبرك ببوله أو حتى عرقه أن صح الحديث- وصرنا نسمع من يجيز للخطيب أن يتلصص على من ينتوى خطبتها أثناء استحمامها حتى يستطيع أن يبنى رأيه فيها عن صدق وبينه، وأن كان هذا يحدث فى قاهرة الأزهر، فلا حرج أن سمعنا عن داعش فتواهم بفرض الحجاب على "مانيكانات" محلّات الثياب النسائية، وفتواهم بإغلاق محال الحلاقة الخاصة بالرجال ومنعهم من حلق ذقونهم، ثم أخيرًا فتاواهم بتغطية أثداء الأبقار حين مرورها بالمناطق السكانيه باعتبار أنها "تشكّل فتنة" وتخالف تعاليم الشريعة الإسلامية. الخلاصة يا سادة.. أن مقاولى الإعلام الاستثمارى قد شكلوا محورًا للشر يضم معهم على طرفيه زنادقة الدين وشياطين الجنس وأن شهوه المال قد أعمت بصائرهم عن الاعتبارات المجتمعية التى يفرضها الحس الوطنى والوعى الدينى فما صاروا يفكرون إلا للمال وما صاروا يعملون إلا من أجله فإذا لم ننتبه جميعًا فقل على أولادنا السلام وقل على بلادنا شر المآل..اللهم قد بلغ.. اللهم فاشهد.