أصبح النسيان هو المرض العصرى الذى يعانى منه المصريون فى السنوات الأخيرة؛ مرض جديد يترأس قائمة الأمراض الجسدية والنفسية مثل: القلق، التوتر، الاكتئاب، اللامبالاة، التهاب الكبد الوبائى، السرطان، إلخ. نسيان شمل أدق التفاصيل اليومية الشخصية مثل موعد ما، مهمة ما، مشوار، ووصل حتى تجسد فى الجملة التالية:" ده أنا نسيت كلت إيه امبارح، عايزنى افتكر....!". ولمعرفة العلاج الناجع لهذا المرض، لابد فى البداية من طرح السؤال التالى: لماذا ننسى؟ وبالرغم من أن هناك قائمة طويلة بأسباب علمية قد تطرأ على ذهن أى فرد ببساطة؛ مثل الضجيج والتلوث وسوء التغذية وسوء الحال وضيقه، والعمل الطويل المرهق سعيا فقط لتوفير الستر، والفشل فى تحقيقه مع ذلك، فإن تغلغل هذا المرض تغلغلا عميقا وخطيرا فى التفاصيل اليومية يجعله ظاهرة تستحق المزيد من البحث، فهذه القائمة لا تقدم العلاج الناجع، حتى ولو تحققت المعجزة واستطاع الشعب المصرى القضاء عليها تماما. وحيث إن الأمر قد أصبح هاجساً عاماً فقد أطلقت "المصرى اليوم" حملة "اعرف تاريخك عن طريق معرفة آثارك" التى بدأها بعض من الشخصيات العامة برعاية الصحيفة؛ وعالجه الشارع المصرى بخفة دمه المعهودة فى تعليق تكرر كثيرا على الوضع العام المصرى" احنا لازم نبقى محمية طبيعية". إن هذين الأمرين؛ الهاجس العام وتعليق الشارع المصرى، يوحيان بإجابة مقترحة: النسيان هو فعل ورد فعل فى الوقت نفسه. النسيان فعل: بمعنى أنه هو الفعل/ القانون الذى شكل خلال السنوات الخمسين الماضية الثالوث المقدس التالى: الذاكرة- الجمعية- الهوية المصرية- الشخصية المصرية. فعلى مستوى الذاكرة الجمعية تم ما يلى (بعض قليل مما حدث): أولا: إغفال تام لحقبات وفترات تاريخية بأكملها محيت تماما من الذاكرة الجمعية المصرية فى التعليم، وفى الثقافة، وفى السياسة، وفى الاقتصاد، وفى الإعلام وغيره. ثانيا: نسيان تام وإغفال لأحداث كبرى غيرت من المجتمع المصرى بل والدولة المصرية تغييرا كاملا- هذه الأحداث لا تعرف عنها الذاكرة الجمعية أسبابها الحقيقية بل وحتى نتائجها الحقيقية، والأكثر من هذا، لا تعرف الأغلبية أنها قد وقعت فى الأساس، ومن يعرف بوقوعها يعرف عن طريق المذكرات وكتب تاريخ يقع عليها بالصدفة، غير موثقة توثيقا علميا منهجيا واضحا وبالطبع القانون يدعم هذا الإغفال دعما كاملا ( قانون الوثائق على سبيل المثال). وبديهى أن النقطة السابقة أى تلك الأحداث الهامة والحقبات التاريخية الهامة هى إحدى المكونات الأساسية فى عملية بناء الهوية؛ فأن تعرف تاريخك يعنى أن تعرف هويتك: مما يعنى رسم طريق واضح علمى لما هو آت بناء على ما حدث والدروس المستخلصة منه، وتعنى الهوية أيضا تبعا لهذا، فى مظهر من مظاهرها، المشاركة التامة فى صنع القادم. عند هذه النقطة اكتمل الهرم، فإذا كانت الذاكرة الجمعية تتسم بكل هذه الثغرات والتشوهات والإزالات والإسقاطات، التى انعكست على الهوية وحملتها نفس ملامحها، تصبح الشخصية المصرية مثل قطعة الإسفنج التى تتقبل أى شىء وكل شىء، ثم يتم تفريغها فى ثوان عديدة وهكذا تتوالى هذه العملية حتى تهترئ تماما. بناء عليه، أصبح هذا القانون/ المنهج أى النسيان الذى تبنته مستويات الدولة ودعمه القانون حلا ناجعا تماما لخلق حالة السلبية التى نعانى منها الآن؛ انتقاء الذاكرة، ثم الإزالة وهكذا فلا تتعرض الدولة إلى أفراد تعرف حقوقها وتاريخها وتطالب بمشاركة واعية بناء على تراكم تاريخى ينير القادم، هذا على أبسط مستويات تفاعل أى مجتمع. من ناحية أخرى أصبح النسيان أيضا رد فعل: أى منهج تبناه المصريون عن طيب خاطر، وهو منهج بدأ من منطلق الميلاد الجديد، لكن عندما اتضح أنه ليس ميلاد جديد، تحول إلى منهج يخفف من هموم الوطن وشجونه وآلامه، فالألم غير محتمل، والنسيان حل ناجح فى بعض الأوقات، غير أنه مع الوقت نسى المصريون ما الذى أرادوا نسيانه فى البداية (على رأى الست: انسى النسيان) وتداخلت عوامل أخرى كرست الوضع تكريسا كاملا فأصبح النسيان قانون الحياة اليومية وسببا فى مشاجرات عديدة لا تنتهى، لأنه فى عمقه هو هروب دائم من مسئولية ما، أو بكلمة أدق عبء ما (إضافى)، لا مكان له وسط كل هذه الأعباء التى حددتها الدولة للمواطن المصرى يحملها. وهكذا أصبح النسيان، بالضرورة هو الوجه الآخر للنفى، لنفى كل شىء، من العقل والتاريخ حتى الوجه وأصابع القدم؛ نفى ما حدث وما يحدث وبالطبع ما سيحدث، وهكذا بدأ الأمر كولادة عسيرة لينتهى إلى ركود يؤدى إلى اهتراء. هكذا تحول النسيان الذى تبنته الدولة المصرية كمنهج تدريبى لترويض الذاكرة الجمعية المصرية لما يناسبها إلى منهج تبنته الشخصية المصرية الآن فى إدارة الحياة اليومية بتفاصيلها المنمنمة. إنها سياسة تتسم فى وجه من وجوهها بالنعومة الشديدة، ستفرض فعليا فى النهاية، مع صعوبة علاج هذا المرض الذى استشرى من العام إلى الخاص بالرغم من محاولات عديدة كمحاولة "المصرى اليوم" ببرنامجها المذكور أعلاه، أن تصبح مصر فى وقت قليل، محمية طبيعية حتى على الأقل لا ينقرض النوع المصرى.