في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، وفي بيت صغير على أطراف إحدى القرى المنسية بصعيد مصر المظلوم، يصدح الراديو بصوت المطرب محمد فوزي في بواكير الصباح: ذهب الليل طلع الفجر.. والعصفور صو صو.. شاف القطة قال لها بس بس.. قالت له نو نو.. يدخل الشيخ هريدي أبو شوقي صارخا في زوجته التي كانت تغني مع محمد فوزي لابنها شوقي ذي السنوات الثلاث الذي بدأ يهتز متمايلا على إيقاع الأغنية الراقص: إيه الهباب اللي بتسمّعيه للواد ده يا وليه ؟!! استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، إحنا مش قولنا الراديو المخروب ده لسماع القرآن والأحاديث الشريفة بس ؟ زي ما الشيخ أبو الشواكيش قال ؟! أنت عايزة ربنا يغضب علينا ويصيبنا بعذاب من عنده، لا حول ولا قوة إلا بالله ! بقى يارب ما اجيبش التليفزيون عشان ربنا يسلمنا من الفسق والضلال والشيطان اللي ساكن جواه وساكن كل اللي بيشوفوه وشغالين فيه، يقوم الشيطان يخش لي من الراديو !! وألاقيك والعياذ بالله فاتحة لي كباريه جوه البيت وعمالة بترقّصي الواد ع عالمنكرات والضلال المبين، انطقي يا ولية كيف دخل الشيطان بيتي وتمكن من أولادي ؟ أم شوقي وقد أصابها الخوف برجفة جعلتها لا تستطيع الوقوف على قدميها، بينما انخرط شوقي الصغير في البكاء والعويل: إيه الكلام اللي انت بتقولوا ده بس يا حاج هريدي ؟! دي أغنية لمحمد فوزي بتاعة عيال صغيرة عشان يبطلوا زن وقرف فينا، ولا شيطان ولا غيره يا خويا.. أبو شوقي وقد كاد برج من رأسه يطير: أممممممم محمد فوزي ؟!! وكمان عارفة اسمه يا ولية ياللي مابتخافيش ربنا - ثم هاجما- على رقبتها انطقي لاموتك..عرفتيه منين فوزي ده ؟ وشوفتيه فين يا ولية يا ناقصة !! أم شوقي وقد كادت تزهق روحها: فوزي دا مات من زمان يا حاج..مات والله.. ومالوش وجود ع الدنيا واصل !! أبو شوقي ضاغطا على رقبتها أكثر فأكثر: مات يعني عارفة عنه كل حاجة، وعارفة كان عايش إزاي ومات فين وإمتي، انت فجرت خلاص، انتي لازم تموتي عشان أغسل عارك. يذكر شوقي هذه الحادثة الأليمة من أعلى قمة في جبل الحلال بسيناء، ويذكر كيف أن الشرطة اقتادت والده إلى المركز ثم إلى المحكمة، ثم إلى الليمان حيث ينفذ عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لقتله زوجته وأم أولاده ظلما وعدوانا، وكيف أن أهل والدته قد جاءوا ودفنوها عشاء بعد ما استلموا جثتها من المشرحة، بينما تشرد هو وإخوته عند أخواله، وكيف أن امرأة خاله ظلت تعامله معاملة سيئة حتى هرب منها إلى شيخ والده "أبو الشواكيش" الذي ألحقه بمعسكر للإخوة في الصحراء، يتدربون فيه على مختلف أنواع الأسلحة، وأنه تربى متنقلا بين المعسكرات الصحراوية التي كانت تداهمها قوات الأمن الكافرة الفاجرة، حيث كانوا لا يستمعون إلا إلى خطب ابن لادن وأيمن الظواهري، وشيخه الجديد "أبو المناشير" بعد أن عهد به الشيخ أبو الشواكيش إليه لينبته نباتا صالحا ويجعل منه مجاهدا جلدا يرفع راية الإسلام حرة خفاقة في كل مكان ونصرة لإخوانه المسلمين. لم يكن هناك في المعسكر عند أبي المناشير أو في معسكر أبي الشواكيش، ثمة تليفزيونات حتى يتابعها شوقي، ولكنه حتما شاهدها على المقاهي التي كانوا يقصدونها قبل تنفيذ عملياتهم الجهادية، أو خبطاتهم الأمنية، وقد علم مبكرا أن الله قد أكرمه بالابتعاد عن هذا "المفسديون"- كما كان يحلو للشيخ كشك رحمه الله تسميته- فكله نساء خليعات، وأغاني ماجنة، بل إن القائمين عليه من عهرهم وفسادهم إذا كانوا يذيعون فيلما وبه رقصة ما والعياذ بالله وأتى وقت الصلاة فإنهم يذيعون الأذان ثم يكملون الرقصة الفاجرة من حيث قطعوها أو يعيدونها من البداية حتى لا تضيع على مشاهديهم ! وهل بعد هذا الغي غي؟ وهل بعد هذا الضلال ضلال ؟! قاتلهم الله أنى يؤفكون، لكن ماهو هذا الصندوق الخشبي الصغير وكيف تدخله كل تلك الأشياء ؟ هذا والله هو عجب العجاب، ومناط الاستغراب ؟ وقد توجه بهذا السؤال إلى شيخه العلامة أبي المناشير في إحدى محاضراته بعد صلاة العصر. قال الشيخ أبو المناشير ردا على شوقي: والله يا ولدي لقد طلع هذا الاختراع الآثم الداعر على أيامنا، وكنا نظن بداخله قوما من الجن أو العفاريت تتحدث إلينا، وكنت وأنا شاب في مقتبل العمر أظنه مثل "صندوق الدنيا"، فكنت أذهب خلفه لعلي أشاهد المتحدث يجلس وراءه، ثم تطور فكري إلى أنهم إنما يعطون المذيعين والممثلين والمتحاورين فيه -قاتلهم الله- شرابا سحريا يضغط أحجامهم، ثم يصغرون ويقصرون فيتمكنون من الدخول إليه، ثم عندما ينهون أعمالهم يعطونهم شرابا آخر مكبرا ليعودوا إلى أحجامهم الطبيعية.. إلى أن نضجت وصارحت أحد الإخوة الذين يحملون شهادات عالية في الهندسة الكهربائية، فبين لي أن كل ما اعتقده إنما هو محض أوهام وخيال ما أنزل الله به من سلطان، وأن الأمر إنما ينقسم إلى عدة مراحل حيث يذهب هؤلاء الموظفون والممثلون وغيرهم إلى بيت يدعى الاستديو فيصورهم المصورون على شرائط، ثم يذهبون بتلك الشرائط إلى استديوهات أخرى يبثون منها سمومهم الناقعة إلى عموم المؤمنين، ثم إن هناك شيطانا كبيرا يقطن في إحدى ضواحي القاهرة التي تدعى بضاحية المعادي، وله طبق كبير جدا يبث منه سموم هذا التلفاز اللعين، يدعونه بالقمر الصناعي، قاتلهم الله، فلا شمس ولا قمر إلا اللذين خلقهما الله، وإنما هم يلبسون على مغيبيهم ما يلبسون من الفسق والضلال.. وقد اختارتك العناية الإلهية يا شوقي أنت وتابعك شنواني لتكونا كالملك ووزيره اللذين يقضيان على هذا الشيطان اللعين ويريحان منه الأمة الإسلامية والعربية، فلا تجد أمامها إلا طريق الهداية طريقا، ولا تجد إزاءها إلا سبيل الرشاد سبيلا، وقد رتبنا العملية مع الإخوة هنا وفي القاهرة، وسوف تنزلان عبر المدقات الجبلية بعد أن تعبرا قناة السويس سباحة من نقطة ميتة، ستجدان عربة تقلكما عبر الطرق الجبلية حتى تنزلكما عند طريق القطامية، فتأخذان طريق التونسي الخلفي ناحية المقابر في الصباح الباكر، وقبل أن يفيق الشيطان فتصطادانه وتجهزان عليه قبل أن يفيق. يذهب شوقي وتابعه شنواني وقد أحسا أنهما ملك أسطوري ووزيره، أرسلتهما السماء فعلا ليخلصا تلك المدينة المسحورة التي يحكمها هذا الشيطان اللعين وطبقه الكبير الذي لابد من تدميرهما والقضاء عليهما قضاء مبرما، حتى تفيق المدينة المسحورة من سكرتها وترجع إلى عقلها ثم تنصبهما عليها ملوكا... يالها من أحلام لذيذة داعبت شوقي وتابعه شنواني وقد نزلا في دار السلام على مقهى أم بدرية انتظارا للهاتف المحمول الذي سيتصل بهما ويدلهما على الشخص الذى سيسلمهما الدراجة النارية ومدفع "آر بي جي" المعد خصيصا، والمهرب من ليبيا لهذه العملية المباركة، وقد كان التلفاز مفتوحا في قهوة أم بدرية على قناة مزيكا، وكانت المطربة اللبنانية مروى تتلوي على أغنيتها الشهيرة التي لطشتها من ليلى نظمي " أما نعيمة نعمين.. خلي عليوة يكلمني"، فقال شوقي لشنواني ناهرا: غض بصرك يا أخ شنواني، لا يفتننك الشيطان، فقد فقدت والدتي رحمها الله وعمري ثلاث سنوات في مثل هذا العبث. شنواني وهو يضع عينا في الأرض ويشعلق الأخرى بشاشة التلفاز: أصلها حلوة قوي يا أخ شوقي. شوقي بصرخة مكتومة: شنواني !! شنواني وقد وضع رأسه في الأرض: حاضر يا أخ شوقي.. استغفر الله العظيم.. شوقي مكملا: قريبا جدا يا عدوة الله سننتهي منك أنت وأمك وعليوة أيضا وشيطانكم المريد.. عند الإشارة ينطلق البطلان بدراجتهما النارية ناحية القمر الصناعي، ويدوران حوله دورة كاملة، ويسأل شوقي الذي كان في القيادة شنواني الذي يركب خلفه: ها يا شنواني.. شوفت الشيطان اللي هانقتله ؟ شنواني مرتعبا: لا يا أخ شوقي، شوفت الطبق الكبير اللي بياكل فيه بس، أكيد هرب في صورته الشيطانية حتى لا نراه، ولكن الحمد لله أنه لم يأخذ طبقه معه. شوقي وقد أوقف الدراجة على بعد خمسين مترا من القمر الصناعي وتناول سلاحه ثم..باسم الله.. الله أكبر ولله الحمد.. ثم... ياللا نهرب يا شنواني بسرعة.. صوت السلاح كان عاليا والحكومة على وصول... شنواني: الحمد لله خرقنا طبق الشيطان وقطعنا بثه إلى الأبد... في أحد المقاهي بشمال سيناء يرتاح شوقي وشنواني وقد اطمأنا أن عمليتهما نجحت نجاحا مبهرا، ثم فجأة يقوم المعلم صاحب المقهى بإدارة مفتاح التلفاز الذي كان مغلقا وقت وصولهما، لتظهر شارة قناة المولد التي كان يصدح فيها أحمد عدوية برائعته القديمة " سلامتها أم حسن" !