عندما تستمع إلى قوله تعالى: «ليس على الأعمى حرج»، بصوت الشيخ "محمد رفعت"، الذي رحل عن دنيانا قبل 67 عاما، يكاد قلبُك يتقطّع ألمًا مرتين، الأولى: حُزنا على من فقدوا نعمة البصر بشكل عام، والثانية: تعاطفا مع القارئ الضرير الذي وهبه الله قدرة فائقة على تصوير آيات القرآن الكريم بصوته الخالد، لم يكن "محمد رفعت" وحده من جمع بين عبقرية الصوت، وروعة الأداء، بل ينضم إليه كوكبة متميزة ضمت الراحلين: محمد صديق المنشاوى، مصطفى إسماعيل، محمود خليل الحصرى، ومحمود على البنا، صنعوا مع آخرين ما اصطلح على تسميته "دولة التلاوة"، كان كل قارئ منهم مدرسة متفردة في الأداء، كانوا سفراء للقرآن الكريم ولبلادهم، في عموم العالم، ولأن دوام الحال من المُحال، فقد خلف من بعد هؤلاء القراء العظام، خلفٌ أضاعوا هيبة "دولة التلاوة" وأعدموا مجدها، ولم يصبح في مصر الآن قارئ واحد يُشار له بالبنان، ويكفى أن نقيب القراء الحالى الشيخ "محمد محمود الطبلاوى" صرّح مرارا وتكرارا، بأنه لا يستطيع تمييز أصوات القراء المعاصرين، فقد شاهت الأصوات، واختلط الأداء، وضاع الإتقان، ولم يعد الحصول على لقب "قارئ معتمد بالإذاعة التليفزيون" أمرا عسيرا، بل يمكن اكتسابه من خلال وساطة مسئول كبير أو برلمانى نافذ، لم يعد حفظ القرآن الكريم كاملا والإحاطة بعلوم القراءات شرطا لاقتحام عالم الشهرة، ففى عصور الفساد تعلو الأحذية المبادئ المثالية، وتمتطى النعال القيم الرفيعة، لجنة الاستماع، قديما قبل أن يغزوها الفساد، رفضت "الطبلاوى" 9 مرات، والشيخ "نصر الدين طوبار" 6 مرات، أما الآن.. في زمن الفساد المتلاطم والمتراكم، فيمكن اعتمادك قارئا رسميا، حتى لو كنت أصم أبكم، "دولة التلاوة" صارت أثرا بعد عين، لم تملأ الأجيال الجديدة الفراغ الشاسع، الذي تركه الكبار، الأصوات التي تعوى ولا تكاد تبين جعلتها "دولة الديابة"، الذين يحرصون على الاستماع للقرآن الكريم، لا سيما ونحن في شهر رمضان المعظم، يلجئون للأسماء القديمة، يحلقون معها في عالم من الروحانيات، تفتقده الأصوات الحالية ذات الأداء "البلاستيكى"، شيخ عموم المقارئ المصرية "السابق" الدكتور "أحمد عيسى المعصراوى"، حذر في وقت سابق، من تراجع مستوى الأداء القرآنى بشكل لافت، مدللا على ذلك بعدم حصول مصر على المراكز الأولى في المسابقات القرآنية منذ فترة طويلة، ولكن كالعادة، مثل هذه الأمور لا تحظى بالأهمية الكافية عند أصحاب الحل والعقد.