«الدواليب» عجزت عن استيعاب الملفات «القضايا» ملقاة بلامبالاة في غرف الحفظ الدكتور أحمد مهران: سكرتير التحقيق المهمل ينال نفس عقوبة المتهم في القضية «تلال الملفات» ملقاة على الأرض أمين سر غارق في الأوراق مواطنون ومحامون يبحثون عن ملفاتهم كعادته كل يوم.. استيقظ محقق "فيتو" مبكرا، وانطلق إلى إحدى المحاكم الكبرى لمتابعة أخبار ما بها من قضايا تهم الرأى العام، وفى نفس الوقت يبحث عن قضية مثيرة يرصد تفاصيلها.. كان اليوم روتينيا عاديا.. القضايا المنظورة أمام دوائر المحكمة قليلة وغير مثيرة للاهتمام، بدأ الملل يتسرب إلى نفسه وراح يتجول في أروقة وطرقات المحكمة.. لفتت نظره أكوام وتلال من الملفات الملقاة بإهمال على الأرض في بعض الطرقات، وفوق "دواليب" خشبية ومعدنية.. سأل عن تلك الملفات، وكانت المفاجأة عندما علم بأنها خاصة بقضايا بعضها صدرت فيه أحكام، والبعض الآخر ما زال منظورا أمام المحاكم.. واصل تجوله في المحكمة، ودخل عدة غرف خاصة بسكرتارية الجلسات وأمناء السر، فوجدها ملأى بالأوراق والملفات أيضا، لدرجة أن الموظفين اختفوا تماما وراء تلال الأوراق.. هذه المشاهد أثارت في ذهن المحقق العديد من التساؤلات أبرزها: ماذا يحدث لو أن مجهولا عبث في أحد هذه الملفات أو استولى عليه.. من المسئول عن هذا الكم الهائل من الأوراق المهمة.. ولماذا لا توجد غرف حفظ مجهزة ومتطورة لوضع ملفات القضايا فيها.. وما هو مصير القضايا التي تلفت ملفاتها أو اختفت كاملة؟ هذه التساؤلات وغيرها حاول المحقق الإجابة عنها من خلال أمناء السر وسكرتارية الجلسات، وكبار أساتذة القانون، ويرصد ما توصل إليه في السطور التالية.. استطاع المحقق الدخول إلى غرف الحفظ والأرشيف، وغرف أمناء السر في واحدة من أكبر المحاكم المصرية.. للوهلة الأولى تخيل أنه في مخزن ضخم للمهملات، فمئات الآلاف من ملفات القضايا ملقاة على الأرض وفى الطرقات بإهمال شديد، أضحت تلالا من الأوراق.. بعضها تم وضعه بلا ترتيب داخل أجولة متهالكة، والبعض الآخر أصابه التلف بفعل مياه المجارى.. وفى أحد المكاتب شاهد مجموعة من أمناء السر، لا تظهر منهم سوى الرءوس فقط، بعد أن حجبتهم "أكوام" الملفات.. ظن أن هذه القضايا تم حسمها بشكل بات ونهائى، ولا أهمية للملفات الخاصة بها، غير أن مصدر مطلع في المحكمة، أكد أن هذه الملفات خاصة بقضايا منظورة أمام دوائر المحاكم المختلفة، ومن بينها جنايات وجنح وأسرة، وقضايا سياسية، وتعويضات ومستأنفة.. هنا أدرك "المحقق" أنه أمام كارثة بكل المقاييس، فمجرد تلف أو ضياع ورقة واحدة من ملف أي قضية، كفيل بتغيير مسارها تماما، وربما يتسبب في الزج ببرئ خلف القضبان، أو إفلات مجرم من العقاب، فضلا عن ضياع حقوق المتقاضين.. كما أن وضعها بهذا الشكل من الممكن أن يتسبب في كارثة مروعة، إذا ما نشب حريق لأى سبب من الأسباب داخل مبنى المحكمة. التقى المحقق أحد أمناء السر وسأله عن حكاية تلك الأوراق، وأسباب تراكمها بهذا الشكل، وخطورة ضياع أي ورقة منها، ومن المسئول عنها.. تنهد الرجل في ضيق واضح قبل أن يجيب: "هذه الملفات خاصة بآلاف القضايا، سواء التي انتهت أو التي مازالت منظورة أمام المحاكم.. من بينها قضايا مهمة جدا لو فقدت منها ورقة واحدة أو تلفت، لتسببت في مصيبة كبرى.. وهى ملقاة في الطرقات وعلى الأرض وفوق المكاتب والدواليب بهذا الشكل، نظرا لعدم توافر أماكن مناسبة لحفظها، ومن ثم فهى في عهدة "أمناء السر"، وفى حالة ضياع أي ملف أو تلفه أو فقدان مستندات منه، فإن أمين السر هو من يتحمل المسئولية كاملة عن ذلك، ويحال إلى جهات التحقيق المختلفة".. وأضاف: "هذه المسئولية أو العهدة هي "مصيبة" كبرى يحملها أمين السر على رأسه، ولا يعرف كيف يتصرف فيها، وقد خاطبنا عددا كبيرا من رؤساء المحاكم والمسئولين المتعاقبين كى يجدوا لنا حلا أو استلام تلك الملفات وتحمل مسئوليتها، ولم يستجب لنا أحد".. التقط زميل له طرف الحديث قائلا بانفعال: "هذا المنظر غير حضارى وغير آدمى ولا يليق بمحاكم مصر.. نحن 9 أمناء سر نجلس في غرفة مساحتها 4 في 6 أمتار، وكل منا له مكتب صغير وعدد من الدواليب وآلاف الملفات والقضايا، ونضطر لوضعها في الطرقات، وأعلى الدواليب، وفى ذات الغرفة نستقبل مئات المواطنين والمحامين يوميا، كل منهم جاء يسأل ويستفسر عن شيء معين في قضيته.. ووسط كل هذا الزحام، مطلوب منا أن نتذكر تفاصيل كل قضية، والأوراق الموجودة في كل ملف!". واصل المحقق تجوله داخل مكاتب سكرتارية الجلسات المكتظة بالأوراق والملفات، وتحدث مع سكرتير آخر عن المشكلات التي تواجهه ومطالبه لتحسين أجواء عمله فأجاب: "أكوام الأوراق وملفات القضايا، وعدم وجود مكان ملائم لطبيعة العمل، هي أهم وأبرز المشكلات التي نعانى منها، فالأوراق كما ترى ملقاة في كل مكان ومن السهل فقدانها أو تلفها.. ونحتاج إلى أماكن أكبر ومجهزة بطرق حديثة بحيث يتم حفظ الملفات المهمة فيها، بطريقة منظمة ويسهل استخراج أي قضية في أي وقت.. إذا تحقق ذلك فإن السكرتير أو أمين السر سينجز عمله بدقة وكفاءة وسرعة، ولن تتعطل مصالح المتقاضين، فضلا عن ضمان عدم التلاعب في أورق القضايا، أو فقدانها".. استوقفه المحقق متسائلا: "ماذا تقصد بالتلاعب؟".. فقال: "وضع ملفات القضايا بهذا الشكل، بالطبع يسهل عمليات التلاعب فيها، فمن الممكن الاستيلاء على أوراق مهمة منها مثل تقارير الطب الشرعى، أو المعمل الجنائى، أو استبدالها بتقارير أخرى مغايرة عن التقارير الأصلية، أو "سحب" تقرير تحريات المباحث في القضايا الجنائية، ومن السهل أيضا الاستيلاء على ملف القضية كاملا، وبالطبع فإن أمين السر أو السكرتير، هو الذي يتحمل المسئولية كاملة عن ذلك، ويتم تقديمه إلى جهات التحقيق المختلفة، ويحاكم بتهمة الإهمال، وربما تتم إحالته إلى محكمة الجنايات بتهمة التلاعب في القضايا أو سرقة ملفاتها".. وعن مهام عمله قال: "مهمتى هي تحضير أوراق القضية وتجهيزها قبل موعد الجلسة بفترة كافية، وتقديمها إلى رئيس الدائرة التي تنظرها، وإضافة الأوراق والمستندات الجديدة التي يقدمها المحامون، أو قرارات المحكمة إلى الملف.. أيضا ترتيب وتصنيف القضايا حسب نوعها، وغيرها من المهام وبالطبع هذا العمل مرهق جدا في ظل وجود هذا الكم الهائل من الملفات، وعدم وجود أماكن مناسبة لحفظها.. الغريب أنه في حالة تعطل العمل أو تأخرى في إنجازه، فإننى أخضع للعقاب، وتتم مجازاتى من قبل القاضى، ومن الممكن أن يخصم من راتبى مبلغا قد يصل إلى ألف جنيه". سكرتير جلسات آخر تحدث عن تسبب مياه المجارى، في إتلاف العديد من أوراق القضايا المهمة، وأكل الفئران لأوراق قضايا أخرى قائلا: " في بعض الأحيان يطلب منا استخراج شهادات معينة عن قضايا محددة، أو إعداد تقارير عن الإجراءات التي تمت فيها، وبعد بحث طويل عنها وسط "جبل" الملفات، نكتشف أن أوراقها قد تلفت تماما بفعل مياه المجارى، أو أن الفئران أكلت جزءا كبيرا منها، وفى هذه الحالة يتم إعداد مذكرة بما حدث للملف، وإثبات سبب التلف وذلك لإخلاء مسئوليتنا عنها.. أما صاحب القضية أو الملف فإن أول شيء يفعله عند اكتشاف تلف أو ضياع قضيته، هو تقديم بلاغ في السكرتير أو أمين السر، للتحقيق معه ومعاقبته على جريمة لا ذنب له فيها". بعد أن انتهى المحقق من جولته داخل المحكمة، أثير في ذهنه سؤال مهم هو: "ما هو مصير القضية التي تختفى أوراقها أو مستندات مهمة منها؟" هذا السؤال أجاب عنه الدكتور أحمد مهران أستاذ القانون العام، ومدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية قائلا: "ملفات القضايا بصفة عامة تكون في حوزة سكرتير التحقيق، أو أمين السر، وهو مسئول عنها مسئولية كاملة، وفى حالة ضياعها أو فقدان أوراق ومستندات مهمة منها، فإنه يتحمل مسئولية ذلك كاملة، وربما يصل الأمر إلى إحالته إلى محكمة الجنايات، بعدة اتهامات منها تضليل العدالة، والرشوة.. وتوجه له اتهامات متعلقة بعمله الإدارى منها الإهمال الجسيم، والإخلال بواجبات عمله.. وإذا كانت المستندات المفقودة متعلقة بأدلة ثابتة ودامغة في القضية، فإن عقوبة أمين السر أو السكرتير، قد تتساوى مع عقوبة المتهم نفسه، حيث يتم التعامل معه بنفس معاملة "شاهد الزور".. الدكتور مهران تحدث عن موقف القضية التي فقدت أوراقها موضحا: "يجب أن نفرق بين نوعين من القضايا.. الأول متعلق بقضايا قوامها محضر في قسم الشرطة، مثل جنحة ضرب مثلا.. هذا المحضر يتضمن الادعاء من قبل المبلغ، بالإضافة إلى شهادة الشهود.. أي أن وسيلة الاتهام الوحيدة في مثل هذه القضية هي "الشهود"، في حالة ضياع هذا المحضر، فإن وسيلة الاتهام ستختفى ومن هنا يمكن أن يضيع الحق.. أما النوع الثانى، فيتعلق بقضايا الجنايات الكبرى مثل القتل وغيرها، ووسيلة الإثبات في هذه القضايا ليست شهادة الشهود فحسب، بل هناك تقارير الأدلة الجنائية، وتقارير الطب الشرعى، ومحاضر تحريات المباحث، وغيرها.. وفى حالة فقدان أو تلف هذه الأوراق كلها أو بعضها، فمن الممكن استخرجًا بدلا منها مرة أخرى، أي أن مصلحة الطب الشرعى تستخرج تقريرا مطابقا للتقرير المختفى من واقع دفاترها وسجلاتها، ونفس الشيء بالنسبة للأدلة الجنائية، وبالنسبة لمحضر تحريات المباحث، فيتم إعداد محضر جديد يحمل نفس رقم المحضر "المختفى".