الإدارة بالصفقات السرية، لعنة من لعنات مبارك. لم يخترعها مبارك، لكنه عاش عليها، وصنع لها قواعد وأعرافا بعد أن اضطر إلى السير فى التعددية السياسية دون رغبة فى فقدان السيطرة. كان يريد أن يظل ممسكا بقبضته كما فعل أسلافه، لكنه فى نفس الوقت لا يستطيع أمام علاقاته بالعالم أن يعود إلى نظام الحزب الواحد، فاختار الصفقة ليستمر الحزب الواحد مع كعكة يقسمها على من يرضى عنه من أحزاب. تعددية تحت السيطرة. قبضة أمنية تطال كل تفصيلة فى الدولة والمجتمع. تضخمت القبضة إلى درجة خنقت الدولة والمجتمع. وفسدت الكعكة.. ومعها كل القوى القديمة التى ارتضت بانتظار نصيبها. ولم يعبر من هذه القوى القديمة سوى الإخوان المسلمين. كل الأحزاب القديمة انتهت تقريبا صلاحيتها، لأنها فقدت بالصفقات جهاز المناعة، لم تعد تملك تنظيما قويا فى ظل قيادات تتحرك بالتليفونات السرية (كانت فى السنوات الأخيرة للنظام معلنة) أو بإيقاع علاقتها بالدائرة المحيطة بقصر الرئاسة (إيقاع بين الرضا أو الغضب أو المنافسة). التنظيم القوى سر نجاة الإخوان. لم تكن الصفقات مع النظام هدفهم الوحيد، لكنها أيضا كانت فترات بناء التنظيم، وهذا ما جعل مكتب الإرشاد دائما فى قبضة «النواة القديمة» من القطبيين (نسبة إلى سيد قطب) يحافظون على قوة التنظيم قبل كل هدف آخر. وهكذا تكوّن جسم كبير للجماعة لكنه بلا أذرع.. وعقله مشغول بالبقاء لا أكثر. وهذا هو مأزق الإخوان.. الجسم الكبير موجود إذن ويحقق نجاحات فى لعبته المفضلة: الانتخابات.. لكنه ماذا سيفعل؟ كيف سيدير ماكينة الدولة أو يعبر بها نفق المرحلة الانتقالية؟ العقلاء فى التنظيم يدركون المأزق، ويسيرون باتجاه التقارب مع التيارات المدنية.. لكن العقلاء ليسوا وحدهم، هناك جمهور كبير يريد الاستمتاع بالفوز الكاسح، ويتعاملون بروح الحزب الوطنى: نحن الدولة.. ومعنا شرعية الصناديق. يعرف الإخوان قبل غيرهم أن ما وعدوا به جمهورهم لن يتحقق، وأن فكرة الانقلاب على الدولة أو خطفها لمشروعهم السياسى القديم شبه مستحيل، ويدركون أيضا أن ما تكسب به الانتخابات ليس بالضرورة ما تنفذه على الأرض. يدركون أيضا أن التنظيم سر النجاح (فى حسم المقاعد حتى ضد منافسيهم السلفيين) والفكرة (انقلاب الدولة الدينية) سر الرعب من وصول الإخوان إلى أغلبية البرلمان. .. كيف سيحل الإخوان مأزقهم؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة، بداية من تحالفات الرئاسة، إلى أى طرف سينحاز الإخوان؟ هل سيتصرفون بمنطق الجماعة القديم فيحشدون ضد عبد المنعم أبو الفتوح (المنشق عن الجماعة) مثلا، ويراهنون على مرشح مثل عمرو موسى (يراه الكثيرون مرشح استمرار النظام القديم)؟ أم ينتصر منطق الحزب صاحب الأغلبية ويبحث عن طرق جديدة للخروج من المأزق مثل دعم تحالف (البرادعى- أبو الفتوح) يراه الكثيرون حلا مثاليا للأزمة الراهنة؟ هذا مثال واحد على مأزق الجماعة فى لحظة يعاد فيها بناء الدولة، وتبدو فرصة أصحاب الغزوات، فى إقامة دولتهم (الدينية)، أو المعركة الأهم لأصحاب الجمهورية القديمة فى استعادتها بأقنعة جديدة. مع مَن سيتحالف الإخوان؟ وهل ستملأ القوى الصاعدة بقوة الثورة (حتى لو لم تكن ثورية) الفراغ السياسى؟ .. ما زالت الأسئلة مطروحة.