إنه فخ فعلا.. السؤال نفسه فخ: هل توافق على وثيقة السلمى أو ترفضها؟ هكذا جملة دون النظر فى التفاصيل أو التدقيق فى ما بين سطورها. الارتباك الحقيقى ليس لأن الوثيقة ولا قواعد اختيار الجمعية التأسيسية مرفوضة بالكامل، ولكن لأنها تأتى بعد سياق من قمع الحريات من المحاكم العسكرية إلى السيطرة على الإعلام وبث رسائل معادية إلى الثورة. وفى المقابل كانت التنظيمات الإسلامية (من الإخوان إلى مجموعات طالبان مرورا بتنظيمات وسطية) تتصور أن هذه لحظتها، وعليها القفز إلى أعلى بالانتخابات التى تتخيل أنها مضمونة. الوثيقة تضم قواعد ومبادئ أساسية فى إطار بناء جمهورية جديدة، وهذا ليس موضوع الخلاف. الموضوع الأساسى أن الوثيقة تضع الجيش فوق الدولة، ولا حاميا للدستور، وكأنه على مصر أن تمر بمرحلة تركيا حين لم يكن هناك مجتمع سياسى ولا قوى تدافع عن نهضة تركيا بعد عثرة الخلافة إلا الجيش. الموديل التركى لا يصلح هنا، لأنه قديم ويعبر عن وضع سياسى تتجاوزه مصر الآن، فالتغيير تم بفعل ثورة شعبية سلمية، لا بقوة الجيش ولا سيطرته على الدولة بعد انهيار الخليفة الأخير. التغيير لم يصنعه الجيش، بل الشعب. وهنا لا بد من أن يعبر الدستور عن قوة المجتمع، لا عن قوة الجيش فى حماية الدولة، والفارق كبير لأن بناء الدولة على قوة المجتمع يفتح الأفق الديمقراطى، بينما وجود الجيش سيعيد ظل الدولة التسلطية بكل ما يحمله هذا الظل الثقيل من ممارسات متعددة القمع. ولهذا فإن منح الجيش وصاية علوية هو قفزة أو اختطاف للثورة، وكأنها لم تقم من أجل تغيير شكل الجمهورية، فالجمهورية أنواع، ولكن من أجل ترميم جمهورية الجنرال بعد تحسينها بقليل من الكلام عن فساد مبارك وحاشيته. الجيش لا يريد عودة مبارك، لكنه لا يريد الديمقراطية، ولا بناء نظام جديد، يبنى على الحريات ولا القمع. الجيش والإسلاميون يتصارعان الآن على من له الحق فى القمع، وإغلاق المجال السياسى الذى حررته الثورة، وهو صراع يمثل التحدى مع القوى المدنية بشكل واسع، ومع القوى الإسلامية التى تميل إلى عقلانية وحداثة بشكل أكثر حدة. الإسلاميون يشعرون بأن الجيش يحرمهم فرصة خطف الدستور، واللعب بالأغلبية البرلمانية المتخيلة للانفراد بكتابة الدستور الجديد، الذى لا يمكن تخيل أن تيارا واحدا سينفرد به وأن هذا الانفراد سيمر فى سلام. الإسلاميون أو أصحاب الصوت العالى منهم كشفوا عن نزعة تسلطية، كما أن هناك علمانيين فى الدولة كشفوا عن نفس التسلطية عندما اختصروا الإسلاميين فى هذا التيار الذى تغويه الدعاية التليفزيونية، وصدمات اكتشاف أن هذه النوعية من التفكير تعيش فى القاهرة لا فى طالبان أو فى تورا بورا. الثورة منحت تنظيمات تورا بورا جسارة العمل العلنى، ولأنها ما زالت تعمل بهذه العقلية حاولت نقلها إلى مجال السياسة وهو مجال مختلف، فأحدثت كوارث مرعبة وعبثية تماما. هذه التنظيمات تحالفت مع الجيش وتصورت أنها بتأييدها المطلق له سيفتح لها الطريق لخطف الدولة. هذه التصورات صنعت مجالا للخوف بين القوى الديمقراطية والإسلاميين، وهو ما صنع فخ الوثيقة: وافقوا على وثيقة السلمى، لكى يوقف الجيش زحف الإسلاميين. منطق رائج ومبرر بين قوى ديمقراطية وثورية تشعر بالخديعة من موقف بعض التيارات الإسلامية التى مارست بعد الثورة سلطوية لا تقل ضراوة عن سلطوية المجلس العسكرية، بل وتزيد لأن قمعها يهدد الحياة اليومية. هل نقبل بالجيش ليحمى الثورة من الإسلاميين ورغبتهم فى توزيع القمع بمثالية يضعون عليها لافتة الدين؟ أو نرفض الوثيقة من دون توافق يكشف مدى معرفة الإسلاميين أن تصوراتهم عن خطف الدولة وهم فى ظل وجود الجيش وأن الحل هو القبول باستمرار الثورة فى تحرير المجال السياسى، لا فى إغلاقه من جديد على يد جماعات لا تملك تحقيق أهدافها عمليا، ولن تفعل شيئا سوى إعطاء مبرر جديد للعسكر بتعطيل الديمقراطية وإلغاء السياسة. القوى الديمقراطية أو المدنية لا تعاند القوى الإسلامية، لأنها متدينة أو مسلمة أو مخلصة لفكرة مثالية، ولكن لأنها تمارس التسلط والوصاية مثلها مثل الجيش وكل جمهورية الجنرالات. وتبدو الأزمة المكتومة الآن بين الجيش والإسلاميين هى صراع بين مشروعين للتسلط. والوقوف بين «الجنرال» و«طالبان» يأتى بالتمسك بقيمة الحريات، خصوصا الحريات الفردية فكيف تدعو فردا ليضع إرادته الحرة فى صندوق الانتخابات وأنت تحاصره بفتاوى تحريم الديمقراطية وتكفير من يمنح صوته للعلمانيين. تأييد المجلس العسكرى فى معركة الوثيقة خسارة جديدة للقوى الديمقراطية وتأجيل للثورة، وتعطيل لمسار بناء الدولة الحديثة، وهزيمة أمام قوى «طالبان» التى سريعا ما ستتحالف مع أجهزة القمع كما فعلت مع أمن الدولة وستفعل مع أى أجهزة تحاصر الحريات. الثورة لا بد أن تمنح القوى الديمقراطية -بمختلف أطيافها- قوة وسندا، لأنها ما زالت مؤثرة وخصبة فى توليد طاقات متجددة، وهو ما يقويها فى مواجهة الاستقطاب بين «الجنرال» و«طالبان».