غنى عن البيان أن الشرطة ومرفق العدالة والقضاء هما أبرز ملامح الدولة فى أى دولة، والدولة المصرية طبعا، ليست اسثناء من هذه الحقيقة، بل إن النظر فى تاريخها الطويل يشى بأنها كانت أكثر الدول إظهارا لهذين الملمحين خصوصا «الأمن» الذى اكتسب مع تراكم عهود وعصور الاستبداد والقهر أهمية وحجما متضخمين وتمتع بطغيان مستفحل حتى لقد صار «البوليس» فى ثقافة الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع وكأنه المعنى والمظهر الوحيد للدولة على ما يشى التعبير الدارج على ألسنة المصريين البسطاء عندما يدمغون أصغر مخبر أو عسكرى بأنه «الحكومة» شخصيا. هذه الثقافة تجعل المشهد الحالى فى البلد -حيث لا دليل مرئيا (تقريبا) على وجود البوليس فى دنيانا سوى أخبار تمرد أمناء الشرطة واعتصام الآلاف منهم أمام بوابات وزارة الداخلية بينما بوابات عشرات المحاكم مغلقة بالضبة والمفتاح بسبب الأزمة والشجار العبثى بين القضاة والمحامين- مشهدا مرعبا وباعثا على الشعور بالضياع لدى أغلب المصريين. ولا يعرف الكثيرون أن الدول الديمقراطية ليس محظورا فيها أن يمارس القضاة ورجال الشرطة فاعليات الاحتجاج الجماعى السلمى، غير أن هذه الاحتجاجات تتسم بانضباط وتنظيم يمنعها من الانزلاق إلى مستنقع العشوائية، ويعود ذلك إلى أن الديمقراطيات المتطورة تسمح حتى للعاملين فى أجهزة ومؤسسات حساسة مثل البوليس (كغيرهم من فئات المجتمع) بالانخراط فى تنظيمات نقابية مستقلة تدافع عن حقوقهم ومصالحهم وتنظم احتجاجاتهم وتتولى مهمة التفاوض مع السلطات المعنية بشأن مطالبهم، وعندما تصل لحلول وسط مقبولة (لا بد دائما من حلول وسط) تستطيع هذه النقابات أن تفرضها على كل الأعضاء، أى أنها لا تترك أمر تقرير مصير الاحتجاج وزمنه للتطرف والمزايدات المطلبية العشوائية التى تستفحل عادة فى أوساط جمهور المحتجين بما يؤدى إلى تجاهل وعدم مراعاة نقطة التوازن الحرج بين ما يحققه الاحتجاج من مكاسب (ولو جزئية) وما ينتج عنه من مشاعر تبرّم وضيق طبيعيين فى أوساط الرأى العام قد تتطور إلى نفور وكراهية إذا طال تعطيل المرفق الخطير الذى يعمل فيه المحتجون بأكثر مما يحتمل المجتمع، وهو ما يؤدى بدوره إلى تجريد الحركة الاحتجاجية وتعريتها من غطاء التعاطف والقبول الشعبى فيسهل على السلطة هزيمتها وربما سحقها تماما. وبعيدا عن حكاية «المطالب الفئوية» التى يعايروننا بها هذه الأيام ويحدثوننا عنها بجهل وبلادة باعتبارها «عيبا فظيعا قوى جدا خالص وقلة أدب جماعية تمارسها» «فئات» شعبية واسعة لم تحصل على تأديب وتربية كافيين من أهاليها، مع أن وسائل الاحتجاج الديمقراطى السلمى لم تخلق ولم تخترعها الإنسانية أصلا إلا لكى تستخدمها «الفئات» المختلفة وتتوسل بها كأدوات مشروعة للضغط من أجل حماية حقوقها وتحقيق «مطالبها». بعيدا عن هذه الحكاية المملة فإننا فى الواقع نحصد الآن ثمار سياسات إجرامية شجعت النهب واللصوصية وعممت البؤس والفقر على الأغلبية الساحقة من طبقات المجتمع وفئاته، وفى نفس الوقت عمدت إلى مصادرة وتحريم أبسط حقوق التنظيم المدنى الشعبى على أغلب هذه الطبقات والفئات أو تشويه واستلاب المنظمات والاتحادات النقابية التى أفلتت من مرسوم الحرمان العمومى، هذا بحيث أصبحت كلها تقريبا مجرد كيانات صورية و«ديكورية» تقودها وتتحكم فيها جيوش المخبرين والنشالين، وفى ظل هذا الوضع تفاقمت المآسى واستفحلت المظالم فلما انفجرت بعد ثورة 25 يناير بدا انفجارها اعتباطيا وفوضويا يعوزه النظام ويفتقر إلى الرشد والذكاء، ومن ثم ظهر المجتمع المصرى برمته وكأنه فى حالة شجار عشوائى اشتعل فجأة بين «فئاته».. كل فئة تستنكر صراخ وأنين الفئة الأخرى وتعيب عليها خروجها المهرول إلى الشوارع شاكية من الظلم، بينما المسؤولون المتحزلقون وتوابعهم المنافقون ينظرون إلى الجميع بقرف وتعالٍ ويتهمون الشعب كله بارتكاب فاحشة «الفئوية» علنا!!