«يا قاتلي: إني صفحت عنك.. في اللحظة التي استرحت بعدها مني.. استرحت منك.. لكنني.. أوصيك إن تشأ شنق الجميع.. أن ترحم الشجر فربما يأتي الربيع».. كلمات أمل دنقل شاعر القضية، شاعر الحرية، وشاعر الرفض، من قال لا في وجه من قالوا نعم، من اتخذ من يسار الأنظمة منصة له يخط منها بقلمه الحاد كملامح وجهه الصعيدية، أفكاره وفلسفته ومواقفه في لغة شاعرية قادرة على أن تزلزل أركان القضية التي يناقشها وتسقطها أرضًا. إنه الشاعر القدير أمل دنقل الذي تحل علينا اليوم ذكرى ميلاده ال79، نصف تلك الأعوام تقريبًا قضاه "دنقل" في مدفنه بقرية القلعة بمحافظة قنا، بعد أن غيبه الموت عنا في عام 1983، بعد صراع مع المرض، أنهكه فيه أمل بشعره، وانتصر، فمات أمل بمرضه، وبقيت قصائده منارة للحالمين بالحرية، والباحثين عن القضية. بالتأكيد لكل شخص مواقف ساهمت في تكوينه الفكري، وأخرى في نظرته تجاه الحياة، وكيفية رؤيته للعالم، عند أمل دنقل هي قاسية بعض الشيء، فتحكي زوجته الصحفية عبلة الرويني في كتابها "الجنوبي" الذي خطت فيه حكايات عن أمل بعد وفاته: «علمه اليتم الألم والمرار، والظلم أن يصبح رجلا صغيرا منذ طفولته، لم يعرف كيف بالتأكيد لكل شخص مواقف ساهمت في تكوينه الفكري، وأخرى في نظرته تجاه الحياة، وكيفية رؤيته للعالم، عند أمل دنقل هي قاسية بعض الشيء، فتحكي زوجته الصحفية عبلة الرويني في كتابها "الجنوبي" الذي خطت فيه حكايات عن أمل بعد وفاته: «علمه اليتم الألم والمرار، والظلم أن يصبح رجلا صغيرا منذ طفولته، لم يعرف كيف كان يلعب الأطفال في شوارع القرية، ظل أعواما طويلة يرفض أكل الحلوى لأنها في نظره لا ترتبط بالرجولة، اشتهر بين رفاق الصبا بأنه الشخص الذى لا يعرف الابتسامة». أمل دنقل رغم ما عانى منه فإنه كان يواجه كل صعب وقاسٍ بالشعر، وكأنه الرصاص الذي يطلقه في صدر أعدائه، فبعد إصابته بالسرطان، وإخبار الطبيب له بأن المرض منتشر في جسده، بجانب فقره المدقع الذي أضاف مرارة على المرارة، قال لزوجته: لماذا لا أتعامل مع السرطان كشاعر؟! وقد كان. في ديوان أوراق الغرفة رقم 8، وهي الغرفة التي كان يحارب المرض منها بمستشفى السرطان، ومنها قصيدة "ضد من": «في غُرَفِ العمليات كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ لونُ المعاطفِ أبيض تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات الملاءاتُ لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن قرصُ المنوِّم، أُنبوبةُ المَصْل كوبُ اللَّبن كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ. كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ فلماذا إذا متُّ. يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ.. بشاراتِ لونِ الحِدادْ هل لأنَّ السوادْ هو لونُ النجاة من الموتِ لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ ضِدُّ منْ؟ ومتى القلبُ- في الخَفَقَانِ– اطْمأَنْ؟». وفي رائعته الخالدة "لا تصالح" التي كتبها بعدما عقد الرئيس الراحل أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل، نجح أمل دنقل في أن تكون تلك القصيدة أيقونة الرفض لهذه المعاهدة في أرجاء الوطن العربي. «لا تصالحْ ولو منحوك الذهب، أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى، ذكريات الطفولة بين أخيك وبين حسُّكما فجأةً بالرجولةِ، هذا الحياء الذي يكبت الشوق، حين تعانقُهُ الصمتُ -مبتسمين- لتأنيب أمكما، هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟ أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء.. تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟ إنها الحربُ! قد تثقل القلب.. لكن خلفك عار العرب.. لا تصالح ولا تتوخ الهرب». كان دائمًا مشاكسا، فقصيدته "أغنية الكعكة الحجرية" التي نشرها عام 1972 تسببت في غلق مجلة سنابل التي نشرتها ويقول فيها: «أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحةْ أَشهِروا الأَسلِحة سَقطَ الموتُ، وانفرطَ القلبُ كالمسبحَة والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ المنَازلُ أضرحَةٌ والزنازن أضرحَةٌ، والمدَى.. أضرِحة فارفَعوا الأسلِحة واتبَعُوني أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحة». وقصيدته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" التي تعد الانطلاقة الشعرية لأمل دنقل إذ كتبها عام 1969 عقب هزيمة 1967، يقول فيها: «أيتها العرافة المقدسة جئت إليك مثخنًا بالطعنات والدماء أزحف فى معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء أسأل يا عذراء، عن فمك الياقوت، عن نبوءة العذراء، عن ساعدي المقطوع وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكسة، عن صورة الأطفال في الخوذات ملقاة على الصحراء، عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء». وتتجلى فلسفة أمل الشعرية والشاعرية في قصيدته الرائعة «مقتل القمر» التي يحكي فيها أن أهل المدينة قتلوا قمر أهل القرية، وهي قصيدة نثرية يقول فيها: «وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس في كل مدينة قتل القمر.. شهدوه مصلوبًا تتدلى رأسه فوق الشجر.. نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره تركوه في الأعواد.. كالأسطورة السوداء في عيني ضرير ويقول جاري: كان قديسًا لماذا يقتلونه؟ وتقول جارتنا الصبية: كان يعجبه غنائي في المساء وكان يهديني قوارير العطور فبأي ذنب يقتلونه.. هل شاهدوه عند نافذتي قبيل الفجر يصغي للغنا؟!». وفي قصيدته الأشهر "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" وسبارتاكوس هو شخصية واقعية من التاريخ الروماني كان عبدا مملوكا لأحد قياصرة الروم، فتمرد على الأسياد بتأليفه جيشا من العبيد رغبةً في التحرر ولكنه انهزم أمام جيوش القيصر قبل نجاح ثورته، ويتحدث فيها أمل عن الرغبة في التحرر ومناشدة الحرية على لسان سبارتاكوس قبيل إعدامه، يقول فيها: «معلّقٌ أنا على مشانق الصباحْ.. وجبهتي بالموت محنية لأنني لم أحنها حية.. يا إخواني الذين يعبرون في الميدان مطرقين.. منحدرين في نهاية المساء.. في شارع الإسكندر الأكبر.. لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إلىّ لأنكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر.. يا قاتلي: إنّي صفحت عنك.. في اللّحظة التي استرحت بعدها منّي.. استرحت منك.. لكنني أوصيك.. إن تشأ شنق الجميع أن ترحم الشجر لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقا لا تقطع الجذوع فربما يأتي الربيع والعام عام جوع وربما يمر في بلادنا الصيف الخطر يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان.. في انحناء منحدرين في نهاية المساء.. لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد".