كاتبة، ناقدة وباحثة سينمائية . شاركت في تأسيس صحيفة الأسبوع المصرية وكتبت في مجالات عدة بها وشغلت منصب رئيس قسم الفن ونائب رئيس التحرير. (1) يا مال الشام يالله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي (1) يا مال الشام يالله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي لا أستطيع أن أحدد من أي صوب يأتي صوت صباح فخري مجلجلاً بمواله الشهير من القدود الحلبية، بينما كنت أسير في ساحة باب توما المكتظة بالسيارات والبشر، أتلفت حولي لعلني ألمح شيئاً يدلني على مصدر الصوت، أتتبع اللحن المبهج، الحميمي، الصاخب، يتسلل من أحد المقاهي ويتقاطع معه صوت فيروز يخرج من مقهى آخر: "وأنا لا أستطيع أن أحدد من أي صوب يأتي صوت صباح فخري مجلجلاً بمواله الشهير من القدود الحلبية، بينما كنت أسير في ساحة باب توما المكتظة بالسيارات والبشر، أتلفت حولي لعلني ألمح شيئاً يدلني على مصدر الصوت، أتتبع اللحن المبهج، الحميمي، الصاخب، يتسلل من أحد المقاهي ويتقاطع معه صوت فيروز يخرج من مقهى آخر: "وأنا هنا جرح الهوى وهناك في وطني جراح وعليك عيني يا دمشق فمنك ينبلج الصباح". صوت صباح فخري وفيروز يختلطان بجلبة أصوات الباعة والمارة، فوج جماعي يقطع الشارع؛ أفهم من جلبة أحاديثهم أنهم ذاهبون بعد أسبوع الآلام للزيارة والاحتفال بعيد القيامة في كنيسة "بيت القديس حنانيا الرسول"، من أقدم الكنائس في العالم تعود للحقبة الرومانية، وموقعها هنا ما بين باب توما وباب شرقي بالقرب من الشارع المستقيم مدحت باشا، يعبرون ساحة باب توما للولوج إلى الكنيسة في المنطقة التي يقطنها سكان أغلبيتهم من المسيحيين وتكثر فيه المحلات التجارية والصناعات التقليدية الشامية القديمة والمطاعم والمقاهي. توما هو القديس تلميذ المسيح، أطلق اسمه على هذا الباب الذي يقع في الجهة الشماليةالشرقية من دمشق، واحد من أبواب المدينة القديمة، رمزه كوكب الزهرة حسب المؤرخ ابن عساكر، الذي خطَّ "تاريخ مدينة دمشق" في ثمانين مجلداً، راصداً ارتباط الأبواب السبعة بكواكب سبعة، فالشمس مع باب شرقي والقمر مع باب السلام وعطارد مع باب الفراديس والمريخ مع باب الجابية والمشتري مع الباب الصغير وزحل مع باب كيسان. تاريخياً مرت على باب توما حروب كثيرة وحديثاً كان مستهدفاً منذ الأزمة السورية، وحالياً أنا أتجول فيه من زقاق ضيق إلى آخر مدفوعة بلهفة وتوق للمعرفة، تعتريني مشاعر غريبة، دافئة، ملغزة، مفرحة وموجعة أيضاً، ألوذ بحنين جارف يقاوم أسئلتي المدججة بالهواجس والقلق، بينما أتابع تجوالي في الحارات الصغيرة المتعرجة، الرحيمة، المرهفة بحجرها وطينها؛ إذ أتلمس فيها شعوراً بالطمأنينة قد يكون أحد مآثر هذه الحارات بما احتوته وما زالت من حكايات إنسانية تحميها من أن تكون مجرد أطلال محنطة أو خرافة حية. أنسل من الحارات إلى الساحة مرة أخرى حتى أصل إلى أحد الحواجز العسكرية، وحين أسأل أحد المجندين كيف أصل إلى سوق الحميدية، يجيبني قبل وصفه التفصيلي: "مصرية؟! تكرم عينك"، كأنني الآن على كتف فيلم "أحلام المدينة"، أول الأفلام الروائية الطويلة للمخرج محمد ملص (1984 مؤسسة السينما)، أحملق في كل شيء كما الصبي "ديب" في الفيلم، كان يقيس المسافة بين قدمه وبين الوجود بنظرة ليست زائغة أو حيادية وإنما متلهفة على جديد يطرق أبواب مدينته، أحلام تسري فيها وتغير الأحوال. يتسرب صوت محمد قنديل إلى زاوية في مرمى بصري تعيد تكوين المشهد القديم: "وحدة ما يغلبها غلاب تباركها وحدة أحباب/ توصلنا من الباب للباب ولا حايل ما بين الاتنين/ ولا مانع ما بين الاتنين ولا حاجز ما بين الاتنين/ أنا واقف فوق الأهرام وقدامى بساتين الشام"؛ ما يجعلني أستغرق في مشهد نهاية الفيلم، المشهد الذي يلخص الحلم المخبأ فى التفاصيل بعد الانقلابات والانقلابات المضادة في سوريا، حيث كانت هذه هي السمة الغالبة على الحياة السياسية في خمسينيات القرن العشرين، ومع كل انقلاب كان الناس يستمعون إلى البيانات ذاتها التي تهاجم السلطة السابقة وتعد الجماهير بحياة جديدة، لكن عندما أعلن جمال عبد الناصر عن تأميم قناة السويس، متحدياً العالم بأجمعه، أصبح رمزاً للفعل الوطني ومعبراً عن أحلام القوى الوطنية ليس في مصر فحسب، لكن في الوطن العربي كله. فجسد الفيلم الفرح السوري بالنصر المصري، ومن نسق الفرح حضرت النهاية لتوجز الفكرة وتعبر عن لحظة حاسمة في تاريخ سوريا، "لحظة ديمقراطية حقيقيّة دفعتها إلى خيار الانتماء إلى الوحدة مع مصر"، كما وصفها ملص في أحد حواراته، لافتات الوحدة والحشد الشعبي المبتهج يملآن شوارع القاهرة والشام، ثم يظهر الشاب الناصرى المليء بالحيوية وتأجج المشاعر الوطنية أبو النور (أيمن زيدان) وهو ينظر إلى القمر وينادى الصبى "ديب"، ويدعوه لمشاهدة القمر: (بعمرك شفت القمر هيك يا دياب، الله بذاته مع الوحدة)، معتبراً أن نور القمر المكتمل دليل الموافقة الإلهية على الوحدة، لكن لا الوحدة استمرت ولا أبو النور أو أيمن زيدان ابن سنوات الحماسة والمشاريع الحالمة ظل ينتظر منها مدداً، بل صار "الأب" أو "مسافر الحرب" الذي يلهث وراء حلمه القديم المشتهى، منذ بدأت الحرب على الأراضي السورية. (2) مشغولة بسؤالي عما تنتظره هذه المدينة في المستقبل؟ أتابع سيري، خطوة في الحارات والشوارع، وخطوة في الذاكرة والقلب، حتى وصلت إلى ساحة المسجد الأموي بكل ما احتوته من أفواج بشرية تدخل وتخرج من سوق الحميدية وأسواق أخرى تتفرع منه: العطارين والبزورية والذهب وغيرها، نداءات أليفة تأخذني نحو إيقاع أعرفه جيداً؛ لا يختلف عما أعيشه في القاهرة، هنا مر الأوائل ورموز التاريخ، وهنا أيضاً يمر السوريون في الزمن الحالي بكاهل مثقل بأحلام منزوية في أعماق نفوس تهشمت بسبب الحرب، ضاقت بها فسحة الأمل والحلم، واتسعت الأزمة الاقتصادية الشرسة ولم يبق أمامها سوى مقاومة التوحش الجديد أو الانخراط فيه، إنه خطر جديد تتبعه أخطار أخرى وجودية وثقافية هي الأعراض الجانبية، إن جاز التعبير، للحرب. (3) أستكمل طقوس التجوال في المدينة مع صديقي الكاتب والشاعر سامر محمد إسماعيل، راجية أن أخرج إلى هامش أبيض يمكنني فيه التأمل، كما في فيلمه "سلم إلى دمشق" إخراج محمد ملص (2013)، الذي قدم قراءة للمدينة إبان الأزمة السورية، نعبر معا إلى شارع الصالحية من ساحة يوسف العظمة إلى مسرح الحمراء والشهداء ثم حديقة عرنوس والطلياني، كنت قد طلبت من "سامر" أن يصطحبني إلى مقام الشيخ الأكبر "محيي الدين بن عربي"، الصوفي، بحر الحقائق وسلطان العارفين، فإذا بنا في حي الطلياني، حيث يخبرني سامر بأننا على مقربة من مقام آخر وهو بيت المخرج الكبير محمد ملص، وعلى الفور اتصلنا به ودعانا لزيارته أو بالأحرى فرضنا عليه الزيارة فرضاً محبباً. وكما يقول المثل الشعبي المصري "التالتة تابتة"، فإنه في زيارتي الثالثة هذه للشام بدعوة من المؤسسة العامة للسينما لحضور مهرجان سينما الشباب، يتحقق مرادي بزيارة "ملص" بحر السينما الزاخر، أنا من رأى في "أحلام المدينة" حجر زاوية يضبط إيقاع وجداني، أزور الآن صاحب الأحلام، ابن القنيطرة الذي يعيش في المدينة ويصوغ روحها في أفلامه، ترتبك خطواتي وأخبر سامر ألا نكون قد أزعجناه بالزيارة المفاجئة، فيجيبني بالنفي بينما هو يفتش في البنايات عن العنوان الصحيح، فصديقي الشاعر يضيع في شوارع مدينته من فرط تعلقه بها. صعدنا أربعة طوابق، ملص يسكن في الطابق الأخير من حقه كواحد من آلهة السينما، حتى يستطيع أن يراقب الكون من عليائه، أقولها لسامر ثم نضحك قبل أن نصل إلى الباب، حيث كان ينتظرنا ابنه "نوار" والسيدة زوجته "انتصار"، لطيفة، شديدة الكرم، أسرعنا معهما في ممر استقبلنا فيه ملص وانتقلنا إلى شرفته الرحبة، المطلة على جبل قاسيون، جبل له هالته وفتنته؛ يختزن في ثناياه الكثير من الأساطير الساحرة والحكايات الآسرة، كما هذا الرجل الذي يجلس في مواجهتنا، هادئاً، باسماً، لا يتحدث، بينما نحن كنا تقريباً انتهينا من تلاوة كل قواميس الكلام، وحينما سألته عن صمته، أجاب: أنا في الأصل قليل الكلام، ثم تحدث صاحب "أحلام المدينة، الليل، المنام، باب المقام، سلم إلى دمشق"، برقة وعذوبة كثيراً عن السينما وأحوالها وأمنياته لجيل جديد يظهر على خارطة مدينته. (4) يا أيّها المستحيل يسمونك الشام أفتح جرحي لتبتدئ الشمس. ما اسمي؟ دمشق وكنت وحيداً ومثلي كان وحيداً هو المستحيل. «محمود درويش»