كاتبة، ناقدة وباحثة سينمائية . شاركت في تأسيس صحيفة الأسبوع المصرية وكتبت في مجالات عدة بها وشغلت منصب رئيس قسم الفن ونائب رئيس التحرير. يسأل القاضي زين الطفل الذي يمثل أمامه: لماذا تريد مقاضاة أهلك؟ يرد زين: لأنهم خلفوني..! إجابته كالخنجر، تبدو فلسفية، ينعكس أثرها على الوجوه الواجمة قبل أن تنسل جوهريا إلى القلوب الممزقة من الأساس، لولا الأسئلة: هل هذه الإجابة الملغمة بتأويلات عدة هي اختصار بدَهي للواقع المبتلى، التعس، المعدم تقريبا؟ أم هي محصلة لما حاولت المخرجة اللبنانية نادين لبكي أن تبرهنه على طريقتها؟ قبل أن تجمع أشلاء حياة هذا الصغير، القانط، الذي يحمل على أكتافه هموم الفقر والفقراء في "كفر ناحوم"، فيلمها الروائي الثالث، المعروض حاليا في القاهرة، محققا 150 ألف جنيه في أسبوعه الأول، والحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الماضي، والذي شارك كذلك مؤخرا في سباق أوسكار أفضل فيلم أجنبي. هل قدمت "لبكي" فيلما يبين كيف وصل هذا الطفل إلى هذه المحاكمة؟ هل أدركت أن الصغير بطل فيلمها يصلح لأن يكون رمزا لكثيرين أمثاله، ضاعت أقمار طفولتهم وهم يركضون في شوارع قاسية، أطفال ولدوا لأهل نازحين، مهاجرين، فقراء، تزوجوا وأنجبوا أطفالا بائسين هم أيضا؟ هل علمت أن الفقراء مثل كل الناس ينجبون؟ هل، وهو الأهم، استوعبت أن الفقراء المفلسين ليسوا فصيلا اختياريا في هذه الحياة؟ لم يصطفوا العوز والشقاء والضنك، بل وجدوا أنفسهم نبضا ولحما ودما ونخاعا في عظام الفقر، هل فطنت قبل أن تصنع فيلمها، لغياب العدالة الاجتماعية في هذا العالم القاسي الذي لا يرحم الضعفاء؟ يسأل القاضي زين الطفل الذي يمثل أمامه: لماذا تريد مقاضاة أهلك؟ يرد زين: لأنهم خلفوني..! إجابته كالخنجر، تبدو فلسفية، ينعكس أثرها على الوجوه الواجمة قبل أن تنسل جوهريا إلى القلوب الممزقة من الأساس، لولا الأسئلة: هل هذه الإجابة الملغمة بتأويلات عدة هي اختصار بدَهي للواقع المبتلى، التعس، المعدم تقريبا؟ أم هي محصلة لما حاولت المخرجة اللبنانية نادين لبكي أن تبرهنه على طريقتها؟ قبل أن تجمع أشلاء حياة هذا الصغير، القانط، الذي يحمل على أكتافه هموم الفقر والفقراء في "كفر ناحوم"، فيلمها الروائي الثالث، المعروض حاليا في القاهرة، محققا 150 ألف جنيه في أسبوعه الأول، والحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الماضي، والذي شارك كذلك مؤخرا في سباق أوسكار أفضل فيلم أجنبي. هل قدمت "لبكي" فيلما يبين كيف وصل هذا الطفل إلى هذه المحاكمة؟ هل أدركت أن الصغير بطل فيلمها يصلح لأن يكون رمزا لكثيرين أمثاله، ضاعت أقمار طفولتهم وهم يركضون في شوارع قاسية، أطفال ولدوا لأهل نازحين، مهاجرين، فقراء، تزوجوا وأنجبوا أطفالا بائسين هم أيضا؟ هل علمت أن الفقراء مثل كل الناس ينجبون؟ هل، وهو الأهم، استوعبت أن الفقراء المفلسين ليسوا فصيلا اختياريا في هذه الحياة؟ لم يصطفوا العوز والشقاء والضنك، بل وجدوا أنفسهم نبضا ولحما ودما ونخاعا في عظام الفقر، هل فطنت قبل أن تصنع فيلمها، لغياب العدالة الاجتماعية في هذا العالم القاسي الذي لا يرحم الضعفاء؟ كل لحظة تمر في الفيلم، تترجم نظرية "لبكي" نحو الغضب من المدينة التي يعيش على هامشها هؤلاء الفقراء، الأشقياء، الذين تتراكم خطاياهم بدرجة تغشي أعينهم وعقولهم وتجعلهم يتخبطون في الحياة. أرادت أن تظهر تعاطفها معهم، لكنها ركزت على عالمهم المنحوس، هذه المساحة الجغرافية التي ينتمي إليها "زين"، أبرزتها بمبالغة كل لحظة تمر في الفيلم، تترجم نظرية "لبكي" نحو الغضب من المدينة التي يعيش على هامشها هؤلاء الفقراء، الأشقياء، الذين تتراكم خطاياهم بدرجة تغشي أعينهم وعقولهم وتجعلهم يتخبطون في الحياة. أرادت أن تظهر تعاطفها معهم، لكنها ركزت على عالمهم المنحوس، هذه المساحة الجغرافية التي ينتمي إليها "زين"، أبرزتها بمبالغة لا ميزة فيها ولا لعبة فنية، وإنما هي ذريعة تلمح إلى أن ناس هذا العالم هم المسؤولون عن المأساة التي يتزايد حجمها، وتكاد تسحقهم. لم تر "لبكي" قط غياب العدالة الاجتماعية، فالمأساة منزوعة من سياق العالم الأكبر، المتهاوي، غير العادل، الساعي إلى دعس هؤلاء البشر الذين ينتمي إليهم "زين"، الصبي الصغير، المسجون في سجن الأحداث لطعنه رجلا، والذي يشكو والديه لأنهما أنجباه وجلباه إلى هذا العالم، محروما من أدنى مقومات الحياة، لنتتبع مساره من حرمان وشظف عاشهما في قعر مجتمعه، أكثر المناطق حرمانًا وفوضى وعشوائية في المدينة الغليظة، عديمة الإحساس، إلى تعثر مصيره حتى وصل إلى قاعة هذه المحكمة كما قدمها الفيلم، حسب السيناريو الذي كتبه الخمسة: خالد مزنر، نادين لبكي، ميشيل كيسرواني، جهاد حجيلي، جورج خباز، من بطولة: زين الرفاعي (الطفل السوري)، فادي يوسف، كوثر الحداد، يوردانوس شيفراو، بولوواتيف تريجر بانكول (الطفل الإثيوبي). "زين" هو المشرد الذي لا يمتلك أوراقا ثبوتية، حتى إن أهله لا يعرفون عمره الحقيقي، فيضطر لأن يخضع لفحص الطبيب الشرعي ليعلم أنه في الثانية عشرة من عمره، طفل معذب ينتمي لأسرة فقيرة، معدمة، كثيرة الإنجاب، يخرج إلى الشارع كي يعمل ويعينهم إلى حد ما على حالة الجدب التي يعيشونها، يهرب من منزل أهله بعد إرغامهم أخته القاصر (11 عاما) على الزواج بصاحب عمله. في الشارع يتعرف على "رحيل"، عاملة إثيوبية، مهاجرة غير شرعية، لا تملك تصريح عمل وإنما "يوناس" طفل رضيع أنجبته من رجل يرفض الاعتراف به، إذ تصبح هي الأخرى مشردة بلا أوراق، فأورثت حياة التشرد لوليدها ثم تعتقلها السلطات، ليجد "زين" نفسه مسؤولا وراعيا ل"يوناس" في المدينة الشرسة التي تأكل فقراءها، ثم تتسع مساحة القتامة حين يترك ابن الإثيوبية لسمسار بيع الأطفال وتموت شقيقته، فيتورط في جريمة القتل التي أودت به إلى السجن، ثم تخبره أمه بأنها حامل وأنها تتمنى أن تنجب طفلة لتعوض خسارة ابنتها. المفارقة المفجعة التي جاءت في موضعها لتؤكد أن المصيبة والكارثة تأتي من طريقة الفقراء في التفكير، وإصرارهم على إنجاب الأولاد والقذف بهم إلى أقدار مجهولة. إذن، فالمآسي حصر على الفقراء. إن نادين لبكي لا تقولها صراحة وبمباشرة، لكن ببعض التأمل نجد ميلودراما تسلم إلى ميلودراما، فتتوه معها العناوين والفكرة الأساسية عن هؤلاء المساكين على حافة الحياة، والذين تم التعامل معهم بسطحية شديدة لا تناسب واقعيتهم وحقيقتهم الإنسانية، بل بدت في أحيان كما لو أنها تطرح المعادلة السقيمة التي تشترط أنه للقضاء على المرض، لا بد من التخلص من المرضى، وبالتالي يكون عند القضاء على الفقر، لا مفر من تحميل الفقراء أسباب وتوابع فقرهم. هنا، لا يمكن إلا أن نطرح ما الذي يمكن أن ننتظره من السينما تجاه قضية كهذه؟ لعل الإجابة الأكثر منطقية هي ألا ننتظر أعمالا تخبرنا عن الكارثة من وجهة نظر "برانية"، تنظر إلى الأفق المقيد بزاوية أحادية، ولا تقدم شكلا فنيا يتشكل بأبعاد ناقصة، فمهمة السينما لا تكمن في إخبارنا بما نعرفه أو حتى نجهله، ذلك المخفي في ثنيات الهوامش، بقدر ما تكمن في إيجاد شكل فني مناسب للقضية ورؤيتها من كل الجوانب، أو بالأحرى مهمتها ليست المراقبة من مكان آمن، وإطلاق الأحكام الجاهزة، لأنها بذلك ستكون هشة ومنقوصة وصانعة لفراغ فكري لا يتوقف عند حدود الموضوع، بل أيضا يتماس مع الصورة وأداء الممثلين، فقد بدت الصورة في أحايين كثيرة مرتبكة، كما لو كانت المخرجة تسعى من خلالها إلى ترميم تصدعات الحكاية، ومع ذلك تسفر عن مجرد قفزات غير مريحة من مشهد لآخر بكاميرا "كريستوفر أيون"، نفس الشيء ينطبق على الأداء الانفعالي الزائد للممثلين، ومنهم الممثل السوري الصغير "زين الرفاعي" الذي يتأرجح بين موهبته والدور المكتوب، بين الواقعية والميلودراما، من تجسيده طفلا بسيطا يعيش في مجتمع عبثي، إلى طفل مسؤول حمله السيناريو والحوار عبارات تفوق عمره ووعيه، لدرجة تجعلك تتساءل طوال المشاهدة: من أين له بذلك؟! دون أن يصبح طلقة في ضمير العالم، لتخبر الجميع بحقه في الحياة الآدمية، أو يتحول إلى رمز حقيقي لأمثاله الذين يريدون وطنًا من حقهم أن يعيشوا فيه، فالفيلم لم يتماس حتى مع ذلك، وإنما توقف عند حدود الفرجة من الخارج والصورة النمطية لحياة المهمشين والنازحين والمهاجرين، بلا توغل حقيقي في قصصهم وقضاياهم، وعلى هذا الأساس تكون نتيجة المعادلة التي يطرحها الفيلم أن الفقراء أساس كل البلاء، وهي نتيجة لا تشفع لها الموسيقى الجميلة التي وضعها "خالد مزنر" كعنصر أفضل بكثير من السيناريو الذي شارك فيه. كل الطموح السينمائي عند نادين لبكي ينزلق على منحدرات الصورة النمطية عن المهمشين، كما أشرنا، وللخطاب المباشر الذي يدمر الحالة السينمائية ويحولها إلى حالة تلفيقية، غير نزيهة، هذه الحالة دللت عليها أكثر مشاهد المحاكمة بثقلها الحواري الذي لا يعبر عن الواقع بقدر ما يعبر عن خيال صناع الفيلم، كذلك التحول العارم الذي حدث في الجزء الأخير بالفيلم، وبدا خلاله أن قوس قزح بدأ يلون حياة "زين" بمساعدة محاميته (تقوم نادين لبكي بدورها)، فظهر على برنامج تليفزيوني شهير يروي حكايته ويشكو أهله، ثم يرد على القاضي حين يسأله عن ما يريده من أهله: "بدي إياهم ما بقى يجيبوا أولاد". إذن، هذه النتيجة التي يصل إليها الفيلم، ألا ينجب الفقراء، هذا هو الحل الذي يطرحه بسهولة وحماس، ليبرر أن الوجود والفقراء لا يشكلان معادلة سليمة، وأن تكاثرهم يخلق مصدرا للقلق وفقدان التوازن، ولم يمكث ولو قليلا عند نقطة أن الاختلال الذي يشير إليه بحمية أكبر من هؤلاء المساكين. وعلى أية حال فإن هذا التشوش في موضوعات أفلام نادين لبكي موجود بدرجات متفاوتة في فيلميها السابقين "سكر بنات" (2006)، و"هلأ لوين" (2011)، التباس وحيرة من فيلم لآخر لمخرجة تطمح في إيجاد ضفة خاصة تتيح لها التميز، لكنها تبالغ في الأناقة والترف والاستعلاء على الواقع، ما يجعلها أحيانا تقع في فخ النمطية على العكس من جموحها الفني.