كاتبة، ناقدة وباحثة سينمائية . شاركت في تأسيس صحيفة الأسبوع المصرية وكتبت في مجالات عدة بها وشغلت منصب رئيس قسم الفن ونائب رئيس التحرير. يا حبيبي عود لي تاني خلي عيني تشوف مكاني/ قالوا حبي رد قلبي قال بحب الأولاني ... يا حبيبي عود لي تاني خلي عيني تشوف مكاني/ قالوا حبي رد قلبي قال بحب الأولاني ... صوت شادية يتسلل من نافذة الجيران إلى نافذتي، يكسر صخب أصوات السيارات في الشارع الكبير ولا يتداخل معه؛ منذ زمن لم يدخل من هذه النافذة سوى صُراخ "سارينة" سيارات الإسعاف وكونشيرتو "كلاكسات" الأتوبيسات والميكروباصات، يا إلهي! صوت شادية يفيض في هذا الصباح ويرققه، لا يذوب في صراع الأبواق، لا تفسده آلات التنبيه صوت شادية يتسلل من نافذة الجيران إلى نافذتي، يكسر صخب أصوات السيارات في الشارع الكبير ولا يتداخل معه؛ منذ زمن لم يدخل من هذه النافذة سوى صُراخ "سارينة" سيارات الإسعاف وكونشيرتو "كلاكسات" الأتوبيسات والميكروباصات، يا إلهي! صوت شادية يفيض في هذا الصباح ويرققه، لا يذوب في صراع الأبواق، لا تفسده آلات التنبيه بالخارج، بل تهدأ قليلا الحياة المحتشدة بالصياح وتصير فجأة عاطفية، صوت مرح يخرج من نقطة مضيئة في زوايا الكون؛ فيواجه المشهد العام المفخخ بأخبار الحرب، الرعب، العنف، القبح، ويستدرجه إلى إيقاع ذبذبات بهجة تشد إلى الخيال ومطارحه، لا شيء غير الخيال في هذه اللحظة يمكن أن يحقق المطالب العادلة بالفرح في واقع تعس، لا شيء أكثر من صوت جميل يمكن أن يأخذنا إلى مساحة طمأنينة تتقاطع مع هذا العالم المجنون. يا حبيي دق بابي قبل ما يروّح شبابي/ مستحيل يشغلني عنك حد تاني/ مش هييجي أعز منك مهما جاني.. أغنية رقيقة، جميلة، خفيفة وكفيلة ببعثرة الحزن وتغيير المزاج، كما لو كانت توقظنا من النوم لنجد أنفسنا، بدون مبرر منطقي أو مادي ملموس، قد تعافينا من آثار خيباتنا السابقة، هل يحدث هذا بسبب الحلاوة في صوت شادية، الصوت الذي يبدو أنه لا يكترث بالعثرات الاجتماعية والسياسية، ويمارس دلاله ليعلو ويكون نجما مرشدا للمحبين، الحالمين، لبشر عاديين لهم احتياجاتهم الشعورية الطبيعية؟ أم بسبب كلمات فتحي قورة ذات الطابع المرح وحس شاعرها الذكي؟ لربما كان السبب في إيقاع موسيقى السلم الخماسي؟! موسيقى تتجلى بإيقاع مميز كجزء من الثراء الموسيقي في الثقافة الإفريقية عموما، استخدمها منير مراد في لحنه مستعينا بالآلات الوترية والدفوف والطبل والخشخيشة التي تنسق التعدد الإيقاعي، أظن أن هذه التجربة إجمالا ساحرة بكل عناصرها التي تستدعي السرور، والقفز على الواقع بصوته المبحوح من فرط الصراخ والصياح والهياج الفوضوي، إضافة إلى أمر آخر مهم وهو هذا النفس السوداني الذي يتنقل بين النغمات الموسيقية ويحملنا إلى ممرات حميمية، هذا التلاقي المصري/ السوداني من خلال الأغنية المصرية المتوجهة بمحبة كبيرة إلى السودان، إذن فإن التداخل الموسيقي وأداء شادية الذي ازداد دلالا وأفرد حيزا أوسع للتواصل، جعل الموسيقيين يشدون أوتار آلاتهم والخشخيشة تتطاير نغماتها وصوت شادية يزداد اشتعالا: يا حبيبي كتير واحشني وكلام الناس حايشني/ والحياه قدامي بعدك شكل تاني/ واللي راح من عندي عندك راح ما جاني. "يا حبيبي عود لي تاني" حكاية في حد ذاتها، فقد صُنعت خصيصا لتؤديها شادية في حفل بالخرطوم تحيةً للشعب السوداني في العام 1960، غنّت بالفعل وقدمت 6 حفلات في أسبوع واحد، في إحداها شدت بأغنية "أحب الوشوشة" كلمات حسين السيد وألحان رياض السنباطى، "القلب معاك" كلمات فتحي قورة وألحان منير مراد، "لأ يا سي أحمد" كلمات سيد مرسي وألحان محمد فوزي، وغيرها من أغنياتها الشهيرة في حفل كبير؛ حيث احتشدت الصالة بالجمهور السوداني، واستهلته شادية بإهداء أغنية لفتاة سودانية مريضة قائلة: "أنا دلوقت هقدم أغنية لآنسة، اتعرفت بها هنا في الخرطوم، وهي آنسة لطيفة جدا، وأتمنى أنها تكون جنب الراديو بتسمعني، كما أتمنى لها الشفاء العاجل"، هذه اللفتة الطيبة من شادية كانت قد كللتها بزيارة الفتاة بمصاحبة الإذاعية الكبيرة، الراحلة سامية صادق وبرنامجها الشهير "حول الأسرة البيضاء"؛ كانت الفتاة "نون" ملازمة مقعدها المتحرك، عاشقة لصوت شادية وأمنيتها أن تراها؛ ولما حدث وراحت لها شادية؛ غنت لها بدون موسيقى: إن راح منك يا عين، آلو آلو، وأغنيتنا يا حبيبي عود لي تاني؛ الأغنية التي استعادها محمد منير وقدمها في ألبومه "من أول لمسة" (1996). كانت حفلات شادية في الخرطوم جزءًا من مد الجسر المصري/ السوداني في مرحلة حاسمة في تاريخ المنطقة، بموازاة حركات التحرر والمد القومي، ومن هذا المنظور تعددت حفلات المطربين المصريين، وفي مقدمتهم أم كلثوم التي أقامت حفلين في مسرح أم درمان لدعم المجهود الحربي عقب نكسة 1967، ارتدت خلالهما الزى السودانى وغنت هذه ليلتى، الأطلال، فات الميعاد، وفي أثناء هذه الرحلة كانت قد التقطت قصيدة "أغدا ألقاك" للشاعر السوداني الهادى آدم، وغنتها لاحقا من ألحان محمد عبد الوهاب. إذا كانت "يا حبيبي عود لي تاني" علامة بارزة في رصيد شادية الغنائي، بما احتوته من مزج مصري/ سوداني؛ فإنها قد سبقتها بتجربة أخرى في فيلم "بشرة خير" إخراج حسن رمزي، والذي عُرض في أبريل 1952 أي قبل قيام ثورة يوليو بثلاثة أشهر تقريبا، كما لو كانت نبوءة الثورة يبشر بها فيلم رومانسي بسيط، غنت فيه شادية أغنية "النيل" من تأليف جليل البنداري وألحان حسن أبو زيد: "يا جاي من السودان لحد عندنا/ بالتمر من أسوان والقلة من قنا/ يا نعمة من السودان بعتها ربنا/ ومن عمر الزمان وأنت بقلبنا"، وفي نفس الفيلم شاركت مع ثريا حلمي في أوبريت "مصر والسودان"، تأليف السيد زيادة وألحان حسن أبو زيد، حيث مثلت الحضور المصري، بينما مثلت ثريا حلمي الحضور السوداني، وهو أوبريت يستنهض الهمة ويسعى لتأكيد الأخوّة بين الشعبين المصرى والسودانى، وضرورة كسر الحواجز بينهما في مواجهة العدو، تغني شادية: هيا سودان يا أخت الحمى / فلنعش حرين أو نرضى الفناء.. وترد ثريا حلمي: أيها التاريخ سجل أننا/ قد سئمنا أن نرى ما بيننا/ شبحا يفرقنا عن بعضنا.