أشرت بالأمس إشارة عابرة إلى عشوائية واضحة طبعت خلطة التعديل الوزارى الذى أدخله الدكتور عصام شرف بالعافية على حكومته (يكفى تأمل الأنباء المتواترة عن تعيينات تتم وتعلن يجرى التراجع عنها بعد ساعات)، وأشرت كذلك إلى السادة المجهولين الذين لم يسمع أحد بأسمائهم قبل إعلان دخولهم تلك الخلطة الوزارية. وبالطبع فإن فقر الصيت والشهرة ليس فى حد ذاته دليلا على السوء أو عدم الاحترام، لكنه دليل قطعى على انخفاض (حتى لا أقول انعدام) العلاقة بالسياسة، والغربة عن المجال العام، وهو بدوره أمر يثير تساؤلات مندهشة عن فهم ومفهوم الدكتور شرف لموضوع الوزارة والحكومة وخلافه، والتصور الراقد فى رأس سيادته للمنصب الوزارى وما إذا كان يرى أى فرق بين الوزير والموظف، مع كل الاحترام للأخير طبعا. نعرف أن معالى الدكتور عصام شرف نفسه (شفاه الله ومتعه بالصحة والعافية) نموذج للعبور إلى المنصب الوزارى ومنه إلى المجال العام (ثم ميدان التحرير أخيرا) من بوابة البروز الأكاديمى لا السياسى عندما عين عضوا فى إحدى وزارات الأستاذ المخلوع. غير أن هذا الوضع كان يليق بنظام حكم عائلى ديكتاتورى فاسد سمته الأساسية احتكار وتركيز السلطة والثروة كلها تقريبا فى يد حفنة معزولة ترقد فوق قمة هرم الحكم، ومن ثم فهى لا تحفل ولا تحتاج إلى مؤسسات وحكومات بجد ولا وزراء حقيقيين، تحتاج فقط إلى جيوش من المباحث والمخبرين وموظفين وقطعان حرامية وسكرتارية للعائلة، ثم كان الله بالسر عليما. أما بعد الثورة التى يفترض عقلا أنها أسقطت كل هذا الركام إلى الأبد فليس معقولا أن يبقى هذا المنهج الشاذ نفسه هو الحاكم والمتحكم فى تأليف حكومة مهمتها الوحيدة تنفيذ المهام العاجلة للتحول الثورى من التخلف إلى التقدم ومن التصحر السياسى إلى التفاعل والحيوية السياسية ومن الديكتاتورية وحكم الفرد والأسرة إلى حكم مؤسسى ديمقراطى رشيد. ولعل من المفارقات الطريفة فى هذا السياق المحزن أن إعادة تشكيل وزارة شرف وفقا لهذا النهج العجيب جاءت فى سياق احتجاجات صاخبة ومطالبات ملحة بتمكين الحكومة الجديدة من اختصاصات وسلطات حقيقية! «الاستوزار» على الطريقة القديمة ليس مصيبة واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثا، إنما هو باب لمصائب لا أول لها ولا آخر كابدها المصريون وتجرعوا من كأسها المسمومة سنين طويلة قبل أن يفجروا ثورتهم، منها على سبيل المثال تحويل المنصب الوزارى إما إلى مكافأة نهاية خدمة وإما إلى وسيلة ترق وظيفى أو صعود طبقى وفتح مجالات جديدة للرزق على نحو ما كان يحدث أيام المخلوع بعدما اخترع نجله منهج استوزار التجار كل فى الوزارة التى تختص ب«بزنسه»، فرأينا تاجر السيارات وزيرا للعربيات ومن يتاجر فى صحة المصريين وزيرا لصحتهم، وبياع الشوربة وزيرا للصناعة.. إلى آخر القائمة السوداء المشهورة. هذه المصيبة الأخيرة بالذات بدا أنها تسربت (من بوابة المنهج إياه) إلى حكومة الدكتور عصام شرف المعدلة إذ عادت ظاهرة الوزراء التجار مرة أخرى بالسلامة تلوث صورة الحكم، آية ذلك أن واحدا على الأقل من الأعضاء المجهولين يحمل صفة «رجل أعمال»، وقد جرى تعيينه فى وزارة مناسبة جدا لتجارته! هذه العودة غير الحميدة أرجو أن لا تكون إحدى الوسائل المبتكرة لإقناع المصريين بنسيان ثورتهم وحضهم على العودة إلى ركوب »بسكلتة» الإنتاج.. إنتاج البؤس والتخلف، والاكتفاء بغناء أنشودة «ظلموه»